من دروس جريمة الأعظمية
تتوالى جرائم قوى الطائفية في الشارع العراقي، وهي جرائم باتت تُسفِرُ عن اشتداد تأزمها ومزيد توتر من تلك القوى المحلية والخارجية وأدواتهما. إنّ انعكاسات الصراعات الدولية والإقليمية تدفع بمزيد صبّ الزيت في النيران المشتعلة أصلاً. غير أنّ الحقيقة المفضوحة لوجه الجريمة الكالح، تتجسد في استغلال الخطاب الطائفي ودوره في إيجاد أرضية الاحتقانات والتوتر وفي التمترس والتخندق طائفيا خلف جناحي الصراع وميليشياته وجرائمها.
وإذا كانت حساسية القضايا التي تمسّ المشاعر الطائفية لا تقف عند حدود الطقوس الدينية وممارستها، بل تمتد باتجاه حياة الناس وحقوقهم وحرياتهم وما يتهددها، فإنّ جناحي الطائفية يستغلان جاهزية فرص الإيقاع بين مكونات الشعب واختلاق بعبع الآخر العدو الذي يهدد مصالحه ووجوده. ولهذا تتمادى القيادة الطائفية فيما ترتكبه من جرائم، معوّلة على أرضية استغلال ميدانية بقدر حجم استجابة حشود بعينها للتمترس والتخندق الانقسامي المتعادي من دون سبب حقيقي.
إنّ هذه الظاهرة ستكون خطراً وهي كذلك اليوم إن لم يجرِ تفادي التداعيات لأية جريمة تمثل شرارة إشعال حرائق الاحتراب الأهلي. إنّ قوى الطائفية بجناحيها تدرك ما أوصلت إليه البلاد والعباد من مستوى الأزمات والانقسامات وتدرك سطوتها القائمة على التضليل وقدراتها المتأسسة على الفساد حيث نهب الثروات الوطنية ووضع جزء من الغنيمة لحماية وجود طائفي كليبتوقراطي مريض.. لكنها تدرك أنّ التداعيات لن تبقى بين يديها ولن تدير دفتها، بعد أن افتضحت جرائمها، إلا عبر بوابات جهنم، أي بإشعال حرائق الاحتراب الأهلي.
وهكذا جاءت جريمة الأعظمية التي جسدت بجوهرها اعتداء على حقوق أناس آمنين بحرق بيوتهم وعلى حقوق مكون بالاعتداء على مبنى مؤسسي هو رمز مهم لأتباع مكون، وهي اعتداء على السلم الأهلي وخرق للقانون وتحدٍ سافر للدولة وطعن في أمن المجتمع وأمانه. إنها وجه من أوجه جرائم الطائفية أياً كان من نفذها من أتباع جناحي الطائفية. ففي جميع الأحوال يدرك أبناء الشعب أنَّ أي جناح طائفي لا يعبر عن أتباع مذهب وهو بجوهره [أي الجناح الطائفي] لا يعبّرُ إلا عن قوى استغلالية إجرامية تعادي أتباع جميع مذاهب دين بعينه.
وأبعد من الحدود الجغرافية للجريمة [جريمة الأعظمية] سواء إجرائيا بمكانها حيث بيوت الناس ومبنى أتباع مذهب أم بجغرافيا الوطن كلها من جهة كونها الهدف الأبعد؛ أبعد من ذلك فإنّ الجريمة، بطابعها وهوية ما تحمله من غاياتٍ ومآرب مرضية، تستهدف أيضاً إسقاط الحكومة ورأسها سواء بغايةٍ أدخل في صراعات قوى الطائفية ومن يحتل الواجهة الأولى وكرسي السلطة [للإتيان بشخص بعينه] أم بغاية إسقاط الدولة وتمزيقها وشرذمتها على كانتونات يحكمها أمراء بلا منازع، حيث لم يعد يرضيهم اقتسام الغنيمة مع سلطة حكومية.
لقد تضخم وجود الميليشيات وأصبح لديها من المال السياسي وفساده والعدة والعتاد ما يجعلها لا ترى ضرورة لاقتسام ما بات غنيمتها من القوى البشرية ومن القوى المادية. ولهذا فهي تتجه لتدفع نحو التمزيق الأخير لجموع الشعب ومكوناته ومشاغلتهم بحروب مباشرة بينهم، وبإدارة تامة من أمراء الحرب (الأهلية \ الطائفية)…
إنّ جريمة اعتداء الأعظمية ليست مجرد شرارة عابرة فقد اجتاز الطائفيون مرحلة التراكم الكمي وباتوا يديرون جرائم نوعية تضغط بكل إمكاناتهم لتجعل الأوضاع تنفلت نهائيا من أيدي الحكومة ومؤسساتها وقوانين الدولة ولتكون في قبضة وسطوة مجرمي مثلث (طائفية، فساد وإرهاب).
ربما من باب الرد الحازم والحاسم سيكون على الحراك الشعبي وقواه المدنية والسياسية أن يطلق ((حملة وطنية تؤكد التمسك بوحدة وطنية بين جميع أتباع الديانات والمذاهب)).. حملة يوقعها أولا قادة الفكر والسياسة وقادة الحركة الحقوقية والمجتمعية المدنية وايضا رجال الدين من غير قوى التضليل والدجل والزيف ممن يؤمنون بدولة مدنية لا تسمح لخرافة التشويه والتشويش والتضليل الطائفي أن تتقدم بجرائمه أكثر. إنّ تلك الحملة يجب أن تنطلق اليوم قبل الغد…
من جانب آخر بات على الحكومة وضع استراتيجية تتناسب وقدراتها وتستقطب تحالفاً أممياً دولياً يدعم حراكها إجرائيا بجغرافيا الوطن برمته ووقف إجراءات التمييز التي تميل بكفة دعم لجناح ميليشياوي وحجب دعم عن جناح آخر ما يُظهِر الحكومة كونها حكومة تمييز طائفي.. وهي بتلك السياسة تكون بالمحصلة: لا تخدم أتباع مذهب بل تجيّر ضد أتباع جميع المذاهب و تصير خدمة مصالح أمراء الحرب وقادة الميليشيات حصراً. إنها تخدم مباشرة جناحاً ميليشياوياً وتخدم أيضاً بشكل غير مباشر الجناح الميليشياوي الطائفي الآخر، وتلكم هي اللعبة الخبيثة للطائفيين بجناحيهما وبألاعيب التضليل التي يتمترسون خلفها ويشرعنون عبثهم الإجرامي …
والمهمة اليوم لا تقع على كاهل مسؤول حكومي بعينه. بل على الشعب الواعي المدرك. فمن جهة من يتطوع لخدمة الوطن والشعب ينبغي أن يتطوع إلى جيش وطني وقوات مؤسسية حكومية. ويلزم الانسحاب فورا من أي شكل للانتساب إلى ميليشياتٍ، أيا كان مسماها. ولا يجوز لا للمال السياسي الفاسد ولا لخطاب التضليل أن ينطلي على شبيبةٍ هي ابنة عصر العلوم والأفكار التنويرية، ابنة عصر العقل العلمي ومناهج التفكير والوعي.
إنّ شبيبة اليوم طاقة خلاقة للبناء لا للهدم وهي طاقة تحمي السلام وتشيد وجوده وتنشره وليس طاقة حرب ودمار وتخريب واقتتال. والسلام هو فضاء البناء ومسيرة التقدم والعيش بجنان الحياة التي تصنعها العقول الحكيمة الواعية فيما كل أشكال العنف والاحتراب هي فضاء للتدمير والتخريب والتقتيل. السلام طريق الشعب لحياة حرة كريمة آمنة فيما الحرب وعنفها الهمجي البشع هي طريق تسيّد أمراء الحروب واستغلالهم لجموع الشعب غنائم يستعبدونها ويضحون بها قرابين على مذابح أطماعهم وهمجيتهم.
لهذا ينبغي لمن ينتمي إلى ميليشيا أن يتذكر الأمور واضحة جلية قبل أن يضع قدمه مع أمير حرب يريد تقديمه قربانا لوحشية لا تنتمي لعصرنا ولا لدين فعصرنا عصر السلام والحوار ومبادئ التعايش والإخاء والتسامح والتعاون والدين ومذاهبه إنما جاء لنشر قيم سامية نبيلة ليس بينها العدوان والاحتراب والاقتتال من أجل مآرب شخص أو جماعة يوجههم الفسادُ ووحشي السلوك وعنيف القيم.
أنت أيها البطل تتطوع لنصرة الحق وهزيمة الظلم والحق هو حق الشعب والوطن.. فلماذا تأسر نفسك عند قوى تعادي الوطن وسلامته ووحدته وتريد تمزيقه؟ ألا تدرك توجه الأمم والدول لاتحادات إقليمية دولية كبرى؟ لماذا تتجه أنت بوطنك إلى التمزق والتشرذم؟ ولماذا تأسر نفسك عند من يعادي الشعب ووحدته وأمنه وأمانه؟ هل تقبل أن تكون قربانا لجهة طائفية تدفع إلى تخندق الشعب خلف متاريس انقسام تناقضي لا مصلحة لمكون فيه والمصلحة الوحيدة في الانقسام والتمترس الطائفي هي تلك التي تخدم تضخم غنائم أمراء الحرب الطائفية؟
تلكم هي القضية وهي أرضية من يمارسون الجريمة بحق الشعب بكل مكوناته. ولا ينتمي امرئ إلى ميليشيا طائفية وهو يعي أنهم يضحون به وبأخيه قربانا لأطماعهم الدنيئة. هناك تضليل غاشم وضخ لخطاب يدفع لمثل هذه الاندفاعات والتوترات والاحتقانات فلا تكن جزءا من حراك المجرم وجريمته.
الحل يكمن في وعيك وفي تبنيك دعم حكومة اتحادية وطنية تدافع عن الوطن ضد التفكك بين كانتونات يحكمها أمراء الحرب لمصلحة قوى محلية وخارجية مافيوية كبرى. والحل يكمن في تخلص الحكومة من عقدة الركون للطائفي المحاصصي والتوجه لأداء مدني يخضع للدستور والعودة إلى القوانين المدنية بالاستعانة بقوى الخير..
وعلى الحكومة من فورها أن تطلق ((حملة وطنية شاملة تتصدى للتضليل الطائفي والانقسام)) وتحزم أمرها تجاه البنى الميليشياوية المستفحلة. ولننظر إلى النموذج الكوردستاني حيث الاستقرار متأتٍ من عمق وحدته والتفافه حول عقد اجتماعي هو دستور كوردستان وإلى سلطة مدنية تحكم بالقانون وتؤدي مهامها على وفق خطاب يؤكد تبني مصالح الشعب بلا تشرذم بين جناح وآخر بل هي لا تسمح بوجود مؤسسات بخاصة العسكرية الأمنية خارج سلطة الدولة وقوانينها وتلكم الحكمة في الاستقرار وفي وعي أبناء كوردستان.
إن العراقيين يمكنهم حسم المعركة مع ثلاثي (الطائفية الفساد الإرهاب) وإنهاء التحول بهم نحو سلطة طائفية كليبتوقراطية والعودة لخيار الشعب وتبني دولة مدنية ومبدأ المواطنة والمساواة والإخاء والعدل.
فهلا وعينا الدرس وتجنبنا الوقوع بمطب ما يراد لنا جميعا من تهلكة؟ فربما أدى تلكؤنا وتساهلنا تجاهها وممارستنا بل ارتكابنا الجرائم باسم وهم التضليل الديني الطائفي، أقول ربما أدى إلى انزلاقنا إلى هوة سحيقة لا مخرج منها في أجيالنا..
ولكنّ ثقتي وطيدة بقوى الشعب العراقي وبأنها ستستطيع عبور المطبات الإجرامية وخبيث المخططات التي تريد إيقاعهم بدروب ما وراء بوابات جهنم.. سينتصر العراقيون بوعيهم وإدراكهم المجريات وسيتصدون معا وسويا للجريمة ويعيدوا المسار إلى حيث خيارهم في بناء الدولة المدنية العادلة التي تلبي تطلعاتهم ببناء جنائن وجودهم في تعايش سلمي وإخاء ومساواة.