انتهت بمرحلة ولادة الدولة القومية الحديثة السلطات العابرة لتولد مصطلحات محدِّدة جديدة ممثلة بمفهوم السيادة. وبهذا طويت مرحلة السلطة الكونية الشاملة كما بسلطة امبراطورية أو سلطة دينية مثلما الكنيسة الكاثوليكية. وهكذا أعلنت دول كفرنسا وأسبانيا سلطتها المطلقة المحمية بـ(السيادة) على وفق ما ورد في كتابات جان بودان الذي وضع السلطة المطلقة بيد الملكية وإن حدَّدها لاحقا بقوانين. أما توماس هوبز فعرّف السيادة بكونها احتكار قوة الإرغام ووضعها بيد حاكم لا ينازعه في سلطته أحد. وبهذا يكون كل منهما قد برَّر تفسيره بحماية الاستقرار وتجنب الفوضى بالبديل المطلق للسلطة المركزية.. حتى جاء روسو ليتحدث عن الإرادة العامة والسيادة الشعبية.
واليوم يجابه العراق قراءات تستغل موضوع السيادة لأمور ليس من بينها مضامين السيادتين الداخلية والخارجية. فبالعودة إلى هاتين السيادتين سنجد أنَّهما تتمظهران في أدوات تحميهما. فبشأن السيادة الخارجية فضلا عن تأثيرات العولمة واندماج النظم والمناطق الاقتصادية الكبرى وفضلا عن القوانين الإنسانية التي تحدد السلطات الداخلية بكفالة الحقوق والحريات وتنازعها السلطة بهذا الميدان فإن أموراً أخرى باتت اليوم ذات تأثير في العراق الجديد من قبيل أدوار العلاقات الإقليمية والدولية وطابع التدخلات الذي اخترق السيادة في ميادين عديدة! أما في السيادة الداخلية فإنّ ضمانات احترام المواطنة والمكونات غير متوافرة بظل اختراق السلطات القانونية والسياسية والشعبية لصالح السلطة الفعلية لقوى ميليشياوية فوق كل معنى للسيادة الداخلية ومضامينها الحقيقية!!
إنّ ردود الفعل التي ظهرت مؤخراً على قرار الكونغرس الأمريكي بشأن تزويد السلاح للعراق واشتراطه بتحقيق استجابة السلطة الفديرالية لحقوق المكونات ومن ثمّ للمواطنين ومبدأ المساواة مع حصر السيادة الداخلية بسلطة وطنية عليا؛ هي ردود فعل مختلفة المنطلقات والنتائج وكثير منها ليس بريئاً من الاختراق الفعلي للسيادة والتستر على تلك الخروق ومستهدفاتها.
فالسيادة وتركيزها لا يمكن أنْ تخرج عمّن يمثل الدولة وفي الحالة العراقية فإن النظام السياسي هو النظام الفديرالي ودستوره في التعبير عن السيادتين أو السلطتين القانونية والسياسية وتمظهرهما بالبرلمان والحكومة، ولكن ذلك مُخترَق بوضوح في السيادة الفعلية حيث تنافس هنا قوى ميليشياوية وانحياز حكومي لمصطلحات خارج الدستور باستغلال تأويلات لثغرات في الدستور نفسه، عندما صيغ بانتظار التعديل بعد ستة أشهر وها هي 12 سنة انقضت ولم يحصل حسم لتلك الثغرات لأنها الغطاء لمن بات يتحكم بالسيادة الداخلية ويوجه الأوضاع بطريقة مخالفة لجوهر الدستور ومنطق السلطة المؤملة النابعة من السيادة الشعبية غير الموجودة بأسسها التي تتبنى الدولة الحديثة وآلياتها.
إنَّ هذا الخرق يجسد التصورات التقليدية الساذجة للسيادة؛ كونها تُوْجِد أوضاعاً لا تتلاءم مع التعددية ومع الديمقراطية وآلياتهما. وعليه فإنّ الخروق للسيادة تبدأ من الداخل من حيث انتهاكها لعلاقات الرقابة والتوازن عندما تُنتهك السيادة القانونية والسيادة السياسية وتُبعِد السيادة الشعبية وسلطتها عن دائرة الفعل لتفرض عبر السيادة الفعلية وجوداً مشوهاً يعتدي على مبدأ المساواة والعدل سواء بين المواطنين أم بين المكونات.
وعلى سبيل المثال فإنَّ الدولة الحديثة هي الدولة الديموقراطية الفديرالية عندما يتعلق الأمر بالطابع التعددي للتنوع في بنية المجتمع وتركيبة الشعب والدولة. ومن هذا المنطلق فإنّ السيادة الفعلية في الدولة الفديرالية تتعارض وحال تركيز القوة \ السلطة بيد جهة، بخاصة عندما تكون الجهة طرفاً حزبيا ميليشياويا خارجا على منطق سلطة القانون وآليات الدولة الحديثة.. وهي ايضاً تؤكد بخلاف التركيز والمصادرة، منطق تعزيز المشاركة وتقسيم السلطة بما يحفظ التوازن من جهة ويحقق العدالة والمساواة؛ وبما لا يسمح لطرف أن يصادر (مكوّناً) أو (فئة) مجتمعية بذريعة احتكار السيادة. فالنظم الفيدرالية تقوم على التشارك في السيادة \ السلطة بكل ما يقتضيه ذلك من توازنات.
إنّ ضمان السيادة الداخلية بأسسها السليمة يمكنه وحده أن يتحدث عن السيادة الخارجية من دون ذرائعية تمرِّر تدخلا سافراً بادعاء رفض تدخل آخر.. وصحيح أنّ حرية المواطن ومصالحه تكمن بحماية سيادته الخارجية أيضا بكل ما تحمله حالات الإيمان بالوجود القومي والوطني وبعزتهما إلا أن الأمر ليس كذلك دائماً. ففي النظم الكتاتورية يكون إعمال القوانين الإنسانية والتدخل لمصلحة الشعوب المضطهدة واجبا أمميا وفرصة إيجابية. نذكر هنا حال السلطة الفاشية وكيفية إزاحتها وحالات انتهاك حقوق الإنسان ببعض البلدان وحالات عدم احترام القوانين الدولية بخصوص الشعوب غير المنتظمة بدول مستقلة.
هنا يكون وقف العمل بما يسمى السيادة الخارجية لمصلحة وقف انتهاك الحقوق والحريات من جهة ولمصلحة التصدي للتهديدات المتحققة أو المحتملة للأمن والسلم الدوليين. وسيكون وضع الدولة في إطار النظام الدولي واحتفاظها بكيانها المستقل وتمسكها بالسيادة الوطنية مرتبطا بحجم سلامة تنفيذها وتلبيتها للسيادة الداخلية من جهة احترام السيادة الشعبية وتمظهرها في توازنات فعلية بالسلطة العليا وانتفاء التمييز..
إن الحالة العراقية بقيت حتى يومنا بعيدة عن استقرار بناء الدولة بعد انهيار دولة النظام الفاشي الاستبدادي ووقوع النظام الجديد بين مخالب قوى فوق القانون بخطاب مركب من عناصر السياسة الطائفية التي تنطبع بالتمييز وتعمّق ظاهرة الفساد التي اقتربت من طابع كليبتوقراطي إلى جانب الإرهاب المنظم الذي احتل مكان سلطة الدولة المنهارة في عدد من أقاليم البلاد.
إنّ هذا يذكّر دائما بأن الحل يبقى بحاجة للقوانين الدولية والإنسانية منها بقصد استعادة السيادة الداخلية بأنجع السبل وبدعم أممي دولي مناسب. وسيكون الحديث عن الدعم غير المشروط أمراً هزلياً في خضم ما وصفناه هنا من واقع الحال. إذ أن الحديث عن دعم غير مشروط يعني بالأساس اليوم، بظل سيادة فعلية تتعارض والسيادة القانونية والسياسية والشعبية، تمريراً لمنطق اللادولة واللاسيادة أو اللاسلطة وفوضى سلطة الميليشيات..
لهذا السبب فإن المنطق القانوني الحقوقي يتطلب (شرط) وقف رعاية الوجود الميليشياوي برمته و(شرط) وقف التمييز فيه. كما يقتضي (شرط) النظر إلى الواقع الفعلي للوجود الفديرالي من منظور جديد يحتكم للتطورات. وهنا يظهر (شرط) احترام حق تقرير المصير لشعب كوردستان في خياره الفديرالي بمعنى احترام استقلالية قراره وإنهاء ممارسات الدولة المركزية السابقة وسياسة الإقصاء والإلغاء وآليات المصادرة والحصار والضغوط بمختلف أشكالها الجارية اليوم.
إنَّ منطق الواقع الميداني اليوم في حرمان كوردستان من فرص الدفاع عن وجودها وحقوقها فديراليا، يضعها بمخاطر التهديد المركب من قوى الإرهاب ومن طابع الحصار المفروض عليها سواء الاقتصادي المعيشي الذي يمس المواطن أم العسكري الأمني الذي يهدد وجود كوردستان ويمنح الإرهاب فرص استباحتها مع استمرار منع التسليح المناسب والتدريب المناسب!
لهذا السبب فإن توجه المجتمع الدولي سيكون ملزما على وفق القوانين الدولية نفسها في التعامل مع كوردستان بطريقة تحميها من الطابع التمييزي لتعامل السلطة (المركزية) بطريقة فوقية إلغائية تعتدي على حقوق شعب كوردستان بالسيادتين الداخلية والخارجية!
إننا في العصر الحديث نقرأ السيادة ليس بوصف الأولوية لحكومة وسطوتها والأنكى عندما تخترق السلطة وتتجاذبها قوى ميليشياوية؛ بل نقرأ السيادة بالسلطة الفعلية الشعبية التي تحترم الحقوق والحريات وتضمنها وتكفلها. وهكذا تكون السيادة بمظهرها الأول ممثلة بالسيادة القانونية التي تتجسد في هيأة يخولها القانون ممارسة السيادة هي السلطة العليا العاملة على وفق صلاحيات محددة دستوريا. ولكن أين تلك الصلاحيات والآليات المكفولة دستوريا في العراق الفديرالي ومن يتحكم بها وهل تجري الأمور بطريقة قانونية دستورية بالتمام أم هناك خروق تفرضها قوى فوق الدولة وتمارس نفوذها بأمراء حرب يقودون ميليشيات مصطرعة…!!!
أما في السيادة السياسية، فالسؤال في ظل عجز البرلمان وقصوره في أداء مهامه واحترام إرادة الشعب في وقت يعمل على وفق إرادة زعماء الكتل: هل بهذه الحال، نجد للشعب تأثيره على البرلمان وعلى توجهاته ومن ثمّ فرض أن يلعب دوره التشريعي والرقابي كما يجب؟ في الحال العراقية يمكن لكل مدرك للمجريات أن يجيب بالنفي؛ بخاصة في ظل سيادة منطق يخالف القوانين أو يسنها لمآرب بعينها هي بالمخالفة مع جوهر الدستور كما أشرنا بمعالجتنا هذه!
أما السيادة الشعبية حيث تتجسد بحق التعبير بكل أشكال الضغط التي يمارسها الشعب ومنظمات المجتمع المدنية المعبرة عنه فضلا عن صوته المجسد بالبرلمان، فلا مجال للحديث الفعلي في ظل التمييز بين المكونات على أسس قومية وطائفية دينية وبمنطق تسود فيه قيم الثأر على حساب قوانين ومبادئ تحترم الإنسان ووجوده الجمعي عبر مكوناته العرقية، القومية، الدينية، المذهبية..
إنَّ مَن يتحكم اليوم لا يتردد عن إشهار خطاب أعمق غورا من الثأر عندما يتحدث عن غنيمة لن يعطيها، مقسّما الشعب بين طرفين يفرض تمترسهما بحرب المنتصر بغنيمة والخاسر لغنيمة وهو أخطر من خطاب التمييز ونسبه ودرجاته الكيفية بوجوده النوعي نظاماً يخترق السيادة بمعانيها الحقة!!
السيادة اليوم، هي السيادة الفعلية ولكن بمَ تتمظهر وتتجسد؟ إنها تتجسد بخطاب سطوة أمراء حرب طائفيين وأمراء حرب الإرهاب وقواه المنظمة بمافيات متحالفة مع مافيات الفساد المالي. إلى درجة أنّ تريليون ونصف التريليون تم نهبها والخطورة أنها تم توظيفها ضد سيادة البلاد الداخلية والخارجية.
تبقى ضرورة للإشارة إلى الأصوات الإيجابية التي تدين التدخل الأجنبي فهي أصوات ضعيفة وربما بعضها لا تقرأ الأمور بمنطق يرى الأوضاع بشموليتها وفوق كونها ضعيفة تقع بمطب تجييرها لخدمة الصراعات التي تخترق السيادتين بمنطق تضليلي فج من القوى المتحكمة.
ولكننا، إذا أردنا الاختصار والانتهاء من هذه القراءة فإن الموقف ينبغي أن يستثمر كل أشكال الدعم الخارجي لصالح لجم سلطة القوى المرضية التي تخترق السيادة الشعبية ولصالح إعادة حقوق المكونات وتحقيق العدالة والمساواة وترتيب الأوضاع بما يخدم إنهاء الوجود الميليشياوي واستعادة السيادة بمنطق سليم يعزز احترام السيادة القانونية حيث الوجود الفديرالي وحيث حق تقرير المصير لشعب كوردستان بالتحديد واستعادة معاني التعامل بأسس الوطنية والمواطنة بين أبناء المجتمع لا تقسيمهم طائفيا..
وهكذا فإن حماية السيادة ليست باحتجاجات وبيانات استنكار وخطابات تضليلية بل بقراءة جدية للواقع يجري فيها حسم الأمور لمصلحة عراق فديرالي يحترم مكوناته وإلا فإن إعمال القوانين الدولية سيكون ضرورة وحتمية لحماية تلك السيادة بجوهرها المعبر عن حماية مصالح الشعب ومكوناته…