لكل دولة التزاماتها المالية تجاه المنظمات الإقليمية والدولية وفي إطار المهام والعلاقات المتبادلة والاتفاقات المرسومة بقصد إيجاد أفضل الحلول التكاملية بمختلف ميادين العلاقات الإنسانية وما يترتب عليها من التزامات. وعليه فإنّ دفع مبلغ مالي بعينه من دولة إلى أخرى يقع في إطار الآتي من القراءات والدواعي:
أولاً: الالتزام الذي تفرضه القوانين والاتفاقات الدولية:
وبالعودة إلى سجل العراق سنجده دولة مؤسسة للأمم المتحدة وفاعلة في رسم العلاقات الإقليمية والدولية وما يحكمها من قوانين وما ترتسم فيه من منظمات. وفي كل هذا هناك التزامات مالية معروفة ومحددة. ولا يمكن لا للعراق ولا لغيره التنصل عن تلك المسؤوليات إذ أننا لا نحيا بوضع منعزل عن المجتمع الدولي بل نحن حالياً أكثر ارتباطا بظروفه المؤثرة في أوضاعنا.
ولعلّ من ذلك علاقاتنا مع دول الجوار ومع تحسين الأوضاع الإقليمية وإشادة أسس التعايش السلمي بين الشعوب والدول وإبعاد شبح تهديدين أولهما شبح الحروب والعدوان وثانيهما شبح الإرهاب الذي يستغل ظواهر الأزمات التي تعصف ببلدان المنطقة..
وعليه فإنّ الاعتقاد بأنّ الابتعاد عن محيطنا هو طريق لحل مشكلاتنا هو كنعامة تدفن الرأس في الرمال لكي لا ترى محيطها معتقدة أنها تبتعد عن المشكلات بينما الصحيح أن نواصل تعزيز التعاون واسس حل المشكلات وتطبيع الأجواء بما يعود سياسياً أمنياً واقتصاديا بمردود إيجابي.
ذلك أن بديل الحرب ليس سوى السلام ولابد من إنهاء خطاب التهديد وعنجهيته الفارغة التي أشعلت عدداً من الحروب العدوانية في المنطقة ومسؤولياتنا مباشرة في حل هذه الأزمة لخلق شرق أوسط جديد تتأسس العلاقات فيه على منهج السلام لا الحرب ولا منطق الكراهية والحقد والثارات وخطاب الانتقام..
كما أن بديل الإرهاب القائم على استغلال مطحنة الفقر والبطالة والأزمات المعيشية يقوم على تفعيل اقتصادات البلدان بطريقة صحية سليمة ومردود ذلك سينعكس أيضاً على وضعنا المستباح بعناصر الإرهاب التي جاءت من إفرازات تلك المشكلات الاقتصادية الطاحنة ولن يمكن لأية دولة أن تكافحه بمعزل عن التعاون الإقليمي أو بعزلة تغلق بها حدودها فالحدود مفتوحة لحراك عناصر الإرهاب وهي عناصر مرضية لا تمثل الشعوب مطلقا وينبغي ألا تكون هي من يبني لنا أفعالنا وقيمنا بل ينبغي أن نوجد ردودنا الإيجابية بتوكيد علاقات الشعوب ومنطق تعايشها السلمي..
ثانيا: في الإطار الاقتصادي:
بنيوياً لم تعد اقتصادات الدول اليوم في ظل العولمة وفي ظل التفاعلات كما كانت بحال من الانفصال والعزلة. والاقتصاد اليوم إن لم نقل يُدار فسنقول يتأثر بمنطق وآليات السوق الدولية المفتوحة وقوانينها. الأمر الذي يتطلب منا التفكر والتدبر في أنّ ما يعالج اقتصادا لدولة مجاورة له أكثر من مردود في معالجة مشكلات اقتصادية خاصة بالبلد.. والأمور تجري تكامليا.وأذكر هنا بقرارات البنك الدولي ودفوعاته للجانب الفسلطيني تأمينا ودعما لحل الدولتين وتفعيلا لمنطق التعايش اغلسلمي بينهما.كما أذكر هنا أيضا بأن دعم الجانب الفلسطيني اليوم ضد احتمال انهيار الدولة ومؤسساتها هو دفع لخطر الفوضى والحرب باشكالها مما يُنذر بعواقب وخيمة تشكل مساهمتنا مفردة في درئها…
ثالثا في الإطار القيمي ومبادئ العيش المشترك:
إنّ مبادئ الإنسانية تفرض أولويات ومن يعتذر عن ممارستها أو يقصّر ويتلكأ فسترتد عليه سلبياً ولذا علينا التذكير بأهمية نشر ثقافة بديلة لخطاب الكراهية والحقد بتعميق ثقافة بديلة للعلاقات بين الشعوب وأذكّر هنا بالنص القدسي: “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة” حيث قيم الإيثار والتعاضد هي أرضية القيم الروحية والسلوكية التي تتكافل بها الأمم والإنسانية لتجاوز الصعاب والمحن. ولعل هذا المبدأ لا يتعارض وتأمين الأنفس من مكامن مشكلات العوز لكن هل سد الحاجات تكمن في النظر إلى مبلغ زهيد تجاه القدرات الحقيقية لثروات العراق؟ وهل حقا بنا خصاصة أم أنهم يدفعوننا لغض النظر عن أسباب مشكلاتنا ونهب ثرواتنا لننشغل بحديث مفتعل عن مبلغ هامشي لا يحل لنا معضلة!؟
ففي الإطار المخصوص الذي نشير إليه هنا نموذجا، سلَّم ممثل العراق شيكاً بمبلغ أكثر من 28 مليون دولار بوصفها مساهمة للعراق تجاه فلسطين. فيما ردّ بعض النواب بتصريحات متشنجة وصلت حد وصف المساهمة بالخيانة العظمى! ولكن لهؤلاء الحق في الحديث عن أولويات الخطط وآليات العمل والتصويت عليها أما استخدام خطاب التطرف والتشنج فيرتد عليهم كونه خطابا مرضيا.. ثم لماذا يرون في تنفيذ الواجبات الدولية للعراق خيانة عظمى ولا يرون في مئات مليارات الدولارات المنهوبة خيانة أو جريمة يلزم متابعتها أولا بأول!!؟
أليس الأحرى بمن يخاف على ثروات الشعب أن يبدأ دفاعه بالتصدي للجريمة الأولى المتسببة بالكوارث التي يتحدث عنها وهي كوارث توجب تصدينا جميعا لها!؟
إن مشكلات العراق من ظواهر الفقر والمجاعة والبطالة ليست كامنة في التزامات العراق الإنسانية والدولية. ومن التضليل حرف النظر عن الحقائق حيث محاولة إبعاد نظر المواطن المغلوب على أمره عن حقيقة النهب الكارثي لثرواته والمجرمين المتسببين بتلك المصائب عندما يجري التسويق بكل هذا التطبيل لموضوع الـ28 مليون دولار..
إن دفع هذه الأموال يقع بإطار:
الالتزام بالمسؤوليات الدولية
الالتزام بالقوانين والاتفاقات المبرمة في إطار المنظمات التي ينتسب إليها العراق
الالتزام بالمبادئ الإنسانية وبقيم التعايش السلمي المشترك بين الشعوب والدول
العمل على تطبيع الأوضاع في دول المنطقة والمشاركة الفاعلة في حل المشكلات الإقليمية كجزء من مهمة درء المخاطر التي تهدد المنطقة برمتها والابتعاد عن أسلوب العزلة والسلبية تجاه النيران التي تصيب الآخر.. فالنار عند الجار ستأتي بالتأكيد علينا إن لم نساعد في اخمادها..
كما أن تبرير رفض المساهمة المُلزمة قانونيا دوليا للعراق بفكرة وجود إرهابيين ينحدرون من أصل فلسطيني أو بفكرة مواقف سياسية مرضية لأحزاب فلسطينية [تحديدا في غزة] هي مجرد رد فعل سلبي يتبنى التفاعلات المرضية لأولئك الذين يريدون إشعال النيران والحروب بين شعوب المنطقة ودولها.. فيما ينبغي أن نكون فعلا إيجابيا لا رد فعل سلبي أي أن نكون ضد منطق الكراهية والحقد ومع زرع ثقافة الإخاء والتعاون والتعايش السلمي.. أي أن نكون قوة من قوى الحل وتطبيع العلاقات بين الشعوب لا قوة للشقاق والاحتراب.
وقبل كل هذا وذاك فما نحن فيه عراقيا ليس بسبب الـ28 مليون دولار وحل أوضاعنا والاستجابة لحقوق الفقراء والنازحين والمهجرين ليس باختلاق الصخب بشأنها ولا بالتخوين والتسطيح لمعالجة القضية بل بالبحث بوضوح وسلامة عن وسائل معالجة مشكلاتنا بموضوعية ورصانة لتأتي بالحل لا بجعجعة بلا طحن..
المهم أن يأكل الناس وأن نعالج أسباب الجوع ونسد منافذ النهب والسلب ونوقف نزيف الثروات لا أن نضلل الناس بعبث خطاب الاحتراب الطائفي واستعدائهم على أخوتهم في القومية والدين وفي الإنسانية…
علينا البحث في سبل استنهاض قيم إنسانية تريحنا بمسيرتنا لا تدخلنا بمشكلات وبأشكال حروب جديدة…
إن تبرير الكراهية وتبرير العداء وتبرير الحقد وتبرير اعتزال الآخر والانفصام عنه وتبرير التمترس خلف خنادق الثارات وأشكال الانتقام بتصوير الاخر عدواً أكلنا وسيأتي علينا نهائيا يتعارض مع حقيقة أن المضللين مثيري الفتن والعداء وخطاب الكراهية هم مشعلو الحرائق وهم من يستغلوننا وينهبوننا
لنعِ الحقيقة ولا نطبل خلف من يقرع طبول حرب جديدة
لندرك الدرس الذي أدخلنا يوما بحروب عبثية أكلتنا عقودا وها هي تطل علينا لتأكل أبناءنا هذه المرة!!
القضية لا تكمن في مساهمات العراق المالية الواجبة علينا بل التي تشكل جزءا من حربنا ضد الإرهاب وضد مشكلاتنا واسبابها ولكن القضية كما يرى اصحاب الحكمة ومنطق العقل العلمي الرصين تكمن في موضع آخر تدركونه عميقا.. فلا تشيحوا بأنظاركم وببصائركم عن الحقيقة وتنشغلوا بما يوقعكم بمتاريس حروب مصطنعة جديدة ليس لنا جميعا من كل أطرافها لا ناقة ولا جمل
إنها حروب وعداوات للتغطية على المجرم الحقيقي المتسبب بمشكلات الفقر والبطالة وبكل الكوارث والأزمات الجارية عندنا في العراق وعند غيرنا في البلدان الأخرى
والحكمة أن نتمعن فيما نقول ونفعل وخلف من نسير ونضع ثقتنا
فلا تقبلوا بالشعبويين المتاجرين بنا وخطاب الكراهية الذي يحلونه بيننا
بل ابحثوا عن البديل الكامن في وحدة شعوب المنطقة والعالم وعيشها بسلام وسينعكس هذا علينا وعلى الجميع خيرا عميما