يتحدث بعضهم قائلا: أنا ضد الطائفية. وعندما تتقدم في قراءة مداخلة له أو معالجة لحدث، تجده يقع في فخ الطائفية وفلسفتها وآلياتها! وفي ضوء ظهور مثل هذا الوهم أو التأثر (الطائفي) من دون انتباه، في خطاب كاتب أو آخر، تندفع التفاعلات والردود وتحتدم الانفعالات ويصطرع طرفان يؤكدان رفضهما للطائفية ولكنهما تدريجاً ينجرّ كل منهما بقدمه نحو مزيد من التمترس غير المحمود مثلما غير المقصود إذ هما ينتميان لتيار مدني لا طائفي!
إنّ الإيمان بكوننا غير طائفيين ورفضنا لفلسفة الطائفية وآلياتها، يقتضي منا أن نحاور الآخر بوصفنا وإياه في ميدان واحد وفلسفة فكرية سياسية (مجتمعية وعقيدية) واحدة وإن تميزت بطابع التعددية والتنوع. بمعنى أن نتمسك بمنطلقاتنا في تحليلاتنا وألا نقع بحال من التخندق والتمترس المنشطر بين جناحين أدعى أن يكونا خندقي الطائفية المرضيين نحن أبعد ما نكون عن الخندقين…
وعلينا ونحن ندين الطائفيين بجناحيهما المصطنعين المختلقين لمقاصد شرعنة الطائفية، علينا ألا نستخدم أسلوب اتهام الآخر؛ أو وضع شخصية أو أخرى في خانة تهمة الطائفية من دون محددات سليمة وأدوات تحليل علمية دقيقة. وأن نلتفت إلى أن المناقشة والحوار ينصب على الفكرة والأداء لا الشخص نفسه ما يعني وجود الأنا والآخر في ميدان واحد وحوارهما لتعزيز التصور الأنسب لأدائهما وتطبيقهما فرضيات فلسفتهما المدنية، كوني أتحدث هنا عن كتّاب هذا التيار تحديداً..
وفي تناولنا لطروحات بعض من نرميهم بالطائفية، نقع أحيانا في ذات الخطأ الذي تقع فيه تحليلات زميلاتنا وزملائنا من التباس و وهم وجنوح أو ابتعاد عن الدقة بسبب ضغط الأحداث علينا واختلاط الحابل بالنابل وضغوط التضليل وضعف المعلومات المتوافرة، أو ربما بسبب من محاولاتنا التقرب من طرف [ربما يأتي على حساب آخر!] وبالنتيجة إذا وضعنا أولئك الذين استعجلنا بالحكم عليهم توهماً، بخانة طائفية فهذا يعني أننا نضع أنفسنا نحن أيضاً في ذات الخانة التهمة…!!
إنَّ المطلوب اليوم، يتمثل في أعلى درجة من دقة اختيار العبارة والصياغة التعبيرية عن فكرة أو فلسفة مدنية علمانية تجسد بديلنا الموضوعي عن أمراض الطائفية وفلسفتها وآلياتها. وكذلك مطلوب منا ألا نوسّع حجم جناحي الطائفية وأتباعهما، وأن نعمل بأفضل السبل والحوارات والمعالجات على إبعاد أكبر جمهور عن الطائفيين والاحتفاظ بهذا الجمهور بمنأى عن التأثرات السلبية الخطيرة لسيادة خطاب الطائفيين…
فشعبياً ينبغي لنا أنْ نؤكد براءة فئات الشعب وأتباع المذاهب والديانات من كونهم أتباع فلسفة الطائفية الماضوية.. وما يتبدى في المشهد، هو خضوع اضطراري لنظام الطائفية المرضي الذي يستبيح الناس ويحاول تقسيمهم بين خندقيه المتعارضين المصطرعين شكلاً ولكنهما المتحدين مضموناً أو فكراً وفلسفةً… فعلى سبيل المثال أتباع المذهبين الشيعي والسني هم أتباع دين واحد وهم في العراق يحيون في وطن واحد يمثل بيتا مشتركا يتعايشون فيه بإخاء وطني وبأسس (الدولة المدنية الحديثة) بكل ما تفترضه من قوانين العيش المعاصرة. وتطبيقياً فعلياً فإن نسبة ثلث أتباع المذهبين يكونان عوائل صغيرة من أب وأم وأبناء وثلث آخر يكوّن التركيبة الأسرية والمجتمعية المختلطة كما بالعشائر والقبائل العراقية أي أن ((ثلثي)) هذا الوجود مختلط مشترك من دون انفصام أو تمييز بخلاف محاولات الطائفيين الذين يبتغون مآرب الفصل بين أتباع المذهبين واختلاق الوجود الطائفي المغلق المطهّر عنصرياً طائفياً..
هذا شعبياً، أما سياسياً فكرياً فنجد ميدان الحركات والمنظمات يعج بعبثية التقسيم والخضوع للقوانين الطائفية المستغلقة والمتمترسة خلف خندقيها اللذين يجتران وجودهما مما قبل الدولة المدنية ونظامها بل من مجاهل كهوف التخلف والجهل في التاريخ الوحشي القروسطي الماضوي المنقرض…
فيا أيها الكتّاب، أيها الأصدقاء في جبهة منطق العقل العلمي وثقافة التنوير واتجاه استعادة بناء الدولة المدنية، أرجو أن تلتفتوا لصيغة الحوار الداخلي اتيارنا المدني، بين كل شخصية فيه وأخرى ومنظمة مدنية وأخرى، إذ أننا ندرك أنه ليس سليما التحدث والحوار عبر بوابة تبادل الاتهامات والانقسام على خانات طائفية لا ننتمي إليها..
وينبغي أن يبدأ الحوار بيننا وينتهي عند شواطئ توكيد الأبعاد المدنية، الوطنية والتنويرية لدينا معاً وسوياً. وتذكروا أن كل القراءات للشخصيات المدنية لا يمكنها أن تكون نصوصا مقدسة غير قابلة للمراجعة والنقد وضمنا ما نكتبه نحن جميعا بلا استثناء. ولهذا فالحوار هو لإيجاد أفضل الصيغ التي تتجهون بها إلى جمهوركم وليس لتحقيق انتصار طرف على آخر بصيغة أفحمته وأنهيته وقضيت عليه وفضحت (طائفيته!). وعلى كل منا أن يستقبل النقد والحوار على أساس أن نية الآخر تكمن في كشف الخطأ وليس في التركيز على رد تهمة الطائفية التي ينشغل بها بعضهم بقصد أو بغير قصد وبوعي إدراك أو من دونهما…
أسوق هذا في إطار الغمز واللمز المعلن والمستتر الذي تابعتُهُ مما يجري اليوم بين بعض الأصدقاء بشأن الموقف من مجريات المعارك الجارية ضد إرهاب الدواعش الظلاميين والتحدث عن النفَس الطائفي ومن ثمّ حال التسقيط والإطاحة بالآخر والانشغال بمعارك تجرنا إلى التمترس خلف الطائفيين وخطابهم. ولربما كان الأمر ظاهرة مبررة عندما يتعلق بالعامة حيث عادة ما يكون السائد والمسيطر على السلطة هو صاحب الفلسفة التي تسطو على المشهد. ولكن بالمقابل لا نقول ربما بل نقول بالتأكيد إن قوة منطق العقل والتنوير تبقى هي صاحبة الحجة وقوة الحكمة والأدخل للوصول إلى الأنفس إذا ما استخدمنا نحن الكتّاب آلياتها الأنضج ومنها طريقة احترام الآخر وتجنب أسلوب التسقيط والاتهام و وصم هذا الآخر ووضعه بخانة او خندق طائفي..
ومن هنا، فإنّ منطق الحوار يتطلب أن نكشف ما نعتقده خطأ ونقترح ما نؤمن بصوابه وبكونه البديل الأنجع، من دون التشظي والانقسام الأمر الذي قد يضعنا في خنادق الطائفيين بغير إدراك لهذا الانحدار المرضي الخطير.
فلنتجنب وصم الآخرين بتهم جاهزة لا تعبر عن الحقيقة؛ ولنشرع نحن كتّاب التيار المدني تحديداً في حوار مرجعيته الفكرية الفلسفية واحدة مع غنى التنوع فيها؛ ولنقترب عبر آليات موضوعية سليمة من أهدافنا في تنضيج الرؤى والمعالجات بوصفها البديل العلمي التنويري المنتمي لعصرنا ومنطقه، البديل عن الطائفية وماضويتها ومرضيتها، مبتعدين ومتجنبين حوار التخندق والتناقض..
فهلا تنبهنا إلى هذا، كي نؤكد قدرات وعينا على التسامي على أمراض الطائفية التي باتت تغزونا حتى في منطق بعضنا وآلياته!!؟
مجرد تصور أرجو أن يأخذه كتابنا بهدوء وبما أصاب منه وصحّ، على أساس كوننا معا وسويا نشكل وجودا إنسانيا متفتح التفكير ممثلا للبديل الذي سيدحر الطائفية وأمراضها وينثر رياحين الحداثة والعلم في عصر العقل العلمي وبناء الدولة المدنية ومغادرة ما جلبته الطائفية وحركاتها من نكوص وتخلف وهمجية وصلت حد المذابح التكفيرية الإرهابية.. ولا نكوننّ بموضع الإرهاب الفكري لزميلاتنا وزملائنا بوقوعنا في آلية الاتهام وربما التسقيط بل لنكن بموضع التكامل والتنضيج والتفاعل إيجابا حتى نستقر على الحل الأنجع والأنضج..
وأنتم جميعا تستطيعون تحقيق ذلك لسلامة النيات والغايات ولنزاهة الضمائر والأهداف الإنسانية لكل قوى التيار المدني الديموقراطي وشخصياته وحاملي راياته وفلسفته.