المرأةُ رمزُ السَّلامِ في وجودِنا الإنساني. إنَّها أسّ الحياة ومصدرها. ولعلَّها بأغلب حالات حراكها ومنجزها، بقيت وبشكل ثابت منتجة للاستقرار وبناء حواضر الطمأنينة والسلم الأهلي، ومن ثمَّ إطلاق حركة البناء والتنمية وإشادة مسيرة التقدم. لقد عملت منذ أول ولادة المجتمع الإنساني بقيم التمدن على النهوض بمهام توفير لقمة العيش وولجت جهوداً بمجتمع الصيد ثم المجتمع الزراعي فالصناعي. ولكنها لم تنجُ بالمحصلة من نتائج تقسيم العمل وطابع التشكيلات الاقتصا اجتماعية من أوجه الاستغلال؛ فكانت ضحية لمعالم التوحش والهمجية في سجل تلك المسيرة البشرية.
وفي عصرنا، لم يختلف الموقع الجوهري للمرأة في بُعده الاستراتيجي الأعمق. وها هو في مجتمع اليوم يمارس من جهة العمل المثمر لولادة الحياة وقيمها الإيجابية، وفي ذات الوقت الفكاك من إسار جرائم الاستغلال، حيث قيود اجتماعية لقيم التخلف والجهل المجتمعي، حيث تسعى قوى التنوير إلى إزاحة الظلام وقواه الهمجية من على كواهل مجتمعاتنا المعاصرة.
في عراق اليوم، استطاعت قوى التحرر الوطني، قوى الحرية والديموقراطية أنْ تفرض فرص التقدم في مراحل عديدة من تاريخ العراق الحديث بخاصة مع نجاحاتها السياسية مثلما حصل غب ثورة 14 تموز 58؛ الأمر الذي انعكس على مجمل الحياة العامة وأولها الموقف من المرأة وفتح فرص انخراطها في الإنتاج العام والحراك المجتمعي بكل تفاصيله مثلما انعكس قيمياً بطريقة موضوعية سليمة…
لكن حركة المجتمع الإنساني بعامة والعراقي لم تمضِ بخط مستقيم، ولم تكن بحال تنامٍ وتقدم بشكل دائم. فقد حصلت تراجعات وانكسارات، كان آخرها تلك الحال من انتشار أفكار ظلامية متخلفة تتأسس على منطق استغلال المرأة وقمع حراكها بكل مساراته. حتى وصل لمستوى متدنٍ من القيم الهمجية حيث شهدنا في القرن الحادي والعشرين مهزلة تراجيدية بشعة في إعادة تشغيل سوق النخاسة والاتجار بالنساء بطريقة شكلت عاراً ووصمةً بجبين البشرية وقيم الحداثة والتحرر. فكانت المرأة أول ضحايا هذه المتغيرات الرجعية الظلامية.
أننا اليوم بمجابهة نسب وحشية من البطالة والفقر المدقع ومن قوانين دولة وتقاليد مجتمعية متخلفة يجري إحياؤها فريستها طبعا ليست سوى المرأة وبنسب أكبر بمرات عديدة تجاه اية فئة مجتمعية، حيث تمثل الفئة الأكثر هشاشة وضعفاً لعوامل مركبة ومعقدة.
إذن، هذه هي حال المرأة العراقية الضحية المطاردة التي لم تستكنْ لظروفها ومازالت تناضل بقوة ضد أشكال استغلالها، يناصرها هنا قوى التحرر والتقدم والتنوير.
إنّ أسئلة الواقع تجثم بكلكل إجابتها على كواهلنا؛ إذ ماذا نقول للشابة التي تشهد بيع شقيقاتها أمام نظرها، من دون أن تدري اتجاه المصير الكارثي الذي وقعن فيه!؟ وماذا نقول لأخرى تُرمى على أرضية غرفة زنزانة يتعاقب المغتصبون بوحشية وسادية عليها!!؟ ماذا نقول للواتي أقدمن على الانتحار رفضاً لجرائم اغتصابهنّ البشعة!؟ ماذا نقول لكل الأسيرات المختطفات بأيدي جيف العصر ونفاياته من المرضى المتوحشين!!؟ ماذا نقول للواتي يطلبن قصف أماكن احتجازهن انتظاراً للبيع التي صارت كلمة رديفة لقاذورات التفكير المتستر بالدين استغلالا لانحدار الوعي ومسخ الضمائر وسلب العقول وسيادة العتمة!؟ ماذا نقول لشجاعة المئات ممن رفضن الانصياع للاغتصاب وهنّ يواجهن اعدامات بالجملة كما حدث مع أكثر من 150 فتاة وسيدة في الفلوجة!؟ كيف تُترك تلك النسوة ضحايا الجريمة وما تستولده الجريمة من مشاعر اختيار الموت على الذل والازدراء وبشاعات ممارسات المجرمين الهمج!!!؟
وباستمرار ثورة الأسئلة الصادمة؛ نتساءل: كيف لضمير إنساني أن يقبل ذاك الذل والانهزام أمام همجية فلسفة ذكورية تحفر وجودها بقيم الفحولة الجنسية وساديتها؟ كيف لإنسان عاقل أن يختزل إيمانه ودينه باستعباد المرأة وإشباع غرائزه الحيوانية!؟ وكيف يقبل رجل اختيار الانتساب لميليشيات العنف المتسببة بفوضى الجريمة والانحطاط بأدوات حكم المجتمع وسنّ قوانينه!!؟ كيف يقبل امرئ أن يجعل من رجال الدين مرجعا موجّها له وهم المتناسلون من الفساد والإرهاب؟ وكيف له أن يقبل لأولئك الأدعياء المضللون أن يتحكموا بإغلاق الطائفة ويضعونها في حرب مستمرة أبدية خدمة لمآربهم ونوازعهم!؟
إنّ المفارقة الأبشع في قضية داعش الإرهاب والخراب أنّنا حتى بالفريق الذي يقاتلها نجد شرعنة للفلسفة التي استغلتها لتوسيع وجودها وبسط نفوذ سطوتها وسلطتها الإجرامية. إنها الطائفية التي تتمترس خلفها ميليشيات الحرب الدائرة رحاها على حساب الوطني والإنساني بقيمهما السامية النبيلة..!!!
إن قراءة ما يُسمى نهج أو فكر «الدواعش» بمجمل ميليشيا الطائفية بأجنحتها وفرقها تدلنا إلى حقيقة التحريف والتأويل للنصوص الدينية ونثر الضبابية تضليلا للوسط الذي يسود فيه الجهل؛ واستدعاءً للقيم والأعراف القروسطية وتركيزها حصرا على منطق العلاقة مع المرأة بكل ما تستدعيه من نوازع للتفوق الجنسي وآلياته.
لكن بالمقابل علينا أن ندرس ظاهرة أخرى تستجد مع الانتقال من الجريمة والمجرمين إلى مرحلة جديدة. هي ظاهرة التعامل مع الضحية وربما توافرت في الإطار استعدادات مازالت أدنى من حجم الكارثة من جهة توفير الاستعدادات الطبية والنفسية والاجتماعية الأمر الذي سيفرز مشكلات معقدة تابعة.
وأيضا بضفة أخرى للحرب التي تأخذ طابعا طائفياً في ضوء القوى التي تتحكم بها. سنجد ظاهرة نقيضة على الرغم من الجذر المشترك. فهناك نسبة من النسوة يشاركن مع دواعش الإجرام في الممارسات العنفية البشعة. فقد كشفت الاستقصاءات أنّ نسوة الدواعش وفيهم ما يقارب الـ10% من أصول أوروبية وأمريكية، انضممن لمنطق العنف في ضوء دوافع رئيسة، كان في مقدمتها الفكر الطائفي، وبالمرتبة الثانية جاءت حال الرغبة بالانتقام لتمكّن خطاب الثأر لذويهن الذين قُتِلوا في مطحنة الآلة الجهنمية للطائفية وميليشياتها من تفكيرهن.
وفي وقت تحمل ((الداعشيات)) جنسيات مختلفة توجد أغلبية من حوالي 80% من الداعشيات العراقيات والسوريات. ويأتي العامل الذاتي لتلك النسوة في المقدمة لانضمامهن للدواعش حيث ازدياد من سقط من ذويهنّ قتيلا في الحرب ما أثار لديهن دوافع الثأر والانتقام، وهي قضية تأتي أيضا بسبب تعرضهن للاختطاف أو التعذيب والاغتصاب، وربما جاء انتقامهن بسبب مشاعر الاحتقان التي تتسبب بها حال تهديم البيوت والتهجير القسري وتركهن تحت سطوة الدواعش وعدم القدرة على اللجوء إلى الضفة الأخرى حيث الفصل الطائفي ومنطقه الأعرج الذي لا يتيح لهنّ سوى أنْ يكنّ في ضفة الجناح الطائفي النظير بخاصة في ضوء التهديد في الضفة الأخرى من جهة وفي ضوء العقلية السائدة وطابع الانحدار المأساوي بالوعي والثقافة الأحادية المرضية الوبائية.
إنّ تلك الثقافة المرضية هي ثقافة الطائفية التي تقف وراء التحاق النسوة بالتنظيم الإرهابي، ربما لبعضهن ليس من باب القناعة بالتنظيم ولكن من باب آخر يسوقهم لمبدأ (الجهاد) والاعتقاد الضال بأنه يدخل في إطارالدفاع عن عقيدة أتباع مذهب ضد أتباع مذهب آخر حيث فُرِض عليهما الاقتتال ممن يتحكم بهما ويحفر لهما المتاريس! ولربما جاءت فلسفة داعش وادعائها التمسك بالخلافة وآلياتها مداعبة جذبت آلاف المسلمين من المستسلمين لمرجعيات (متوهَّمة مدَّعاة) تؤوِّل لهم الأمور فيلهثون وراءها بلا تفكير جدي مسؤول!
إنّ تلك النسوة الداعشيات ستشكل معضلة غير قليلة المخاطر ليس لحملهنّ السلاح حسب بل لأمور أخرى من قبيل خلق واقع غير طبيعي للمجتمعات المحلية من جهة ولاحتمال عودتهن إلى مجتمعاتهن التي غادرنها بسبب الاغتراب الذي عشنه هناك يوم اضطررن للانفصال عن أهاليهن ومجتمعاتهن التي رفضتهن بسبب ما يعتنقن من أفكار غريبة مرضية.
على أننا سنتذكر حجم الكارثة والقنبلة المصنّعة بسبب تلك النسوة وظروفهن وما اضطررن إليه، عندما نلاحظ أدوارهن الفعلية ليس كونها أدوار متأتية من سذاجة بل من قناعات سياسية بتنظيماتهن. ولطالما كانت تلك المجاميع النسوية جزءا لا يتجزأ من مجتمع الجماعات الإسلامية المتطرفة المتشددة، حيث كان لهن أدوار بارزة في أنشطة تلك الجماعات. هي أكبر من تنشئة جيل سوداوي ظلامي حيث ساهمن أبعد من ذلك في الربط بين قيادات الجماعات في المعتقلات والتنظيمات خارج السجون، فضلا عن أعمال لوجستية في حرب قوى الإرهاب بدءا بمعالجة الجرحى وليس انتهاء بسلسلة أعمال التخفي والرعاية لحلقات الجريمة. ولابد من الإشارة إلى ما أثارته الداعشيات من دغدغة لمشاعر بعينها لجذب بعض الشباب من دول مختلفة بالاستناد لقيم الانحلال الأخلاقي بالمعنى الفلسفي الواسع للمصطلح وليس بحدوده الضيقة.
هذه صورة لبقعة ضوء ومن زاوية محدودة على قضية المرأة بين رحى مطحنة الإرهاب والطائفية وآلياتها. فهناك الأغلبية المطلقة اللواتي وقعن ضحايا ومن ثم تحت وطأة مفهوم أو منطق الضحية وبين نسبة من النسوة وجدن أوضاعهنّ تسوقهن إلى أن يكنَّ داعشيات مجرمات ويقعن بأسر منطق العنف والجريمة وممارستهما بالضد من قيم الإنسانية ومن طبيعة المرأة وهويتها السامية بوصفها رمزا للسلام.
وبين الآليتين نحن نضع نداءّ مهما لاستباق المشكلات الناجمة عن هذا الواقع بكل تناقضاته ودراسة الأمور بروح علمي وبأسس يمكننا فيها تجنب النتائج التالية وهي نتائج لن يكون سهلا تغييرها لحظتها إذا ما وقفنا على التل أو على أرصفة التكاسل والانتظار وسلبية القراءة.. ولربما كانت النسوة في طليعة من ينبغي أن يتخذ قرار الفعل والشروع بالدراسات المؤملة.
وللمعالجة بقية تتعمّد بتداخلاتكم وقراءاتكم