الثورة تغيير جوهري في وضع بعينه، حيث يجري بها تحول نوعي بالوضع والانتقال به إلى سمات وقوانين جديدة. وربما رافق الثورة حال من تحطيم عنفي وتفجير للقديم ليحلّ الجديد محله. ولعلنا نرى ثورة البركان وأية ثورة طبيعية أخرى كما اطلعنا ونطلع على ثورات في ميادين الزراعة والصناعة؛ فالثورة الصناعية معروفة في تاريخ التشكيلات الاقتصادية للبشرية والثورة المعلوماتية التكنولوجية هي الأخرى محددة المعالم. وثورات غضب إنساني يمكننا رصدها في محيطنا الإنساني؛ كلها تشير إلى معنى الثورة وعمق التغيير وشموليته شرطاً لها.
وهكذا فعندما نريد قراءة دلالة الثورة اصطلاحاً مجتمعياً شاملاً، فإننا نبقى بحاجة لتوكيد حركة التاريخ وولادة طبقات اجتماعية يمكنها أن تحمل مهام التغيير وتتصدى لمسؤولياتها فيه. وإلا فلن يوجد تغيير جوهري نوعي في تلك المسيرة. نحيل هنا إلى نماذج مثل ثورة الاقطاع على الرق وتشكيلته وقوانينها وبشكل أوضح وأقرب إلى عصرنا ومنطقه ثورة البرجوازية على الاقطاع ونظامه وما أوجدته من نظام بديل…
كما يمكننا الحديث عن الثورة الوطنية الديموقراطية بجملة قراراتها النوعية التي تشمل الواقعين الزراعي والصناعي من جهة مثلما تتحول بالمتغيرات الاقتصادية وقوانينها إلى متغيرات مجتمعية عميقة تخلق طابع علاقات جديد. ومن دون هذه المؤشرات فإنّ المتغيرات الفوقية ليست سوى انقلابات يتم بوساطتها تبادل سدة الحكم وإدارة السلطة بين عناصر قيادية سواء شخصيات عسكرية أو سياسية أم أحزاب وحركات، فيما تبقى الأوضاع (في الانقلابات) كما هي في البنية المجتمعية الأشمل…
على أنَّ هذا التعريف للثورة، ليس مجرد رؤية لطرف ونظريته بل هو المعنى الاصطلاحي (المعرفي) لها. إنّ الثورة ليس فعلاً حيادياً، بل هي انحياز للوليد الجديد في رحم المجتمع القديم. ومن ثمّ فهي فعل يتجه إلى أمام برؤية تقدمية تمضي بالأوضاع نحو آفاق إيجابية أفضل. ومن باب الدقة والموضوعية فقد تم توصيف مصطلح ثورة عندما كانت تتراجع بالأوضاع إلى الوراء بإضافة مصطلح (مضادة) لتصير (ثورة مضادة).. ولا يمكن لمنطق خط الزمن المتحرك باستمرار إلى أمام أن ينقلب ويعود إلى الوراء ومثله خط التقدم الإنساني وثوراته دائما تمضي باتجاه الغد، باتجاه المستقبل وباتجاه الجديد باستثناء حال محدودة تتمثل بالخط اللولبي للتطور عندما يبدو أو يسجل تراجعاً في بعض الأماكن وإلا فإنّ المشهد يعبر عن الثورة المضادة لا الثورة.
وفي ضوء هذه الإيماضة نرى أنّ ما جرى في بلدان الشرق الأوسط هو شرارات انطلاق ثورات شعبية حقيقية. لكنّ انتكاساتها المؤقتة وتعرضها للمصادرة في بلد وللقمع الدموي الهمجي في بلد آخر لم يلغِ هويتها وإن تراجعت الأوضاع وساءت مثلما جرى في كل من العراق وسوريا وليبيا.
إن التراجعات الجارية ناجمة عن إدراك القوى الحاكمة أن التغيير الذي استهدفه الشعب بـ(ثورته) سيطيح بسلطتهم نهائيا ولن يأتي الشعب ببدائل مجتزأة استغلالية نظيرة لهم؛ بدائل سلبية يمكنهم تجييرها والاحتفاظ بنفوذهم وسلطاتهم عبرها. ومن هنا التجأ الحكّام إلى ممارسة أعلى درجات العنف الوحشي وبمختلف الأسلحة، حدّ استخدام الأسلحة المحظورة كما السلاح الكيمياوي وأشكال الأسلحة الفتاكة.
لقد انطلقت الثورات الشعبية سلمياً وتقدمت بمطالب واضحة في التعبير عن تطلعات تلك الجماهير في تغيير نوعي جوهري في التشكيلة الاقتصا اجتماعية في البلاد.. وطبعا الانتقال إلى نظام يلبي مطالب ثورات التحرر الوطني الديموقراطية… وأدرك مع تلك النُظُم الدكتاتورية من يقف وراءها ويستغل وجودها في نهب الثروات من جهة وفي تصدير أزماته النوعية فانطلق بمخططاته داعماً باشكال مباشرة وأخرى غير مباشرة ملتوية ليحافظ على طابع النظام الرأسمالي الذي بات يتعرض للهزات العميقة بسبب هويته وآلياته الاستغلالية…
لقد اندفعت الآلة الجهنمية له ولمجمل النظم الاستغلالية باتجاه اختراق الثورات السلمية وتحويلها إلى لعبة عبثية لصراع عنفي دموي مسلح بين تلك الآلة الجهنمية وأدواتها وأسلحتها الفتاكة وأسلوبها في إدارة المعركة وبين القوى السلمية غير الجاهزة لمعركة من هذا النوع العنفي الوحشي. ومن الطبيعي أن يكون إرسال عصابات مافيوية للبلطجة وعناصر إرهابية مع تسليحها هو جزء من سياسة تسويق الجريمة وارتكابها بوصفها ثورة مضادة وفعالية تخريب تقف بوجه الثورات الشعبية السلمية…
إنّ هذا التداخل دفع ببعض القوى الشعبية باتجاه الاحباط واللجوء إلى القدرية والفلسفات الدينية وطروحاتها الماورائية هروبا من واقع لم تعد تستطيع تفسيره ولا التفاعل معه بالطريقة التي تحفظ لها حقوقها ومتطلبات وجودها الإنساني. وبشأن تعريف الثورة وفهمها وتبنيها تراجعت تلك القوى عن تسمية المجريات بكونها ثورة وباتت أكثر استسلاماً لنظريات من قبيل نظرية المؤامرة وما رافقها من تفاعلات طبعا في ضوء اهتزاز الثقة بالقدرة على (التغيير) أو الثورة.
إنّ مجريات الأوضاع سجلت ثورات شعبية سلمية حقيقية. ولن تتغير القراءة لها. على الرغم من التراجعات المؤقتة التي تأتي بسبب عدم جاهزية قواها المجتمعية بخاصة في ظروف انسحاق الطبقة المتوسطة وتشتت قدراتها وطمس أية فرصة لانسجامها ولقيادتها الحراك العام. هذا في وقت تراجعت التشكيلات المجتمعية بسبب من الطابع الريعي للاقتصاد واختلاق طبقات كريبتوقراطية تتلاءم ونظام الكليبتوقراطية المفعم بدمويته ووحشية متاجرته بالإنسان وقيمه، وهذا التراجع سحق طبقتي العمال والفلاحين وجعلها في موقع يتنحى عن الصدارة وأكثر من هذا فإنّ السائد بات ينتج طبقة رثة وبنى وتشكيلات مجتمعية (طائفية) الطابع وهكذا فلا قدرات حقيقية فاعلة لقوى الثورة بعد جرائم التجهيل والشرذمة والتشويه ونشر خطابٍ ظلامي متخلف بطريقة وبائية تخدم الهدف البعيد للمستبدين.
إن هذا التوازن الجديد، يعيد حسابات المعركة من أجل تلبية مطالب الثورة الوطنية الديموقراطية. ولكنه لا يلغي حتمية الثورة ولا هويتها ووجودها. وعليه فإنّ معركة الشعب مع الإرهاب وقواه اليوم هي ذاتها مع السلطة وما تحمله من عنصري الطائفية والفساد، وبشكل أشمل وأعمق تجسيدها لطبقة الفساد (الكريبتوقراط) ولنظامه (الكليبتوقراطي)..
إنّ هذه المعركة بأبعادها وبتعبيرها عن قيم الثورة التي اندلعت شرارتها قبيل سنوات، تتطلب شروطاً جد معقدة ومركبة لاستعادة قدرات المبادرة والتأثير لقيادةٍ تدرك شروط الانتصار للشعب فيها. ولعل أعقد التحديات هي تلك الخاصة بقراءة طابع تلك الشروط وعلاقتها الوجودية بالثورة وبمعانيها ودلالاتها وأدواتها المتاحة.
ومن الطبيعي هنا أن يجري تطوير الدراسات والبحوث الموسعة لكي تبحر في محيطات هذا الموضوع الشائك وعدم الاقتصار على القراءات العجلى.. وليست هذه المعالجة سوى ومضة قصيرة في تأشير معطيات الثورة مفهوما وفعلا واقعيا واصطداما بما يجابهها ويحاول مصادرتها وتشويهها. ولربما توافرت فرص تسليط الأضواء على الفكرة في دراسات آخرين وفي فرص قريبة لاحقة.