مؤشر السلام العالمي يصدر سنوياً. وقد صدر هذا العام 2015؛ بنتائج أكدت تغييرات في ترتيب دول العالم بحسب مستوى عنايتها بقضية السلام من عدمها.. حيث تحسنت مواقع حوالي 81 دولة فيما تراجع تسلسل حوالي 78 دولة أخرى. المهمة الأساس لهذا المؤشر أنّه يصنف تسلسل دول العالم في ضوء معايير بعينها تبحث عن درجة تمتع كل بلد بالسلم الأهلي وبالأمن الداخلي والاستقرار.. وعمدة تلك القراءة وما يحددها يتمثل باستطلاعها جداول الإنفاق العسكري ونسبته إلى إجمالي الناتج القومي وحالات الاتجاه إلى عسكرة المجتمع من قبيل رصد سعة انتشار الميليشيات والعناصر التي تمارس أفعالها خارج سلطة الدولة وفوق القانون ومن ثمّ تحديد درجة تلك الجرائم ومقدار سطوتها في الشأن العام إلى جانب قياس درجة انتشار الخوف والقلق من التهديدات العنفية باختلاف مصادرها، فضلا عن مقدار خلو البلد من النزاعات ومن الجرائم ومعدلات القتل والانتحار وسعة انتشار الإرهاب وأشكال الاحتراب وأشكال تداول الأسلحة والانفلات الأمني من عدمه..
لقد أدرج مؤشر السلام العالمي هذا العام قائمة تضمنت 162 بلداً، وحلّت في تلك القائمة من حيث التسلسل، البلدان الأوروبية بين أول 30 دولة في الترتيب العالمي. إذ جاءت آيسلندا في المرتبة الأولى بين بلدان العالم، حيث تمثل أكثرها تمتعا بالسلام، تلتها حسب التسلسل: الدنمارك، النمسا، نيوزيلندا، سويسرا وأوروبيا تراجع موقع فرنسا بسبب هجمات شارلي إيبدو، بعكس اليونان التي شهدت ارتفاعا في التصنيف بـ (22) درجة على الرغم من التدهور الاقتصادي والأزمات التي تمر بها..
فيما قبعت مجدداً دول تتسم بالفوضى والانفلات الأمني وبالأعمال الإرهابية والحروب الميليشياوية في ذيل تلك القائمة. فقد احتلت سوريا المرتبة 162 فيما احتل العراق المرتبة 161 بفارق درجة واحدة عن ذيل القائمة..
وفي وقت تم إنفاق ما مقداره 13% من الناتج القومي العالمي على الحروب كانت دول مثل سوريا والعراق تنفق أضعاف هذه النسب عليها لتطيح بالأوضاع المعيشية لمواطنيها وتجعلها أكثر تراجيدية عبر مزيد من تفاقم مشكلات البطالة والفقر فوق ما هي عليه بسبب تعطل الدورة الاقتصادية لتضيف حال التفرغ لظواهر العسكرة ومعالجة الواقع الأمني المضطرب على حرائقها مزيداً من زيوت الاشتعال!
وهكذا فإنّ الأخطر في معطيات المؤشر العالمي للسلام يتجسد في تنامي الميزانيات العسكرية في العراق وفي تفاقم الانفلات الأمني وشموله ميادين جديدة فيه، مع تصاعد نجم الميليشيات ودخولها في نسيج البنى المؤسسية التي توجِّهُ الحدثين الأمني والمعيشي في العراق! وتؤثر أكثر فأكثر في القرارات الحكومية العليا..
كما أن مزيداً من الضحايا يسقطون يوميا ليس بفعل جرائم الإبادة وجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها قوى الإرهاب الميليشياوية حسب بل بسبب فتك الأمراض والأوبئة والتلوث البيئي وبسبب تفاقم حالات اليأس والاحباط ومن ثمّ الإقدام على الانتحار وأيضا ما سجلته ظواهر القتل لأسباب اجتماعية كالثأر والانتقام وكما جرائم تُسمى غسل العار التي يجري التستر عليها من بعض الأطراف المجتمعية والرسمية بحجج بعضها يُنسب إلى القانون وأحيانا التحايل عليه.
وفي ضوء التدهور الاقتصادي واتساع ظاهرة الفقر أفقيا وعموديا وتعمق أزمة البطالة صار القلق أكثر حدة وتحول إلى درجة من الخوف والهلع بشكليهما المرَضيَّيْن.
إن قضية السلام ليست حصراً بطابع الانعكاس في العلاقات بين الدول واستخدامها العنف في علاقاتها من عدمه.. ولكنها اليوم باتت تُقرأ بمعايير أشمل وأكثر عمقا في المجتمعات المعاصرة الحديثة.. وبهذا الشمول والاتساع في معطيات قضية السلام وأسبابها فإن قضية السلام تمس أول ما تمس في المجتمع النساء والأطفال بوصفهما القرابين الأولى للعنف الهمجي بكل وحشيته وعدوانيته وتمس المواطنين جميعا على وفق درجة فاعليتهم وإيجابيتهم أو تنحيهم وسلبيتهم… الأمر الذي يتطلب وعيا وتنويراً عندهم جميعا وكافة؛ للمشاركة بفاعلية أكبر بمهام التصدي للحروب والصراعات والنزاعات ومحاولة إشاعة الأمن والاستقرار والسلام…
إنّ ظاهرة وقوع العراق في التسلسل الأسوأ بين المؤشرات التي تشير إلى البلدان الأكثر فشلاً والأكثر فساداً والأكثر عنفاً والأكثر جريمةً والأكثر فقراً والأكثر تعاسةً والأقل سلاماً والأقل أمناً والأقل سعادة ًوالأقل نزاهةً والأقل إيجابية، إنَّ ذلك يجب أنْ يجعلَ العراقيين أمام مراجعة نوعية جوهرية لأدائهم ومواقفهم تجاه أنفسهم ليكونوا أكثر إيجابية وفاعلية في تغيير المشهد..
ولقراءة الأمر بوضوح فعليٍّ عمليِّ فلنرصدَ نمو الأزمات التي تطحن اليونانيين وهم لا يملكون ثروة كالتي يملكُها العراقُ وطناً، فاليونانيون على الرغم من تلك الأزمات العاصفة، يتقدمون بمقاييس ومؤشرات الإيجاب بخاصة مع تصديهم ومحاربتهم للفساد بمظاهرات ملأت شوارع المدن وساحاتها حتى جاؤوا انتخابيا بمن يلبي لهم برامج جدية تعالج أزماتهم وجراحاتهم. ويمكن، طبعاً، رصد نماذج أخرى وقراءتها بذات الاتجاه والدلالة؛ وهي بالعشرات، جميعها تؤكد أنّ وعيَ المواطنِ وثقافته وتفتح منطقه وعدم إيكال مصيره وقراره لزعامات الطائفية السياسية ومرجعية منطق الخرافة، هو أول طريق التغيير ليكون مواطناً يصنع وجوده ويؤنسنه ليستحق الحياة الحرة الكريمة.. والمواطن بتلك الدول كما اليونان، يدرك أنَّه إذا بقي يضع صوته في خانة أو أخرى بـ(سلبية)، كما يجري أحيانا من بعض المواطنين في العراق، فإنّ تلك (السلبية) تجعله عرضة لأبشع أشكال الاستغلال وتحيل المواطن إلى مجرد أضحية وقربان لمصالح أو مآرب الفاسدين وإرهابهم الفكري السياسي، العقيدي والعنفي، الدموي التصفوي..
إذن، فوقوع العراق في خانة متدنية سيئة في المؤشرات التي تستطلع الأوضاع الفعلية لكل بلد ومقارنته بأوضاع الأمم والشعوب والدول الأخرى يأتي بسبب أولئك برامج فشلت فشلا ذريعا في إنقاذ السفينة التي تكاد تركس في قاع الكارثة! وبسبب سطوة ثالوث الطئافية الفساد الإرهاب على الأوضاع العامة وأسرهم الدولة والمجتمع رهينة بأيدي أوباش العصر ومجرميه!!؟
لقد حكم السيد المالكي العراق أطول مدة في العقد الأخير وأطلق مختلف الفرص لخطاب مقيت يعتمد منطق أن العراق والسلطة فيه غنيمة يتناهبها مع رفقته من الطائفيين وفتح البوابات واسعة لسطوة الميليشيات وبلطجتها! وهو القائل: “أخناها وبعد ما ننطيها” وهو القائل: “المعركة بين جيش يزيد وجيش معاوية” في إمعان لتقسيم المجتمع العراقي بين خندقين محتربين! وعاد ليؤكد فكره الطائفي السياسي ليطلق صرخة طائفية جديدة بقوله: المعركة اليوم ضد سنّة يثورون على الشيعة!!” ولنتذكر أنه بظلال سلطته اندلعت معارك التصفيات الدموية الأبشع بين جناحي الميليشيات الطائفية سنة 2006 بكل مآسيها.. وها هو يواصل نهج الضغط باتجاه إشعال مزيد احتراب في المجتمع العراقي!!
إنّ خطاب الطائفية هو من أسس لخطاب الغنيمة والمحاصصة وأوقف إعادة الإعمار مثلما عطَّل الدورة الاقتصادية فخرّب الصناعة والزراعة وأباد غابات البلاد بخاصة منها غابات النخيل والأشجار المثمرة وأنهى أية إمكانية للمحاصيل الاستراتيجية! وخطاب الطائفية هو من أسس لمافيات الفساد وتركها تنمو عندما صنعة طبقة الكربتوقراط [أي طبقة الفساد] ليتحول بالنظام العام من نظام عراق ديموقراطي فديرالي إلى نظام طائفي كليبتوقراطي [نظام الفساد] وبهذا لم يكتفِ بقمع فئة أو أتباع دين أو مذهب بل همّش جناحي العراق الفديرالي وحاصر ركنها المكين وما زال يفرض حصاره على كوردستان بمحاولة منه ليجعل من كل مكونات الشعب ومن كا أقسام العراق الفديرالي خاضعة لمركزية فساده وبرامجه الفاشلة!
وطبعاً في ظروف كهذه هيَّأ التراجع الشامل لانهيار الدولة ومؤسساتها بمناطق عديدة ليتركها نهباً للفوضى ولقمة سائغة لقوى الإرهاب المتربصة فاقتطع ثلث مساحة البلاد من جسم العراق الفديرالي ليضعها بين يدي الدواعش من ميليشيات المرتزقة والتكفير والطائفية!
تلكم هي قاع الهاوية التي فضحتها سنوياً وتواصل تعريتها مؤشرات دولية تتنافس فيها الأمم والدول كي تكون بوضع أفضل فيما العراق يتراجع مع استمرار سطوة خطاب الطائفية وبرامجه في إدارة نظام يقوم على المحاصصة الطائفية وعلى آليات فساد [كليبتوقراطية].
فهلّا تفكرنا بهذه المؤشرات التي تشتغل بمنطق العقل العلمي؟ وهلّا استفدنا من دلالاتها ومعانيها؟هلّا تذكرنا أنّ بلدان العالم لا يمكنها أن تستقبلنا لا فرادى ولا مجموعات.. وأنّ الحل ليس بهروبنا من وجودنا ومن هويتنا فالإنسان لا يخرج من جلده ولا يعيش خارج بدنه ووجوده الحي.. لكنّ الحل يكمن فينا وفي خياراتنا وفي أنْ نغيِّرَ ما بأنفسِنا كي نغيِّرَ بيئتنا ونظام وجودنا فنبنيهما لخدمة مطالبنا وحقوقنا وحرياتنا، وليس لتلبية مطامع من ينهبنا ويصفي وجودنا!!
إنَّ إجابة تساؤلات هذه المعالجة وما تدعو إليه من بديل موجود عند كل مواطنة ومواطن.. عند العراقيات والعراقيين أصحاب المصلحة والقضية.. وإذا كان من يتجكم ببغداد قد فشل بمسيرة تأمين السلم الأهلي بيئة لإطلاق خطى التقدم والتنمية فإننا جميعاً معنيون بالتغيير.. وبصنع عراق ديموقراطي فديرالي بكامل حقوق مكوناته ومواطنيه حقوقاً وحرياتٍ ومطالب حياة حرة كريمة…
وبإيجابيتنا فقط سنكون بمؤشرات تجسد إرادتنا وخياراتنا وطبيعة نظامنا.. فلنغادر معا وسويا زمن السلبية وتسليم أمورنا لقوى الطائفية وبلطجة ميليشياتها ولنحيا من أجل وجودنا وتأمين حيوات بناتنا وأبنائنا…