نودعُ اليوم عام 2014 والعراق ينظر وراءه بنظرة تمتلئ غضباً على كلّ ذاك المشهد التراجيدي الذي شُحِن بقائمة من الوقائع والأحداث الكارثية، لعل أبرزها تعمق سمة الدولة الأكثر فشلا حدّ انهيارها في بعض محافظاته. فقد كشف التقرير الأممي للدول الأكثر هشاشة أنَّ العراق لم يتحسن هذا العام وإنْ تراجع بالتسلسل؛ فحقيقة الأمر أنَّ دولا أخرى تداعت لتحتل المراتب العشرة الأولى فيما ترنح العراق حواليها.. والأنكى في الأمر أنه يسبق سوريا بمرتبتين في الهشاشة وهي الدولة التي تجتاحها قوى الإرهاب طولا وعرضا وتتفشى فيها جرائم النظام باختلافها.
أما ما يجعل عام 2014 بهذه التراجيدية المعتمة فهو عمق أزمة السلطة الطائفية وتفاقم الأزمة الاقتصادية من جهة ظواهرها السلبية كما تختتم السنة بانخفاض قارب الـ40% بأسعار النفط في وقت لا موارد للخزينة العراقية مع تعطل الإنتاج الزراعي والصناعي بل بتعطل الدورة الاقتصادية برمتها..! إنَّ عمق الجرح الذي ينظر إليه العراقيون بغضب كامن في تعرض أخوتهم في الوطن لجرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية فيما الحكومة ببغداد تتحدث عن ترقيعات لا تداوي جرحاً هامشيا..!
غير أنّ هذا المشهد العاصف بكل آلامه وجراحاته لا يمكن أن يطل على نهاية العام من دون بارقة أمل جدية. فالبلاد لم تخلُ يوما من القوى الوطنية النزيهة ولم يمت شعبها وهو منتج تراثٍ حضاري ومساهم في بناء السلم والأمن الدوليين مذ ولادة الدولة العراقية الحديثة…
إنّ نظرة التفاؤل الحذر وانبثاق أضواء للأمل في عراق جديد مختلف، قد جاءت من خلف غيوم لبدت السماء ولكنها باتت غيثا فليس بعد الشدائد سوى مجيئ الفرج، هكذا جاء في القول المأثور. وعندما نقول التفاؤل الحذر كي نؤكد ألا وجود لتفاؤلٍ مجاني، فهو مجرد وهم وخديعة؛ ولكن زراعة الأمل هي سنّة الحياة. فما هي إذن، المؤشرات التي دعت إلى انبثاق ضوء للأمل؟
يدرك القاصي والداني معاني تطوير دور العامل الخارجي وتأثيره والمقصود هنا دور ولادة التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب المستشري. وقد بات هذا التحالف يعقد مؤتمرات التنسيق وتنمية الجهد وتطويره بطريقة أكثر انتظاما ووضوحا بأجندته كما بات يقترب أكثر من تلبية المطالب الميدانية المباشرة ويشارك العراقيين تداول الوضع وحاجاته ومتطلباته بما يمكن أن ينعكس إيجابا على التفاعل مع المطالب النوعية اللازمة لدحر الإرهاب.
من جهة أخرى شرعت أطراف إقليمية بالمشاركة في دعم الجهود الدولية والمحلية في مطاردة فلول الجريمة الإرهابية. ولكن ما ينبغي هنا وما يتبقى، يكمن في واجب الطرف العراقي بمد جسور جدية وحقيقية مع الأطراف المشاركة على أساس المصلحة الوطنية وبرامجها وليس على أساس ما مر يوما من حال قطيعة مصطنعة مع عمقه الإقليمي العربي أفضت لاجتياحات منظورة وغير منظورة للقوى والعناصر المرضية الخارجية بكل امتداداتها..!
إنّ موضوع التوازن في العلاقات سواء مع المحيط الجغرافي أم دوليا لا تتعلق بتوازن رياضي مجرد بل بتوازن يقدم مصالح العراق ويقوم على المشتركات الإيجابية التي تحددها الاتقاقات لا الأنشطة الخفية لأطراف بات لها أكثر من شكل لتدخلها السافر..!
أنَّ عراقاً وطنياً سليماً معافى لا يمكن أن يكون إلا في الإطار الفديرالي واحترام معطياته. ويمكننا بالخصوص أن نشيرَ إلى أن الانتصارات التي حققتها قوات البيشمركة، جيش حماية كوردستان، تمثل نموذجا وطنيا مهما وكبيرا للعراق الفديرالي ولحكومته الاتحادية، إذا ما أخلصت النية وأصابت في رسم برامجها وفي متابعة التنفيذ بطريقة موضوعية صحية سليمة.
وعليه ومن أجل أن يكون التفاؤل الذي نطلقه محتفظاً بحذره وألا يكون ساذجا مفرطاً بلا مبرر فنحن أمام مهام وطنية كبرى تتعلق بجملة أمور رئيسة وذات أولوية يلزم النهوض بها، ونجملها بالآتي:
- تحقيق تنمية بشرية جوهرية تنهض في تغيير منطق العقل العام وطابع اشتغاله ونقله من حال التجهيل والتخلف إلى حال التنوير الثقافي المعرفي. الأمر الذي يتطلب منح الأولوية للتعليم والثقافة.
- إطلاق الدورة الاقتصادية برسم خطط إصلاحية في مجالات الزراعة والصناعة والتركيز على موضوعات بناء الركائز وإصلاح البيئة وزراعة المحاصيل الاستراتيجية والغابات والأحزمة الخضراء للمدن ومعالجة التصحر وتهديداته الخطيرة ومن ذلك قضية شحة المياه..
- استكمال البنية القانونية والمؤسسية لهياكل الدولة العراقية وضمان استقلالية السلطات وعملها وإصلاح تلك التي شرعت الأبواب على مصاريعها لأمور سلبية خطيرة مثل تكريس الطائفية والتناحرات والتعارضات الهيكلية.
- إطلاق جهود المصالحة الوطنية فعليا وتعزيز مسارات الثقة بين جميع المكونات والأطياف والقوى السياسية من دون استثناءات مسبقة ولا يحد المسار سوى سقف ينضبط بمصالح الوطن والشعب وسيادتهما وأمنهما.
- تمكين الشعب من الإدارة العامة للدولة بطريقة تضمن الحقوق والحريات العامة والخاصة بأوسع معانيها وليس بأسسها الشكلية المفرغة من القيمية والدلالة المبتغاة وعلى سبيل المثال فإن العدالة الاجتماعية ومحو ظواهر الفقر والبطالة هي جزئية من الحراك الحقوقي.
- وبشأن القضية الأمنية الشروع باتجاهين متزامنين في العمل بإطارها:
أ. ضبط حراك الميليشيات وانتشارها والشروع بمهمة حلها وتفكيكها ودمج عناصرها بالمجتمع المدني ومؤسساته عبر مشروعات استثمارية مناسبة.
ب. تنظيم التشكيلات العسكرية والأمنية والاستخبارية بأسس وطنية سليمة وبعقيدة تتلاءم ومهامها العاجلة. ويلزم هنا التوكيد على إبعاد التشكيلات غير الرسمية الحكومية وحصر السلاح والعمل بالقوات الرسمية المعتمدة بأسسها الجديدة.
- إشراك من يمكن إشراكه في الجهد الوطني العام للسير إلى أمام بعملية استعادة سلطة الدولة وهيبتها وفرض النظام العام. وبهذا الخصوص لابد من مؤتمر وطني عام لإطلاق أسس العمل بما ينسجم والدستور وجديد بناء العراق الفديرالي الديموقراطي.
لقد طوى العراق في سنته الفارطة صفحة أفشت حقيقة طابع بنيته فهو الدولة الأكثر فساداً والأكثر فشلا والأكثر هشاشة وهو الأسوأ بله الأخطر في ميدان أمن شعبه بخاصة هنا ما يتعلق بمكوناته الصغيرة عدديا وبشرائح مهمة مثل الأساتذة والعلماء والإعلاميين والصحافيين ومثلما الموقف من النساء اللواتي بتن يتعرضن للعنف بكل أشكاله من العنف الأسري اللفظي والمعنوي والنفسي إلى العنف الجسدي الذي يبدأ بالضرب والتعذيب ولا ينتهي بالاغتصاب بل بالقتل والتمثيل بالجثث وحرقها أو دفنها حية!؟ مع ظاهرة الرق حيث افتتاح سوق نخاسة وعبودية في القرن الـ21…
فهل يطوي العراق مفردات الأسى والجريمة ووجع الكوارث والجراحات الفاغرة المستمرة في وقوعها الاعتباطي والمخطط!؟
الأمل موجود، إذا ما تنامى أثر قوى الديموقراطية وبناء الدولة المدنية. فمن دون العامل الذاتي لا يمكننا أن نلبي مطالب التغيير. فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. أما من يأتي من عناصر مرضية من خارج الوطن فليس يهمها سوى النهوض بما يلبي أجندتها وكل ما سوى ذلك لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد فهو يمثل جهته أو بلده الغريب قبل أن يفكر بالمشترك مع بلادنا. بصيغة أخرى فإنّ مَن يبني العراق ليس غير أهله بتنوعات أطيافه.
إنّ الأمل موجود ومفتوح وممكن التحقيق أيضاً في ضوء المتغيرات وفي ضوء نهوض أبناء العراق بمهامهم. ومن المؤكد ألا وجود لمن يقول إنني لا أرغب ببناء بيتي ولكن الأمر بحاجة لتفعيل ودعم ورعاية. أي أنّ الاحباط هو مجرد استسلام للسلبي فيما الأمل قرار داخلي نتخذه نحن بقصد تبني مشروعات التغيير والتوجه نحو استكمال عوامله وعناصره سواء منها الداخلية أم الخارجية.
وحبذا لو أن الحركات السياسية وتياراتها اتخذت برامج عمل بدل تحليلاتها المطولة التي لا تتجاوز وصف الحال. فالمواطن ليس بحاجة لوصف حال يعيشه بتفاصيل يومه العادي ولكنه بحاجة لدعم آماله ببرامج تدله على خطى التغيير وتشرع بمسيرة بناء وتنمية وتقدم.
هذه وقفة موجزة أشرنا فيها إلى نظرة غضب تجاه ما انقضى من انحدار ومن مآسٍ وكوارث حفرت جرحها غائرا في عمق الجسد العراقي وهي حال الغضب التي تدفع للقول كفى فتحسم نهائياً التداعيات المرضية السلبية وتبدأ بخطوات تنفيذ الأمل وتوسيع بواباته على عراق جديد هو عراق فديرالي تكتمل فيه بنى دولته المدنية ويجري تطبيع الأجواء بكل ما تقتضيه من تحولات..
ولهذا، فإنَّني ألخص هذا الجهد بنداء إلى كل العراقيات والعراقيين كيما يفتحوا تلك البوابات وينسحبوا من تحزب لأطراف قسمتهم ومزقتهم ويكونوا صفا واحداً مع وجودنا الذي يتحقق فيه الأمل وكل عام وأنتم الأجدر بالانتفاض لأنفسكم والارتقاء بصنع جنان لحيواتكم…