الجميع يلاحظ أنّ المنطقة تغلي ببراكين متفجرة من الصراعات الدموية، وأنّ تلك القوى التي تقف وراء وحشية التهديدات وهمجيتها هي ذاتها التي لم ترعوِ عن متابعة جرائمها وأطماعها ومن ثمَّ توجهها نحو كوردستان في محاولة ترمي إلى غزوها بوباء الإرهاب وطيشه الإجرامي الذي أوقع أفدح الخسائر البشرية الغالية على شعب كوردستان وأطيافه وعلى حركة التحرر القومي فيه. إنّ هذا المشهد يحدد جوهر ما يتهدد كوردستان وشعبها بكل أطيافه. ونحن نسعى بهذه المعالجة الموجزة أن نركز على تلك التهديدات وما تفرضه من محددات في العمل السياسي ومطالبه، لكشف بعض ما قد يطفو من أخطاء وينبغي وقفه و\أو تجنبه ضماناً لقدرات التصدي لمهام المرحلة.
أما التهديدات التي نشير إليها فيمكننا إجمالها بوجه عام في الآتي:
- تهديد الحرب: يجسده هجوم قطعان الإرهاب ووصولها عند تخوم الحدود الكوردستانية، حيث المدن والقرى بمرمى تلك القوى الهمجية.
- تهديد الضغوط الاقتصادية: يجسده وجود أشكال من الحصار الاقتصادي المبني على مواقف خلافية غير مسوَّغة مع بغداد، الأمر الذي يفاقم معاناة أبناء الشعب.
- مخاطر اجتماعية إنسانية: تجسدها حالات وجود مئات ألوف [ربما يتجاوز الحجم المليونين] من النازحين واللاجئين في مخيمات الاستقبال بكوردستان، بكل ما لهذا من مطالب إنسانية وأمنية بالمعنى الأشمل للمصطلح.
إنّ مثل هذه التهديدات تشكل مخاطر بنيوية جوهرية، الأمر الذي يحدّد معالم المرحلة ومحاورها الرئيسة. إنها مرحلة متضخمة بالضغوط الاستثنائية للطوارئ. وبناء على هذه المحددات ينبغي أن يتمَّ رسم الأولويات. ويمكننا التعمق بإدارك هذه الحقيقة، بمراجعة تجاريب بلدان الديموقراطية وما اتخذتهُ في حالات خوض الحروب.. وسنلاحظ بوضوح أنّها على سبيل المثال، علّقت الدساتير وباتت تتعامل بقوانين الطوارئ التي تتناسب والأزمة الكبرى التي جابهتها.. وليس هذا بخطأ بل هو عين الصواب. فبعد الانتهاء من الخطر الخارجي وتهديده المميت، لو تمّ إهماله، أمكن العودة إلى الحياة الطبيعية والعمل على وفق محددات دساتير الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان في تلك البلدان.
وهكذا فإنّ التجاريب التي نشير إليها، تؤكد على أنَّ الأوضاع العامة في ظل مرحلة خوض الحرب لايمكن أن تُحكم بذات الإجراءات للظروف العادية؛ وهو منطق صائب دقيق. ومن هنا نشير إلى أنّ بعض المطالب [التي يثيرها بعضهم اليوم] تلك المتعلقة بالتوجه إلى إجراء انتخابات لأي مستوى ومسار أو الإصرار على مشاغلةٍ بالحديث عن التداولية وتطبيق القوانين الدستورية بشأنها، هي في جوهرها أبعد من كونها مجرد مشاغلة، تمثل ثغرة غير موضوعية في معالجة القضايا الجارية.
إنَّ وجود التهديد الحربي على تخوم كوردستان يتطلب تركيزاً وتفرغاً لدرء مخاطره والتصدي لمآرب مشعليه وغاياتهم. ولعل التعاضد بين جميع الأطراف ووحدة جهودها هو الضرورة اللازمة لتأمين سلامة كوردستان وأمن شعبها، ذلك المتحقق بفضل بنى الدولة المدنية وصواب الرؤى التي شكلت نهج مسيرتها التنموية وخدمة خطى البناء منذ انتصار الثورة حتى اليوم. ومن أجل ذلك ستبقى مهام الدفاع عمّا تمّ إنجازه في قائمة الأولوية ليس بافتراضات سفسطة حوارات سياسية أو أحابيل انتهاز أوضاع تقامر بالشعب لمآرب تخص بعض قيادات وأحزاب بعينها.
ومن بين تلك المهام المنتظرة اليوم، السعي الحثيث لنشر خطاب التنوير بمفردات المعركة ضد الإرهاب. كون هذا الخطاب يتجسد أولا بدعم قوات البيشمركة المقاتلة ببطولة لدحر أي هجوم جديد ولإبعاد تهديد قوى الإرهاب الذين وصلوا بأحداث معروفة إلى هذا التماس المباشر. كما يتطلب الأمر نهجا تنويريا وخطابا ثقافيا إعلاميا ضد قوى التطرف والتشدد المتسترة، قوى الظلام ومخططاتهم لزعزعة الأوضاع..
وهذا التصدي يتأتى بفضل الخطاب التنويري للمجتمع وتعزيز الانفتاح على تفعيل أدوار فئاته كافة.. بمنع تعطيل أية فئة؛ على سبيل المثال: تفعيل دور المرأة الفاعل والمؤثر بخلاف ما تسعى إليه بعض القوى المتخلفة من محاولات لتعطيلها ومصادرتها، بممارسة مختلف الإجراءات السلبية المعادية لحراك المجتمع برمته..
كما إنّ نشر الإشاعات والأفكار الظلامية أو تلك التي تتقمص دور الدفاع عن المعالجات والحلول الديموقراطية وادعاء التمسك بالدستور، هي في المحصلة لا تخدم خطى المعركة الدائرة اليوم وما تستجلبه من تهديدات منظورة وأخرى غير منظورة. ولابد هنا للشعب أن يرتقي بمسؤولياته تجاه الاستقرار والسلام عبر رفض تلقي تلك الخطابات وإدراك مخاطر الانشغال أو التعامل بها..
إن الوعي الدستوري لدى شعب كوردستان تجاه القضايا الإجرائية القانونية يرافقه الوعي الكامل بمعنى تأجيل [وليس تعطيل أو إلغاء] العمل ببعض الخطى بسبب الظروف الاستثنائية يتأتى من خطر وجود مسؤوليات الحرب على الحدود؛ ومن احتمالات الاختراق ووجوده حتى في الامتدادات الداخلية الأمر الذي لا يتصدى له إلا مزيد الوحدة والتكاتف ورفض أية حالات متاجرة واستغلال لمقاصد حزبية أيا كان استنادها على ما تتملكه من سفسطة تزعم احترام القوانين الدستورية.
وبمزيد من الوضوح فأول المهام تتجسد بدعم رئيس للبيشمركة التي تبقى محور الحدث اليوم. وتتطلب اهتماماً وتركيزاً ليس رسميا حسب بل وشعبياً أيضاً. وهذا الدعم يتضمن الإيمان التام والمطلق بوحدة القوات وقيادتها، وبالعمل على توفير فرص التدريب واكتساب الخبرات التعبوية والميدانية فضلا عن مهام تزويدها بالأسلحة والأعتدة المتناسبة والمعركة وحجمها وطابعها.
لكن هذا لا يفي ولا يغطي جميع المهام، فإنسانياً يلزم دعم المساعي الرسمية للقيادة في توفير الغطاء المالي الواجب استقطابه من بغداد. إذ تبقى تلك الجهود السامية جد مهمة في حل عقدة الرواتب التي اختلقتها سياسات الحكومة ببغداد في السنوات الثمانية السابقة بنهج فردي استعلائي حاول إلغاء الجميع، وحاول ابتزازهم عبر الضغط باستغلال مصادر رزق المواطنين وأولهم أبناء البيشمركة.
وهكذا، انبنى على أخطاء الماضي القريب سياسة غير محمودة تحولت إلى حصار اقتصادي غير مبرر، يقف على الضفة الأخرى من سلامة النهج الفديرالي للعراق الجديد. لذا كان لابد من التنبه على معاني قطع مصادر التمويل أو المناورة بها وإدخالها شرطا لمسارات وحوارات لا علاقة لها بمنطق الأمور والغايات السديدة…
إنّ الفعل الداخلي بكوردستان لمواجهة هذا الوضع برهن طوال مدة الحصار الاقتصادي على صبره وتحمله وعلى تبنيه خطاب الوحدة والالتفاف حول قيادته مثلما برهن على نجاح السياسات الإيجابية لمعالجة الأوضاع الناجمة عن تلك الضغوط التراجيدية. حيث تمّ بناء شبكة علاقات دولية استطاعت من جهة أن تزود كوردستان بالسلاح الذي احتاجته بمعركتها مثلما سدّت تلك الفجوات والثغرات التي كان سيخلقها الحصار اللاإنساني.
وداخليا أيضاً كان الشعب بمستوى الوعي تجاه خطابات بعض الشخوص والأطراف التي أما كانت تمارس المراهقة السياسية لهزال إدراكها طابع المرحلة أو أنها كانت تكرر خطابا راديكاليا لا يصلح للمرحلة ولا يتفق مع مقولات القوانين الدستورية بجوهرها. وهكذا فقد ردّ الشعب على تلك الأصوات بالالتفات بعيداً عنهم والتركيز على المعركة الرئيسة..
لكن بالمقابل ظهرت أحياناً – وإنْ ظل بحجم ضئيل أو هامشي- بعض أصوات وقعت بمطب الإغراق في التمترس حول الذات فمارست تشنجاً بخطابها هو أدخل في خطاب عنصري يلتقي والشوفينية الأمر الذي يجب (الانتباه) عليه بما يعمق (التلاحم بين شعوب المنطقة وأممها) وأول التلاحم بين العرب والكورد. ولطالما برهنت الشعوب العربية والكوردية على إدراك عميق لأهمية هذا التحالف والتلاحم دفاعا عن الحق بتقرير المصير وتوكيد النهج الأنجع لتلبية المطالب لجميع الأطراف على أساس منطق التآخي والعدل والمساواة.
وبهذا الشأن يبقى التصدي الأبرز هو تلك الرسالة المشرقة من قادة الطرفين.. ففي المستوى الشعبي كان ومازال للتجمع العربي لنصرة القضية الكوردية صوته الهادر تضامنا وفعلا نوعيا ساطعا وكان ومازال للقنوات الكوردستانية الناطقة بمختلف اللغات ومنها العربية دورها المميز في حمل رسالة الكورد الأممية وتوفير أفضل الجسور التي عبرت وتعبر نحو ضفاف الشعوب المجاورة بأروع الإشراقات، ولعل نماذج مثل مجلة صوت الآخر وكولان والتآخي والاتحاد وغيرها تبقى منصة أمينة للتعبير الحر عن فلسفة منفتحة على الآخر بأروع السبل ولربما تعززت، في ظروف مناسبة قريبة، مثل هذي الجسور عبر ولادة فضائيات كوردستانية بذات السياق…
ولتلخيص رؤية هذي المعالجة، نجد أن كوردستان تتعرض اليوم لمعركة كبرى في تاريخها تتمثل في الحرب على الإرهاب حيث تتموضع قواه على تخومها مهددة الشعب بجرائمها الخسيسة التي بتنا نعرف طابعها القائم على تكفير المجتمع وإصدار فتاوى الاختطاف والاغتصاب والقتل والاستباحة وما يسمونه السبي وفرض الجزية وكل ما تضمنه منطقٌ ماضوي متخلفٌ لا يقبله قانونٌ ودين. وفي هذا الخضم تجابه كوردستان محاولات للتدخل والابتزاز بالضغط الاقتصادي أو بغيره لكن وحدة الشعب والتفافه حول قيادته وتركيزه على متطلبات الواقع المباشر ورفضه محاولات مشاغلته بخطابات صبيانيةٍ، فهناك وعي بكونها واقعة بوهم سياسةٍ راديكالية عن قصد ودراية أو عن غير ذلك، وهي سياسة لا تتناسب والظرف القائم. لذا كان لابد من وقفة مراجعة وتوجيه نداء إلى جميع من يلتفت ليجد نفسه خارج وحدة الشعب ليراجع مواقفه ويعود لمنطق سليم تفرضه الأحداث والوقائع.