إضاءة: مع أن المعركة الرئيسة عراقياً هي كنس الإرهابيين ومنعهم من التحول إلى غول دائم يهدد البلاد والبشرية جمعاء، إلا أنّ المعركة لا تخاض في ميادين قعقعة السلاح فقط. ولابد من التفكر والتدبر بميادين أخرى تنخر بوجودنا بخاصة ميداني الطائفية وصراعاتها والفساد وحربها الوبائية علينا. ومن أجل ذلك، فمن بين واجباتنا أن نتصدى لتلك المعارك بدقة وموضوعية وعمق وبما يكفي للسير قدما بمعاركنا بشكل يكفل انتصارنا الأكيد والجوهري الشامل وإلا فإننا كمّن يداول وجوده بين أيدي أعدائه ومستغليه؛ كل يأخذه لمدة وتستمر دوامة استعبادنا!! يجب أن نخوض المعركة مرة وإلى الأبد بشكل نحسم فيه ما جرى ويجري ونطهر الوطن ونحرر الناس من قيود المتاجرة بهم…
هذه القراءة تتركز على زاوية ومحور من محاور معارك العراقيين.. وهي مجرد ومضة لفتح مجال المدارسة والحوار بشأنها ولفتح جبهة التصدي لها بطريقة ناجعة.. وبعامة قد تفيدنا هذه القراءة الموجزة بتوضيحات تخص مؤشر الفساد أمميا دوليا وما يمكننا عبر المقارنة فيه أن نتخذ من قرار…
المعالجة: الفكرة من هذه القراءة الدولية لمؤشرات الفساد وتسلسل البلدان ونسب ما فيها من مؤشرات، تكمن في وصف أوضاع القطاع العام و ما يخترقه من حالات مرضية لتوضيح المجريات في واقع كل بلد، ومساعدته على كشف الأمور وتشخيصها والعمل على وضع المعالجات والبدائل.
ولعل من تلك المؤشرات، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ ما يجري في إطار التعليم من عدم تغطية الحاجة للمباني المدرسية وللأمور الخدمية الملحقة بها ومن مختبرات ومن تجهيزات وما تعانيه من نقص حاد بمجمل الحاجات المادية وكذلك ما يجري بإطار أساليب الأداء التعليمية حيث تتفشى فيها أمراض تضع المخرجات في أدنى أو أسوأ مستوياتها. وفي مجال الصحة حيث كل شيء يخضع للمال حتى حياة الإنسان، في ضوء كل ذلك فإنّ هذين القطاعين وغيرهما تخترقهما آليات الفساد كما بتلك الصفقات التي تتم خلف الكواليس والرشاوى وكل ما يتم من جرائم إلى جانب ظاهرة نهب الثروة الوطنية العامة والجور على الفئات الأضعف بما يقوض العدالة ويُنهي التنمية الاقتصادية قبل أن تبدأ. وطبعاً يتسبب كل هذا بانعدام الثقة العامة وفقدانها سواء بالحكومة أم بالقيادات المجتمعية وفي انفراط العقد الاجتماعي الذي ربما يؤدي لانهيار شامل للدولة وزوالها من الوجود.
وبالاستناد إلى تقارير الشفافية الدولية وآراء الخبراء فيها، يصدر مؤشر مدركات الفساد ليقيس مستويات الفساد في القطاع الحكومي العام في أكبر عدد من دول العالم شمل في العام 2014، 175 دولة. وأورد المؤشر صورة جد مثيرة للقلق بشأن ما لعبه ويلعبه الفساد في الاعتداء على الإنسان وحقوقه وحرياته بمختلف البلدان. فلم يسجل أي بلد في العالم درجة الكمال حيث أن الدولة الأولى الأكثر نزاهة وابتعادا عن الفساد وهي الدنمارك سجلت 92 نقطة فقط وليس 100 نقطة. فيما أكثر من ثلثي بلدان العالم سجلت درجات ومستويات أدنى من 50 نقطة، بمقياس يقع بين 0 بمعنى (فاسد جداً) إلى 100 بمعنى (نظيف جداً).
إنّ الفساد يمثل أخطر المشكلات التي تسطو على المشهد العام في عدد من بلدان العالم. ولربما يؤشر الأمر بروزا في مجال الرشى وانتشارها على نطاق واسع؛ أو ممارسات أخرى أشمل في مختلف الميادين وبمختلف الآليات الأمر الذي تقف وراءه حال من انعدام العقاب للأفراد والمؤسسات ممن يمارس هذه الجريمة و\أو تعطيل القوانين ووقف تنفيذها لأسباب عديدة.
وبقدر تعلق معالجتنا بالعراق فلقد سجّل مجدداً موقعاً متخلفاً دولياً في مؤشر الفساد وقد كان لأكثر من عقد ونصف من بين أول أربع دول في حجم الظاهرة. لقد جاء ترتيب العراق للعام 2014 بتسلسل (170) من بين الـ(175) دولة في المؤشر ولم يترك خلفه سوى الصومال وأفغانستان والسودان وجنوبه..
وتشير التقارير الواردة إلى استمرار وجود المشروعات الوهمية و\أو بناء المدارس الطينية وتلك التي من القصب والجريد وحتى وجود مدارس في العراء بلا بنايات! فضلا عن البنايات الآيلة للسقوط والخربة التي تسودها نواقص كبيرة وانعدام للتجهيزات إلى جانب تفاصيل خطيرة أخرى! وفي ميدان الصحة باتت المتاجرة بحيوات الناس ظاهرة تسببت في نتائج كارثية دع عنك القطاعات الأخرى التي تعاني اليوم من الشلل التام كما في القطاعين الزراعي والصناعي وخرابهما.وليس بعيدا عن الواقع المزري مشهد الانحطاط القيمي وتمظهراته المجتمعية..
ولكن الأخطر في المعركة مع الفساد في العراق، أنها باتت بحجم يقترب من الإطاحة بالدولة؛ بعد أن تحولت بهذه الوباء المرضي إلى معركة وجود.. ولعل مؤشر آلاف الجنود الفضائيين (الوهميين) خير دليل عندما استطاع بضع أنفار من إرهابيي العصر ومجرميه السطو على عدد من المحافظات ولم يجد أبناؤها من يحميهم ويدافع عنهم!!
مثل هذه المآزق الخطيرة يجب أن يوجد بشأنها، قرار لدى الشعب نفسه، قرار يتعلق بمن يولَّى المسؤولية بعيداً عن معايير مرضية تمنح السلطة المطلقة لمراجع سياسية يتم إسقاط القدسية الدينية عليها من بوابة الطائفة.. وإلا فإن استمرار ذات الجهات الطائفية في التحكم بالعراقيين لن يعني سوى استمرار النهب حتى وصول نقطة اللاعودة ويومها لن يكون هناك عراق ولا دولة تحمي العراقي وسيجد المواطن نفسه منكشفا في عراء تستعبده فيه قوى الجريمة من كل حدب وصوب!!
والفساد من قبل ومن بعد، ليس قضية رشوة عابرة حسب بل هو سلوك وقيم وآليات عيش إذا استمر فلن يبقي ولن يذر… فهل تفكَّر العراقيون تجاه ما أصاب وجودهم؟ وهل سيكون الرد بحجم الكارثة؟
إن الحرب الجارية ليست مقصورة على ميادين المعركة مع الإرهابيين بل هي حرب شاملة مع ثلاثي (الطائفية الفساد الإرهاب) وما اعتمل من آليات مرضية خطيرة فضحها لنا تقرير الفساد ورقم التسلسل الذي جاء به العراق عالمياً وما تضمنه من معايير ومؤشرات كارثية، وهو الأمر الذي يتطلب التصدي لها بوسائل تقول للذات الوطني: كفى صمتا وسلبية ومعايشة للمجريات وإلا فلات ساعة مندم!