عبر التاريخ الإنساني القديم والحديث، كان لبعض الزعماء والرؤساء أدوارهم المهمة في توجيه دفة المسيرة ووضعها في الطريق الأنجع. وقد جاءت تلك الأدوار الفاعلة انطلاقاً من المكانة الكارزمية لأولئك القادة من جهة ولصواب ما نهضوا به من خطوات واتخذوه من قرارات فضلا عن العلاقة الإيجابية المخصوصة الهوية مع الشعب. ومن أجل ذياك الدور الاستثنائي للقائد لابد من توافر جملة خصال تميزه بشكل عام وينفرد بها في اللحظة التاريخية وما تفرضه من محددات ومطالب.
ومن جملة تلك الخصال أنْ يكون الرئيس مؤمناً بأمته وشعبه وبتطلعاتهما حاملاً لهمومهما في أدائه بكليّته وشموليّته. ومن أجل ذلك فإنّه من واجبه أن ينهض بتسهيل رسم الأهداف المباشرة وغير المباشرة التكتيكية والاستراتيجية في اللحظة التاريخية التي يمر بها الشعب. وذلك بوساطة حوار معمّق مفتوح مع القوى والحركات المجتمعية الأوسع تمثيلا لفئات الشعب. وطبعاً في ذات الإطار، أن يكون حاضراً بوعيه للإجابة عمّا يعترض الحوار من أسئلة وعقبات وما يجابه محاولات رسم الخطط والبرامج وخارطة طريق الحاضر والمستقبل من مطالب.
وعدد من الزعماء الذين قادوا شعوبهم لم ينتظروا أن تأتيهم الرؤى ناضجة مكتملة من المرؤوسين ولذا تجدهم أصحاب مبادرة في توفير الإجابات المنتظرة، وفي توفير ترتيبات الخطى التي يحتاجها الحراك المجتمعي برمته. ومن الطبيعي أن يكون من يشغل موقع الرئاسة؛ بخاصة المميز قيادةً وتوجيهاً للأمور متصفاً بنزوعه إلى تشجيع الحراك الإبداعي المبادر بشتى ميادينه. وأنْ يستطيع تفعيل جميع الطاقات الموجودة لديه وتجنب أيّ تعطيل لطاقة فئة أو مجموعة أو حركة أو تيار وحتى أيّ فرد في بنية المجتمع.
ومن هنا فإنّه يدفع حتى تلك الطاقات المتلكئة للعمل مستثمِراً إياها بمعركة التحرر و\أو البناء والتقدم؛ وهذا الأمر يتطلب منه احتراماً وطيداً لقواه المجتمعية ومبادلتها الثقة التامة، وأعمق تقدير لرؤاها ومعالجاتها وملاحظاتها في خارطة طريق العمل والبناء، وهو ما يتطلب الابتعاد نهائياً عن أيّ شكل قد تشعر به فئة أو مكون مجتمعي بالإهمال.. ومثل هذا بالتحديد هو ما استمت به الشخصيات التي سنمر على تناول سيرها وأدوارها.
إنّ أولئك الرؤساء كانوا دائما مع فكرة الاعتراف بالآراء المطروحة وطنيا إنسانياً والاعتداد بها، مع أقصى درجات التفهم لما يدور في تلك الحوارات الوطنية ومن ثمّ البناء عليها قدر المتاح والممكن، لتشكيل مسار خارطة الطريق البنيوية السليمة. هذا فضلا عن ابتعادهم عن التسلط الفردي وتعمقهم بممارسة أساليب العمل الجمعي من دون التخلي عن المواجهة الإيجابية البناءة، بقدر تعلق الأمر ببعض عناصر تختلق العثرات بقصد أو من دونه الأمر الذي يتطلب المكاشفة والمصارحة والوضوح والحسم تجاه مثل تلك العثرات المقصودة أو غير المقصودة.
لقد تميز الرؤساء القادة بدقة توجيهاتهم وحزمهم في الاتجاه نحو إنجازية مميزة، وقدرات تدخل بتوقيت وأسلوب مناسبين للتصدي لحالات سلبية قد تنحرف عن المسار أو تشكل له عقبات كأداء. لكنّ مثل هذه الممارسة لم تتم على أساس تمييز بين فئة وأخرى بل تمت بحيادية وبروح موضوعي دقيق في تقويم الخطى والممارسات والطروحات وما أمكن الأخذ به مما لم يمكن فيها.
إن الروح الديموقراطي واستيعابه الفعل الجمعي يكمن في احترام المكونات كافة بتنوع التوجهات الفكرية السياسية الممثلة لها؛ وهو الأمر الذي خلق ويخلق التوافق والانسجام وتوحيد الرؤى. كما أن الإيمان بأنه ليس من الضروري تحقيق الاتفاق (التام المطلق) بين الجميع أمر يتطلب الحسم والفعل الحكيم الحازم الذي تُجمِع عليه القوى المجتمعية من خلال شعورها بالحيادية الإيجابية بموقف الرئيس أي بالوقوف على مسافة واحدة من الجميع.
وهكذا فإن تميز الرئيس بمرحلة بعينها وتميز دوره ونجاحه، يعدّ قوة حيوية دافعة من أجل الوصول إلى الغايات السامية النبيلة التي يتطلع إليها الشعب. ولعل حركته وقراراته وقدرته على توجيه الأمور هي ما يتحصَّن ويقوى بالتفاف الشعب وقواه المجتمعية السياسية والمدنية حول ذاك الرئيس وحول أسلوب عمله وخارطة الطريق التي يمضي بقيادتها من أجل التحقيق والتنفيذ.
ومما شهده التاريخ من أدوار الزعماء في توجيه المعارك الوطنية الكبرى؛ تلك الشخصيات الكارزمية التي خلدها التاريخ، سواء اتفقنا مع معتقداتها وفلسفاتها أم اختلفنا معها جزئيا أو كلياً، من مثل شخصيات (المهاتما غاندي) و (هو شي منْه) و (جمال عبدالناصر) و(عبدالكريم قاسم) وغيرهم.
ولنلاحظ نموذج غاندي (Mohandas Karamchand Ghandi) الذي كان زعيماً روحيا سياسياً للهند إذ كان رائداً للساتيارغراها أو مقاومة الاستبداد بوساطة فكرة العصيان المدني أو اللاعنف الأمر الذي كان ومازال يُلهم الحركات المدنية والحقوقية بطابعه اللاعنفي السلمي عالمياً. ونظراً لهذا الدور المميز فقد حمل غاندي لقب المهاتما أي الروح العظيم كما حمل لقب بابو أو الأب ومن هنا فإن تاريخ ميلاده في الثاني من تشرين أول أكتوبر بات يُحتفل به وطنيا في الهند مثلما يُحتفل به عالميا كيومٍ للاعنف.
لقد حفل تاريخ غاندي بمقاومة العنف والاستغلال والفقر وواجه العنصرية التي وجدها في العشرين سنة التي عاشها في جنوب أفريقيا وعندما اجتهد في كفاح الهند ضد الاحتلال رفض نصائح استخدام العنف مستفيدا بذلك من قراءاته وتجاريب الشعوب الأخرى وآليات تنفيذ الأمر في الهند بظروفها المخصوصة.
أما النموذج الآخر فهو الزعيم الفيتنامي (هو شي منْه) وهو الرئيس الأول لفيتنام الشمالية ومؤسسها والرائد في حركة النهضة القومية في الهند الصينية برمتها. ولخصاله الكارزمية اُشتُهِر بلقب العم هو اللطيف وأسس نفوين أي كوك النواة للحركة الوطنية الفيتنامية ونضالها السياسي والعسكري ضد اليابانيين ثم الفرنسيين والأمريكان وقاد الرجل حرب عصابات تتلاءم وظروف المعركة وقناعات الفيتناميين. لقد كان دور الزعيم هو شي منه في تلك الحرب دوراً جوهرياً رئيساً، ولم يقف عند حدود الدعم اللوجيستي من بعيد ولذلك تم نقل المعركة إلى قلب فيتنام الشمالية عبر الغارات الجوية المدمرة من دون تمييز وصلت إلى هانوي العاصمة. وربما لم يستطع هو شي منه أن يحقق حلمه التاريخي بتحرير الجنوب الفيتنامي لكن خطاه ورؤاه وفلسفته النضالية مكّنت فيتنام من الانعتاق والتحرير وإقامة الدولة الوطنية المستقلة.
وبالإشارة إلى الظروف التي يبرز فيها دور رئيسٍ بشخصية كارزمية نذكر هنا مثال الزعيم المصري جمال عبدالناصر الذي مارس السياسة من أحياء الاسكندرية والقاهرة الشعبية ليلتحق بالعسكرية وينهي دراسته بها ويتولى السلطة بعد ثورة 23 يوليو التي أنهت الحكم الملكي. وقد برز دور الزعيم الراحل عبدالناصر في موقفه الحيادي من القوى الدولية التي خاضت الحرب الباردة وقراراته التي تصدى فيها لأشكال الضغوط التي وصلت حدّ خوض الحرب دفاعا عن سيادة الدولة المصرية وعن مصالح الشعب في بناء المشروعات الاستراتيجية مثل السد العالي؛ ونظرا لإدارته تلك المعارك السياسية منها والحربية تعززت مكانته فاتجه أكثر نحو قرارات التحديث والإصلاح الاقتصادي والتأميمات فضلا عن تصديه لمهمة وحدة القومية العربية وبلدانها وتفعيل دور مصر في قيادة حركة عدم الانحياز.
أما في العراق الحديث فقد كانت ثورة 14 تموز مفتاحاً لبروز دور مميز كبير للزعيم عبد الكريم قاسم وهو من منطقة شعبية ببغداد. ولقد شغل قاسم منصب رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع وكالة حتى مقتله في انقلاب 1963. ساهم في عضوية حركة الضباط الأحرار التي أنهت الملكية وأقامت الجمهورية العراقية الأولى. وعُرف بوطنيته وحبه للفقراء ودفاعه عن مصالحهم.. ويسجل التاريخ له قيادته لمهام الثورة الوطنية الديموقراطية التي شرعت الإصلاح الزراعي وقوانين النفط والأحوال الشخصية وتحسين الأوضاع الاقتصادية. ومثله مثل جمال عبدالناصر الذي شهد الحرب بفلسطين عام 1948 وتفاعلاتها السلبية وردود الفعل على النظم العربية التي تركت جيوشها بلا غطاء فعلي يرتقي لمستوى المعركة. واتسم قاسم بالنزاهة والبساطة والابتعاد عن المظاهر الباذخة الأمر الذي قرّبه من قلوب أبناء الشعب بخاصة الفقراء الذين لقبوه بأبي الفقراء.
والحقيقة أننا لا يمكن أن نتحدث عن شخصية يتم الإجماع المطلق عليها. لكننا يمكن أن نتحدث عن شخصيات مارست قيادتها الكارزمية من جهة ومن جهة أخرى أدت دورها الذي فرضته الظروف بطريقة جد متميزة. مثلما مررنا به على مثال المهاتما غاندي وهو شي منه وناصر وقاسم وأغلبهم انتهوا بالاغتيال من عناصر متشددة متطرفة؛ فمن دون ذلك لم يكن ممكنا تحدي إرادة الشعوب في خيارها لتلك الشخصيات ووضعها على رأس السلطة والقيادة والالتفاف الأوسع حولها…
إن كل القراءات الموضوعية تقول إنه لا يوجد امرئ أو قائد يتم الإجماع عليه ولابد من وجود بعض اختلاف في الرؤى ووجهات النظر وخروج من فئة أو أخرى عليه.. لكن ذلك لا يمنع من الانتباه إلى ما تحتمه الظروف النوعية من واجب التمسك بزعيم أو رئيس يعبر به الشعب مرحلة بعينها باتجاه الاستقرار. وبخلاف ذلك فإن مناداة بعض العناصر بمبدأ التداولية على سبيل المثال في مرحلة معقدة تحفها ظروف قلقة غير مستقرة حتى مع أخذ النية الطيبة بالحسبان إلا أن تشخيص تلك النداءات ربما لا يدخل إلا في إطار مزايدات مراهقي الخطاب السياسي غير الناضج.
ويمكننا هنا بعد كل هذه الأمثلة وبعد التوكيد على صواب استراتيجي لوجود قيادات ورؤساء تفرض شخصياتهم الكارزمية والظروف الموضوعية المحيطة بهم استمرارهم في أداء مهامهم أبعد من الدورات الانتخابية العادية، يمكننا بعد ذلك أن نأخذ العبر ونستفيد منها في تناولنا نموذج قريب نحيا تجربته اليوم..
وعلى سبيل المثال فإن الظرف الذي يحيط اليوم بكوردستان موضوعيا يتمثل في حرب همجية شرسة وأعداء وقوى إقليمية ودولية تتحين الفرص وتتربص للانقضاض على التجربة الكوردستانية التي تتماهى ومرحلة جمهورية مهاباد التي جرى اغتيالها. وهي ظروف تقتضي شديد الانتباه إلى واجب التصدي لمثل هذه التهديدات..
ولعل من أبرز دلالات التجاريب التي مررنا عليها، هو ما ينبغي الالتفات إليه من ضرورة الحذر من تلك التهديدات وخوض الحياة وخطى السير بها إلى أمام على وفق ما تقتضيه من شروط ومحددات ومطالب. لأن التصرف وكأن الأمور تجري بشكل جد عادي سيوقع كوردستان وشعبها في مصيدة من يتربص بها بسهولة، وسيتم التمادي تجاه مكتسباتها واختراق أوضاعها الأمنية والسياسية والضغط أكثر على تفاصيل الحياة الاقتصادية المعاشية للمواطن الكوردستاني..
وعليه، وعلى وفق ما يفرضه الوضع الراهن من توجه، يجب رفع مستوى الحذر من جهة تجاه التهديدات والبحث في مزيد من وحدة الصف والكلمة الكوردستانية. وهذا ممكن ومتاح إذ أن الغالبية العظمى من الكوردستانيين وحركاتهم السياسية والمجتمعية تقف مع رئيس يمتلك السمات الإيجابية المهمة والمميزة.. فقد امتاح من عائلة مناضلة ضحت بالغالي والنفيس من أجل القضية الكوردية وانتصار الأمة وأكسبتها التجاريب الكفاحية البطولية في الحرب والسلام خبرات ودروسا وعبرا لا يستهان بها.
والجميع يدرك كم هي تلك الدروس الغنية التي تركها إرثا باقيا البارزاني الأب، واليوم يحمل الراية والرسالة الرئيس البارزاني الابن الذي لم يغادر نسمات كونه بيشمركة يفدي أرضه وشعبه. وهو الشخصية التي برهنت الأيام على خبراتها العميقة وعلى رباطة الجأش وتوظيف الآليات الأنسب لكل مرحلة نضالية.. ولعل واحدة من علامات كارزمية قيادة الرئيس البارزاني اختياره شخصية العام في رسم العلاقات الدولية وتبني نهج مميز في خارطة طريق منحت كوردستان مكانتها المستحقة دولياً.
لقد أدار فخامة الرئيس البارزاني العلاقة الفديرالية بمنطق سليم جمع فيه الحرص التام على مصالح كوردستان والدفاع عنها وعلى التمسك بخيار الشعب الكوردي للفديرالية في هذه المرحلة. وهو في الإطار الكوردستاني الشخصية القومية الأبرز اليوم في فاعليتها على مستوى مختلف أرجاء كوردستان وتطلعاتها المشروعة في الانعتاق والتصدي لهجمات قوى الظلام والإرهاب والتخريب والشوفينية من جانب ساسة بعض الأمم والشعوب المجاورة.
وفي إطار فديرالية كوردستان بالعراق الاتحادي، فإن البرامج التي كان الرئيس البارزاني مبادرا بها هي البرامج التي أثبتت نجاعتها ونجاحها في تجاوز المآزق سواء منها في الحوارات بين الأحزاب السياسية والحركات والتيارات المجتمعية أم في المجال الاقتصادي بمختلف تفاصيل مساره وأذكّر هنا بورقة الإصلاح الشامل.
وإذا كان موضوع معالجتنا هذه يكمن في مكان ومكانة بعض الرؤساء على المستوى الأممي الدولي وأدوارهم في قيادة بلدانهم وشعوبهم باتجاه الاستقرار والحرية ومسيرة البناء والتنمية والتقدم، فإننا يمكن أن نستفيد من تلك المعالجة في التجربة الكوردستانية كونها تجربة تحمل في طياتها كثير مقاربات نظيرة مع الحالات التي مررنا بها..
كما أن البحث في الجانبين الذاتي والموضوعي لقضية الرئاسة الكوردستانية، يدفعنا لتوكيد أهمية الالتفات إلى نشر ثقافة تتصدى مسبقا لاحتمالات و\أو لمحاولات قد تطلقها بعض عناصر مرضية أو حتى عن حسن نية ولكن بسذاجة في فهم آليات العمل السياسي فتتحدث عن تداولية أو عن تغيير منتظر من دون النظر في الظروف التي تعيشها كوردستان…
لكننا بالخلاصة، لسنا بحاجة للتوقف طويلا عند هذا؛ نظرا لأن الأغلبية من شعب كوردستان تدرك الأمر بوعي عال ولأن الحركات المجتمعية والسياسية تلتف حول شخصية الرئيس والزعيم الكوردستاني البيشمركة مسعود البارزاني بوصفه الشخصية الخبيرة وربان السفينة الذي قاد المسيرة بما خلَّصها من مآزق جمة ووضعها على طريق البناء والتقدم على الرغم من العواصف التي أحاطت وتحيط بكوردستان وعلى الرغم من الاضطرابات التي تحيق بالعراق الفديرالي وتعطل أغلب مفردات مسيرته، إلا أن القيادة الكوردستانية تميزت بنجاحها وتميزها بالحفاظ على الاستقرار والسير باتجاه تلبية التطلعات الكوردستانية كافة.
ولربما دعت الأحداث في قابل الأيام إلى قراءات تطبيقية مباشرة أخرى تتطلب توظيف هذه المعالجة ومحاورها وما جسدته من تجاريب في تناول المستجدات، ولكل مستجد قراءته.