في المجتمعاتِ المتقدمة، يكون الاستقرارُ واحترامُ القانونِ الأسَّ الجوهريَّ الرئيسَ لبناء الدولةِ وآليات إدارة الحياة بعقد اجتماعي شامل، يُجسِّدُ مطالبَ المواطنين في المساواةِ والعدل وفي تلبية الحقوق وضمان الحريات كافة. ومن أجل ذلك فلا يد فوق يد الدولة و\أو فوق بنية الوجود المدني الإنساني المنظم بالقوانين الدستورية، المكفول بحصر القوة، المسلحة منها تحديداً، بيد الدولة ومؤسساتها ممثلة بقوى الأمن الوطني المؤسسي أو بالداخلية والجيش حيث لكل منهما أدواره المحدَّدةُ المرسومة بدقةٍ لا يمكنُه تجاوزها أو ممارستها خارج الصلاحيات المقيَّدة بالقانون…
ومجتمعياً تأتي ولادة الميليشيا بظروف تفكك الدولة وانهيار مؤسساتها أو على أقل تقدير هزال قدراتها على ضبط الأوضاع وتنفيذ سلطة القانون. وبذات الوقت يكون وجود الميليشيا سبباً في مزيد إضعاف بنى الدولة. وكي لا تختلط الأوراق في هذه المعالجة الموجزة السريعة يجب الفصل بين حركات التحرر “الوطني” و”القومي” وبين المقصود بمصطلح ميليشيا المستهدف بمعالجتنا. فالأولى تولد للتعبير عن درجة تخريب لبنى الدولة والأداء القانوني الضامن لحقوق الإنسان وحرياته ومن ثمّ فهي محاولة للدفاع عن تطلعات شعب في الانعتاق والتحرر وإنهاء حالة استعباد أو استعمار أو سلطة استبداد فرّغت مؤسسات الدولة من مهامها ومضامين وجودها.
أما الميليشيا فتعريفها يتجه اتجاهاً آخر ينتسب إلى منطق الانفلات الأمني ما يدفع باتجاه حاجة للحماية من تهديدات عنفية ناجمة عن تمزق المجتمع واستشراء ظواهر الانقسامات بأسس تشكيلات وتنظيمات ما قبل الدولة الحديثة المعاصرة. إنّ الميليشيا هي مجموعة مسلحة منهجها المعتمَد هو ممارسة العنف ولغة التهديد والبلطجة لإرهاب الآخر وإخضاعه لسلطتها أو إرادتها ومآربها.. ولهذا فهي وجود يمارس أعمالا عنفية خارجة على النظام العام تجري بارتكاب أفعال يجرّمها القانون وهي أي الميليشيا تستغل آلية محاربي العصابات مدفوعي الأجر أو ما يسمى أحياناً المرتزقة.
إنّ هيكل الميليشيا يقتضي حال الانضباط العبودي الانتحاري مقابل الأجر الاستثنائي وربما كان من بين حال فداء السيد الذي يقودها ناجم عن عقيدة تتسم بطابعها الفاشي أو الاستبدادي الذي يطغى على كل المعاني الإنسانية ويستلب وجودها بالمطلق! وهذا ما يجعل الحال العدائي تجاه الآخر يذهب إلى أقصاه. فلا يكتفي بالإلغاء المعنوي لذاك الآخر بل يعمل على تصفيته الجسدية بأبشع الممارسات الهمجية!
ربما تبدأ الميليشيا بحلقات الحماية الفردية لبعض زعماء الأحزاب الشمولية الاستبدادية التي تقوم على عقيدة النخبة المصطفاة بخاصة منها تلك التي تدعي كونها المختارة إلاهياً بإسقاطات دينية التمظهر وهي بالضرورة هنا ترتدي جلباب الطائفية حيث الفرقة الناجية كما تدعي في كونها المعبر الحصري عن مقولات الفكر الديني وتتحول تلك الحماية الشخصية إلى مستوى من نشر سطوتها وبلطجتها بالاتساع عن الفئة الملتفة حول تلك الشخصية ثم تصطدم بمنافيسها لتتحول إلى هياكل أكبر لكنها بالمحصلة لا تغادر أسلوب حرب العصابات والأداء المسمى (البلطجة) في المفهوم المجتمعي…
إنّ أشكالاً متعددة لولادة الميليشيا تجري فعليا ليس من بينها النضال السياسي الوطني والقومي التحرري. لأنّ ذاك النضال حتى بصيغته المسلحة لا يعتمد نظام المرتزق المأجور ولا نظام البلطجة. لأنه جوهرياً يعتمد أسساً وآليات وبرامج عمل مختلفة نوعياً. صحيح يبقى العنف موجودا فيه إلا أنّ العنف الموجه لتغيير النظام الاستبدادي ببديل ديموقراطي ينتهي بانتهاء الطاغية ليبدأ مشروعاً بنيوياً بديلا للعنف هو المشروع السلمي المكفول بسلطة دولة مدنية وقوانينها وتشكيلاتها وآليات الضبط والربط فيها.. بخلاف العمل الميليشياوي الذي يعتمد الغنيمة ويستمر باختلاق أسباب الصراع وتصفية الآخر وحشياً وعدم الاعتراف بحقوقه وبالمساواة جوهرا للوجود الإنساني الآمن المستقر.
إنّ فكرة الميليشيا تحيا باستمرار بوجود أسباب الارتزاق التي تتنافى وزرع القيم الوطنية وجوهرها الإنساني لذا تعمد إلى تعزيز الانقسام بكل أشكاله وعراقياً أول أشكال الانقسام الذي تفرضه الميليشيات بسطوتها هو ذو الطابع الطائفي حيث تستغل تعدد مذاهب أتباع الدين الواحد فتفرض تمترسهم في خندقين محتربين باعتماد المقولات المزيفة التي يزرعونها ليحصدوا التناقض الموهوم ذاك التناقض الذي يوفر أرضية الاحتراب ومن ثمّ بحث المواطن المبتلى عن الحماية في ضوء وضعه قسراً وبالإكراه في خانة طائفية بعينها..
ويعمد سياسيو الطائفية وأصحاب المصلحة باستمرار وجود الميليشيا لإفقار المجتمع. فحتى في بلد غني بثرواته كما العراق، يجري تحويل الميزانيات المهولة لتلك الثروة إلى ميزانيات تشغيلية لا استثمارية مع تعطيل المشروعات بصيغ النهب والسلب بأعلى أداء لنظام الفساد فيختلقون طبقة [كريبتوقراطية] أي طبقة تعتاش من الفساد وتتطلب الحماية من قوى مسلحة فوق سلطة الدولة والقانون وفوق القضاء والعدالة، تلك الحماية التي يريدونها لما اكتنزوه من غنائم بطرق غير قانونية غير مشروعة.. وهذا لا يتوافر إلا بوجود الميليشيا المنظمة بحجم نوعي يمكنه أن يبتز المجتمع المدني وعقده الاجتماعي..
على أنّ هذا لا يكفي لوحده كي يؤدي لوجود الميليشيا بل يتطلب الوضع عسكرة المجتمع. والعسكرة أما تكون في نظام استبدادي فردي يخدم الطاغية المتحكم بكل خيوط الوضع أو في نظام تسوده الفوضى والانفلات والهشاشة وإضعاف سلطة الدولة الضامنة للعدل والمساواة ولحقوق المواطنين وحرياتهم. وفي ظل هذا الوضع يكون موضوع عسكرة المجتمع قائماً على الميليشيات العنفية المسلحة.
ومن أجل تشكيل تلك الميليشيات يجري استغلال ظاهرتي الفقر والبطالة من جهة وظاهرة الفساد من جهة أخرى لتأجير العناصر وتنظيمها بطريقة التنظيمات الفاشية الانتحارية. مستغلين الحاجة للمال من جهة والحاجة للتعبير عن الذات ولكنه التعبير الذي يسوقونه بطريقة يشكلون بها وعي الفتية والأحداث [الأطفال المغرر بهم] بما ينسجم ومآرب العسكرة واستغلال آليات العنف في العلاقات المجتمعية.
ولهذا كله فالميليشيات مجموعات عنفية (دموية) تشكل السبب الرئيس بإحداث الفوضى ونشر الجريمة وخرق القانون وبسلسلة التعاقب السببي تتسبب في تعطيل العمل المؤسسي للدولة لتصادر كل حقوق الإنسان حتى حقه في الحياة عندما ترى في الإنسان هدفاً أو صيداً للقتل والتصفية الجسدية..
إنّ الظاهرة الميليشياوية تفرز جملة ممارسات تتسم بأداء نتيجته شرذمة الوضع المجتمعي وتفكيكه بين دوائر مغلقة ربما تتسع لتتشكل كانتونات تنفصل بسبب عمليات التطهير العرقي الطائفي أو أي ذريعة أخرى مختلقة لإثارة الصراعات التناقضية التي تشرعن الوجود الميليشياوي.
وكي تستمر الحال الذرائعية لوجود الميليشيا تتوالد القيم الانتقامية الثأرية وتتضخم ويجري مفاقمتها لمزيد من التمترس خلف البطولات المتوهمة للعنف الميليشياوي. ومن أجل إرهاب الآخر تبيح الميليشيا لنفسها أعمالا تتنافى وأية قيمة أخلاقية فاعتماد الثأر والعمى القيمي ومفهوم الغنيمة وإلغاء الآخر بضمن ذلك حقوقه وإنسانيته تدفع لارتكاب الموبقات من قبيل الاختطاف والابتزاز والاغتصاب والنهب والسلب لتتوّج بالقتل والتصفية والتمثيل الأبشع بالآخر بأسلوب وحشي همجي تقتضيه أفكار إرهاب الآخر وإخضاعه لسطوة هذا الطرف الميليشياوي أو ذاك..
وبتأجيل مناقشة تبرير جرائم العصابات الميليشياوية بالثأر وبالغنيمة وبغيرها مما مرّ ذكره، فإن إشكالية نظام الحكم ومحاولة فرض التبرير السياسي القائم على اصطناع الانقسام الطائفي والحكم باسم الطائفة يلغي تماماً آليات الحكم بقوانين الدولة المدنية وبالآليات الديموقراطية التي تقتضي الكفاءة والتخصص والمهنية وتعطل كل ما يخدم النظام الإنساني الأمثل لإدارة العلاقات بين المواطنين بأسس المساواة واحترام إنسانية المواطن وحقوقه وحرياته.
والاستمرار في هذا النهج سيسمح بشرذمةٍ تضعف قدرة الدفاع عن السيادة خارجيا أي تجاه سطوة القوى الإقليمية والدولية بضمنها مجموعات المافيات والقوى الإرهابية الخارجة على النظام الدولي كما مجموعات الدواعش الإرهابية.. وسيسمح هذا النهج بإضعاف الدولة ومنعها من حماية السيادة والحقوق داخليا فتمارس نهج الصراعات القبلية على موارد العيش واقتسام الغنائم مثاما نظام المحاصصة الطائفية في اقتسام الغنيمة…
وداخليا تدفع الأوضاع المفتعلة الى مزيد انتساب للميليشيا أو الخضوع لها وطلب حمايتها ودفع الأتاوة بطرق مباشرة وأخرى غير مباشرة ومعقدة ولعل قوى الطائفية تستحصل أتاوتها بمنهج فساد ومحاصصة في الدولة وبمنهج فرض تبرعات وجباية خاص بها ونهب حتى أموال يستودعها بعض مؤمنين لصالح جهات دينية وهي بحقيقتها ضرائب خارجة على قوانين الدولة ونظامها الضريبي المعاصر.. الكارثة هنا في حجم السيولة المالية وما توفره من فرص القوة لتلك البلطجة وعنفها المسلح!
وإذا اختزلنا مناقشة مصادر أموال الميليشيا ومصادر تسليحها المحلية منها والأجنبية فإننا يمكن أن ننتقل لتوكيد أنّ وجود الميليشيا قد يوفر لفئة جد محدودة انتعاشاً طفيليا فاسدا في ريف السماوة يشكلون أقل من 11% من تركيبته فيما يتم سحق أكثر من 89% من مجتمع السماوة! وهكذا يكون ما يتوافر لهذي الفئة المحدودة سبباً منهجياً خطيراً يصادر الحقوق والحريات كافة، وهو أيضاً يبقى سببا رئيسا في عشرات أوجه التخريب والتدمير للدولة المدنية ولإيذاء المجتمع برمته ولوجود الفرد وإنسانيته، يصل الأمر حدّ امتلاك الميليشيات أو تحديداً زعاماتها حقَّ تصفية الفرد وقتله أو اغتياله لا لسبب ولكن فقط لرغبة آنية مزاجية عابرة!!
وللبحث في الحل لا يمكننا اختزالا هنا إلا أن نشير إلى واجب حل تلك الميليشيات ومكافحة أسباب وجودها ودواعيه.. مذكرين هنا أن الإشارة للميليشيات يبقى مستقلا ومنفصلا عن موضوع وجود حركات التحرر القومي والوطني وحقها في بناء وجودها المؤسسي في إطار بنية الدولة المدنية.