قبيل أيام نظّم طلبة كلية الهندسة بالجامعة المستنصرية في بغداد اعتصاماً ضد نهج عميد الكلية وممارساته تجاههم. وفي تداخلات بين عدد من الأنشطة والحوارات المرتبطة بالموضوع، وعلى وفق ما أوردته رسائل بعض الطلبة، كان لرئيس الجامعة مواقف رفضوا أسلوبها وفحواها؛ كونها صبّت في اتجاه يتعارض ومنطق الحريات والحقوق التي أقرها الدستور ولوائح الجامعات ونُظمها. والمشكلة الأبرز كانت في اعتداء سافر صارخ على الطلبة المعتصمين بالكلية المذكورة بطريقة البلطجة كما وُصِفت، وكما أوردته التسجيلات المتداولة عن واقعة الاعتداء!؟
ونحن هنا نشير أيضاً إلى ما طالعتنا به الأنباء من جملة الإجراءات التعسفية والقرارات الظالمة وعدد من اعتداءات (عناصر البلطجة) التابعة لجهات معروفة سواء كانت من أحزاب الإسلام السياسي وميليشياتها أم من تلك التابعة لمسؤولين في الجامعات. فلقد سجّلت الخروقات الاعتداء على الحرم الجامعي بسلسلة من التدخلات المنسوبة إلى عناصر ميليشياوية وجرائم أخرى وتهديدات بالاختطاف وأعمال الابتزاز والبلطجة المتكررة.
وبالمقابل، لم نسمع يوماً عن محاسبة لتلك العناصر، أو مقاضاة بشأن ما جرى من اعتداءات سافرة. فضلا عن تمترس العناصر (الأمنية) والمكلفات والمكلفين ببوابات الجامعات لما يُسمى حراسة (الأخلاق) العامة، خلف حماية رسمية من أعلى المسؤولين بالجامعات. فسجلت باستمرار ظواهر التفتيش على نمط اللبس الشخصي بخاصة للطالبات، حيث تخلل الأمر كثيراً من الأعمال التعسفية التي تدخل بباب التحقير والإهانة وجرائم ابتزاز للطالبات والطلاب وبعضها يدخل في إطار الاستغلال لأغراض ومآرب مرضية مفضوحة!
لقد تواصلت اعتداءات البلطجية بأشكال من حالات الضرب والاشتباك بالأيدي واستخدام العصي والهراوات وغيرها! الأمر الذي سهّل فيه دخولهم إلى الحرم الجامعي مسؤولون في الجامعة، بكثير من الأحيان! هذا فضلا عن شيوع ظاهرة استخدام عدد من أولئك المسؤولين الاعتداءات اللفظية بإطلاق الكلمات السوقية النابية والشتائم المهينة وممارسة التحقير والاستهانة تجاه الطلبة.
إنّ مثل هذه الأجواء لا تعبر عن القيم الأكاديمية السامية، ولا عن الأعراف الجامعية. وهي خرق صريح للوائح والنُظم التعليم بخاصة هنا ما يتعلق بالحريات وبديموقراطية التعليم. والمشكلة الخطيرة ليست في كون هذه الممارسات تجسد أفعالاً وتجاوزاتٍ فردية محدودة بل في كونها منهجاً ثابتاً بخاصة لقوى وعناصر ذات خلفية سياسية باتت تتحكم بالمشهد، عبر عناصرها الميليشياوية وعبر آليات عمل تجمع بين المافيوي البلطجي والميليشياوي العنفي المسلح بسطوته وسلطته!
إنّ التعليم ليس مجرد نشاط عام وتخصص بين التخصصات التي تديرها الحكومات؛ ولكنه في جوهره الأداة التي بوساطتها ينبني به الإنسان معرفياً ليحمل منطقاً عقلياً يمكنه بوساطته أن يلتحق بقيم العصر الذي يتقدم اليوم نحو عصر العلوم والحداثة والتكنولوجيا ويتقدم نحو مجتمعات الحريات والحقوق التي تعلو بتقديس الإنسان ومن ثم التمسك بالقيم التي تؤنسن وجودنا، وأولها الاهتمام بالعقل وبنائه وبقيم تحترمه وتقدس وجوده ثابتاً رئيسا أساسا وجوهراً لوجودنا.
ولأهمية التعليم وخطورته مارست سلطات الطغمة الدكتاتورية التي تحكمت لعقود بشعبنا قبل أن تنهزم في العام 2003، مارست أبشع أعمال القمع بحق الطلبة وحقوقهم وحرياتهم. ومنعت التنظيمات الطلابية المهنية الديموقراطية من العمل وعلقت العاملين فيها على أعواد المشانق بل ارتكبت بحقهم أخس الجرائم التصفوية. في إرهاب مفضوح القصد منه السطو على أداة بناء الإنسان وأسْرِهِ رهينة لسلطان الطغيان والدكتاتورية المهزومة.
ولعل ذاك الأسلوب يبقى الأس الرئيس في فلسفة إرهاب الطلبة اليوم وأولهم الفتيات الطالبات. ولطالما كان التهديد والابتزاز سياسة ثابتة ممنهجة للنظم المهزومة، تلك التي استغلت مخططاتها الشريرة أبشع استغلال في التجسس ومطاردة قوى التنوير ومحاصرتهم والتضييق عليهم بأشرس الأعمال الإجرامية خسة ووضاعة.
فهل يا ترى، تريد العناصر التي تجتر أساليب التهديد والابتزاز تلك الأفعال لتستغلها لمآرب بعينها؟ أم أنها تستغل الظرف العام وسيادة الاضطراب وعدم الاستقرار لمنافع خاصة محدودة؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال ستكون بحدود الخاص المحدود لولا أنّ ما جرى ويجري، قد برهن على كونه سياسة ثابتة ممنهجة، أسفرت عنها (حالات) تكررت وتضخمت حتى شملت (أطرافاً) هي في صميم قيادة الجامعة العراقية. ولكنها قيادة غير مؤهلة لا أكاديميا ولا قيمياً ونقصد هنا العناصر (المعدودة)، تلك التي تمارس عبثاً خطيراً في الحياة الأكاديمية بتحويله إلى مجرد سياسة تركز على شكليات من قبيل الانشغال بما ترتديه الطالبات وبمطاردتهن واستغلالهن في ضوء أحابيل الإيقاع ببعضهن وتوريطهن بما يمكنهم من استغلال الموقف!
وكما نلاحظ، فإن جهات في الإدارة الحكومية تغض الطرف ولا تتدخل عندما يتعلق الأمر بتلك الممارسات التي تتفق والنهج العام للتيارات (الظلامية) مع كل الأسف، أو على أقل تقدير يجري تمييع القضايا والتسويف فيها والدفع بها إلى مجاهل التناسي المتعمد.. فيما تطارد قضايا أخرى تتعمد فيها تنصيب من تراه متفقا وثوابت نظام المحاصصة الطائفية الذي لم يجلب سوى العناصر الركيكة الهزيلة ليضعها في مكان لا تستطيع فيه تقديم أيّ فعل إيجابي…
إنّ أمورا من قبيل تبني سياسات التحديث والتطوير بالجامعات واستحداث مجلس التعليم العالي والاستفادة من التجاريب العالمية والارتقاء بمستوى الجامعات علميا ثقافيا وإشراك الجامعة بأنشطة مجتمعية ميدانية للتأثير على واقعنا المريض ومعالجته، هي أمور لا تجد الرعاية المناسبة بالقدر الذي تُعنى فيه بعض العناصر القيادية بشؤون لا علاقة لها بكل تلك الواجبات المعرفية الثقافية السامية..!
إنّ ما جرى في كلية الهندسة ببغداد وغيرها من الكليات والجامعات يجب أن يخضع لـ(مراجعة شاملة) ولـ(موقف) على مستوى اتخاذ (القرار السياسي) بإرادة الحسم والحزم تجاه التدخلات السافرة والاعتداءات على الحرم الجامعي على خلفية الاستناد إلى مرجعية أحزاب وميليشياتها وقادتها ممن يُسند مثل هذه الأفعال الإجرامية المدانة.
ومن سليم القرارات ضمان الحريات والحقوق في الجامعات وتغيير أساليب التعامل مع الطلبة والطالبات بطريقة تتناسب واحترام المبادئ والقوانين الدستورية التي تكفل ذلك، وتكفّ أيدي من يتمادى عن مواصلة تلك الممارسات التي لم تخدم إلا قيم (الفساد والجريمة) من بوابة إرهاب الطلبة والأساتذة من جهة وابتزازهم ووضعهم أسرى التوجه السياسي العام.
وعلى سبيل المثال نشير إلى ما اُرْتُكِب بمنع الطلبة من تنظيم الأنشطة المجتمعية من قبيل الرحلات والجولات الميدانية التي تفيدهم بكثير من الأمور العلمية فضلا عن عمقها الإنساني وحقوقهم فيها من جهة طبيعة بناء الشخصية وتفتحها اجتماعياً بدل انغلاقها ومحاصرتها تحت ضغوط ليس مؤداها غير إعداد شخصيات عدوانية وسلبية مجتمعياً بتلك الأداءات المرضية!
كما أن حرمانهم من الحفلات الخاصة بمناسباتهم ومنها حفلات التخرج هو استكمال لذات الاتجاه السلبي القهري الذي يصادر الروح الإنساني ويكيّفه مع توجهات ظلامية تعادي منطق العصر وحقوق الإنسان وخياراته في الحياة. وهي تؤثر حتى على منطق العلاقة بين الطالب ومنجزه المعرفي وعلى طبيعة توظيفه العلوم التي اكتسبها في الحياة العامة عندما سيتجه للعمل بعد تخرجه…
إنّ صيغ الحظر والمنع والمصادرة تظل طريقة خطيرة للتعبير عن فلسفة ماضوية وآليات تفكير أخطر من مجرد موقف أستاذ أو آخر وضعته قرعة المحاصصة المقيتة بمسؤولية يتسلط بها على رؤوس الطلبة وأساتذتهم بطريقة الجبروت العنفي المستند للتهديد والابتزاز.
وعليه فهذه قضية تتطلب وقوفا جدياً فاعلاً وحاسماً من الأطراف السياسية التي تتحكم بالوضع وتديره ومن الأطراف السياسية والحقوقية التي تتحمل مسؤولية الدفاع عن المسيرة الجديدة لبناء عراق مختلف عن زمن الضيم والظلام للطاغية ونظامه المندحر.
إن عقلية التحكّم اليوم بالمشهد الجامعي هي تلك التي تنظر إلى الطالبة بوصفها كائناً يجب ألا يدخل الجامعة إلا ملفوفا بجلباب يخضع لمواصفات تلائم منطقها المريض، جلباب لم نجد عراقية ترتديه طوال عمر الدولة العراقية وقد جاء اليوم من خلف حدود العقل العراقي وقيمه الإنسانية السامية.. ولعل عقلية كهذه هي ما يجب إبعادها فوراً عن سدة القرار والمسؤولية لأنها ستكون سببا للتخريب العلمي مثلما للثقافي الروحي والقيمي..
إنها عقلية تتصدى للشكليات بطريقة سلبية مرضية لا بانشغال بما يجب عليها أن تؤديه من مهام أكاديمية علمية في الجامعة. وإذا كانت الجامعات هي دورٌ للدرس العلمي وللبحث العلمي وللمنجز العلمي، فإنه ليس من المعقول أن تستمر هذه الوقائع المتعارضة مع منطق التحصيل العلمي ومع قيم أنسنة وجودنا وحقوق الطلبة وحرياتهم في إطار مجتمعي يُفترض أنْ يكون حرّاً…
إنّ واقعة كلية الهندسة مطروحة اليوم للنقاش المجتمعي ولحملة من جميع فئات الشعب يمكنها أن تتصدى لمن يريد أن يستغل بنات المجتمع المتوجهات للتحصيل العلمي في فلسفة تفرض آليات أحزاب الطائفية وشرائعها الماضوية المتخلفة والظلامية في أسسها..
كما تتطلب موقفا رسميا مسؤولا من جميع الحركات المدنية السياسية منها والمهنية النقابية الديموقراطية فضلا عن إجابة شافية من مراكز سلطة القرار تؤكد تعهدها بالنهوض بواجبات حماية الطلبة والتوجه لتنقية الإدارات العليا من العناصر غير الكفوءة وتلك التي ترتكب مثل هذه الممارسات.
ومعالجتنا هذه في وقت تشير إلى الوقائع في ضوء المتداول والظاهر في الحقائق التي تعكسها عيون الطلبة أنفسهم تتطلع في الوقت ذاته لقراءة رسمية معتمدة يمكنها أن تزيح اللثام عن المجريات وتعلن بوضوح أنها حازمة تجاه الأخطاء والثغرات وأشكال الاعتداء ومتمسكة بسياسة الحكومة الاتحادية وبرامجها (المعلنة) بلا مواربة ولا تساهل مع تلك القضايا التي تشكل خطرا على منطق إدارة الجامعة وضرورة تفرغها للعلم وللانفتاح على المجتمع وحاجاته بدل تحويلها لمكان تخترقه أوبئة تمرر ما لا يقره قانون ولا يقبله مجتمع لبناته وأبنائه..
فهلا تنبهت الجهات المعنية إلى مسؤولياتها؟ وهلا وجدنا التفاعل الأنجع والأكثر قربا من الحسم الموضوعي السليم؟