أكد الدستور العراقي على تشكيل الهيأة التشريعية في العراق الفديرالي من مجلس النواب ومجلس الاتحاد. وأباح للمجلسين ممارسة الأنشطة في إطار الهيأة التشريعية وقد تشكل مجلس النواب وتمّ انتخابه لدوراته الأولى على الرغم من الثغرات التي اكتنفت الانتخابات من نواقص بقوانين الأحزاب والانتخاب والهيآت المعنية، إلا أنه جاء لينهض بالجهد التشريعي كاملا مع وجود الفراغ التشريعي بسبب عدم سنّ قانون مجلس الاتحاد ومن ثمّ عدم تشكيله وترك مهامه لجهات مؤسسية أخرى بالمخالفة والنصوص الدستورية.
المشكلة القائمة في الثقافة القانونية التي تمت إشاعتها بكون مجلس النواب هو صاحب الصلاحية المؤسسية الكاملة للتشريع فيما نصّت المادة (48) على أنَّ السلطة التشريعية الاتحادية تتكون من:”مجلس النواب ومجلس الاتحاد”. بمعنى أن صلاحيات التشريع تنقسم بين المجلسين وأنّ البرلمان هو الهيأة التشريعية المركبة المكونة من المجلسين وليس من مجلس النواب حصراً كما يصوره بعضهم ومن ثمّ يحصر به المهمة التشريعية؛ وإلا فما معنى ومسمى هيأة تشريعية!؟
إنّ النصّ الدستوري حاسم وواضح ويجب وضع كل التفاصيل القانونية التي توصّف آليات عمل مجلس الاتحاد وتعتقه من الأسر في قمقم أدراج الإغفال المتعمّد طوال الدورات البرلمانية السابقة. علما أنّ أصل الأمور بعد الاستفتاء على الدستور أن تعمل الجهات المؤسسية المعنية على سنّ التشريعات القانونية وتتخذ الإجراءات لتنفيذ ما أراده الشعب بدستوره. وعلى وفق منطق العمل الدستوري تكون كل الأعمال التي أنجزها مجلس النواب تحت المساءلة والمراجعة بولادة مجلس الاتحاد.
وبنيوياً ينبغي أنْ يتشكل مجلس الاتحاد من: ممثلين عن الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم وأنْ ينظم تكوينه بقانون يحتوي على شروط العضوية فيه، وعلى آليات العمل والعلاقة بمجلس النواب واختصاصاته، وغير ذلك مما يلزم تأطيره القانوني بحيث ينتهي بسنّ القانون بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب على وفق الخطى الإجرائية التي رسمها الدستور الدائم وأن يتم معالجة خرق السقف الزمني وما ترتب عليه طوال المدة المنصرمة.
لقد جرى تعطيل كثير من مشاريع القوانين ذات الأهمية الاستراتيجية ببنية الدولة ومأسسة وجودها وقنونته؛ من مثل قانون النفط والغاز وقانون الأحزاب وقانون المحكمة الدستورية وغيرها، وبهذا قامت جهات ربما غير مؤسسية بمهام تلك المؤسسات المعطلة بتعطيل تشريع قوانينها ولوائح عملها. ولربما نهضت المحكمة الاتحادية بدور مجلس الاتحاد بعملية نقض القوانين أو إقرارها إلا أنّ ذلك يظل أمراً غير دستوري قطعاً تسبب بمشكلات كبيرة أثرت على سلامة العملية السياسية وصحة مسارها.
أما بشأن موضوع تداخل الصلاحيات فإن القوانين التي يتم تشريعها يوجد فيها ما يحيل إلى تعديلات واجبة تعالج احتمالات التعارض وتنضبط مبدئياً بالدستور وبالحلول التشريعية المناسبة. لكننا لا يمكن أن نتذرع بفكرة رفض قانون مجلس الاتحاد منعاً للتوزاي في الأداء بين فرعي الهيأة التشريعية لأنها دستوريا معنية بضبط القوانين ومنع إصدارها بالمخالفة مع الدستور وبحال العجز هناك مؤسسات دستورية أخرى وهناك صوت الشعب استفتاء أو إجراء للعملية الانتخابية ولا يجوز التدخل بسلطة أحد فروع الهيأة التشريعية وسلبها دورها لمجرد التوجه لحصر السلطات التشريعية في جناح من دون آخر.
كما يجب أن نتذكر أن التمثيل الفردي للنائب للدائرة الوطنية في مجلس النواب يتم استكماله بالتمثيل الجمعي للنائب الموجود بكتلة تعبر عن إقليم أو محافظة أو مكوّن أو طيف عراقي بعينه. ويلزم أن يمثل مجلس الاتحاد مكونات الشعب وتركيباته الإدارية بما يلغي التعويل على تمثيل الكوتا التهميشي لأقاليم البلاد ومكوناتها الممثلة فديرالياً.
ومن هنا فإن صلاحية مجلس الاتحاد إذا تم تحجيمها أو سلبها مسبقا منه يكون لا معنى من وجوده بوصفه أحد جناحي السلطة التشريعية؛ وليس هيأة وسيطة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية فهذا تأويل غير مسوّغ بمادة دستورية بل يتعارض والنصوص الدستورية. وعليه وجب إزالة الوهم الذي يستبعد كون مجلس الاتحاد جزء من التشريع ومهامه الثابتة في إطار الهيأة التشريعية ..
إنّ هذا الوهم المتولد عن حصر التشريع بمجلس النواب في مرحلة بعينها قد جاء بعد أن صيغ الدستور بقرار فرض تعديله واستكماله بعد ستة أشهر، وربما لشؤون أو مبررات أخرى ليس موضع الإشارة إليها هنا، وربما من بين مهام الحصر التشريعي تساوقاً مع الجانب الإجرائي في ترتيب تسلسل بعينه لبناء تلك المؤسسات الدستورية وبعد استكمالها يجري التعديل في ضوء سنّ القوانين التي تنظر إلى الجوهر في المعطى الدستوري لا المظهر. بخاصة أننا ندرك معاني وجود النصوص وتجنبها في بعض البلدان كيما تبيح للتشريع فرص البحث عن المقاصد الباطنة أو الجواهر لا المظاهر والجوانب الشكلية.
فضلا عن ذلك فإن حصر الصلاحيات التشريعية وسن القوانين الاتحادية بمجلس النواب تتوقف حدودها الإجرائية باستكمال الهيأة التشريعية التي تعني ولادة مجلس الاتحاد لساهم بدوره الجوهري المنبثق من تسميته شكلا بالاتحاد أو مهام الفديرالية ودراسة ملاءمة القوانين للأقاليم والمكونات وعملا وجوهرا بمسمى مضاف كونه جزءا رئيسا من الهيأة التشريعية وفك التناقض بين كونه هيأة تشريعية وبين سلبه صلاحيات التشريع يكون بإثبات الصفة التشريعية له لا بسلبها وبتفسير الدستور من هذه البوابة لا من بوابة فرض الشكل والنص الجامد المتعارض مع جوهر المقاصد الدستورية.
وعليه فإنّ القول بأنّه لا يبقى لمجلس الاتحاد إلا عدّه جهة استشارية في المسائل الخاصة بالأقاليم والمحافظات بتبريره بما ورد في المادة 65 هو قول ينافي المقاصد الدستورية بل حتى النصوص الدستورية طبعا شكلا وموضوعا.
لقد طالبتُ شخصياً وآخرون بتشريع قانون مجلس الاتحاد، لكنني أضع تنبيها على احتمالات سلبه صلاحياته قبل تشكيله. وهو أمر يتعارض ومهمة بناء مؤسسات الدولة العراقية الفديرالية الحديثة فضلا عن تعارضه مع الدستور وخيارات الشعب العراقي المميز بتنوع أقاليمه ومكوناته واطيافه. وسلب مجلس الاتحاد صلاحياته يعني تفريغ المحتوى الفديرالي لبنية الدولة العراقية.
وعليه فإنّ مطالبتنا هذه ترقى لدعوى قضائية باسم الشعب ضد تلك محاولات تعطيل تشكيل مجلس الاتحاد واليوم بعد فرض وجوده تجري محاولات سلبه صلاحياته. فيما كانت أيدتنا في مطلبنا الدستوري الأمم المتحدة عندما دعت العراق نهاية العام الماضي إلى إنشاء مجلس الاتحاد ليكون رديفاً لمجلس النواب ويستكمل بنية الهيأة التشريعية ومن ثم إعادة ضبط الصلاحيات البرلمانية على وفق هذا الاستكمال المتأخر كثيرا عن سقفه الزمني وما يعنيه هذا التأخر من إلزام بمراجعات قانونية على وفق جوهر المقاصد الدستورية.
وقال أكد نائب الممثل الخاص للأمين العام في العراق للشؤون السياسية في بيان له في حينه على أنَّ:”هذا الكيان يضم ممثلين عن الأقاليم والمحافظات وسيكون مكملا لمجلس النواب الذي يمثل الشعب العراقي وذلك بهدف مراجعة القوانين التي يسنها مجلس النواب إضافة إلى المهام الأخرى التي قد تسند إليه بموجب القانون الخاص به مثل مراجعة أو تصديق ما يصدر عن مجلس النواب أو السلطة التنفيذية”.
إنّ قضية مجلس الاتحاد يجب ألا تبقى حصراً بمناقشات في أروقة مجلس النواب حصراً وأسوأ من ذلك في إطار التوافقات بين عدد من قادة كتل في البرلمان؛ فهي قضية وطنية وشعبية كبرى لا تمر بقرار عابر بل يجب أن تساهم فيها قوى المجتمع المدني الحرة المستقلة والشخصيات الوطنية والقانونية بما لديها من باع طويل يمكنه أن يجسد صواب الاتجاه في رسم هذه القضية الاستراتيجية بعيدة المدى بخاصة في جانب توكيدها تعميق الوجود الفديرالي ببنية الدولة العراقية.
ويبدو لي هنا موضوعيا أن أدعو الإقليم الفديرالي الكوردستاني كونه الأكثر وضوحا في تركيب العراق الفديرالي وفي التعبير عن استقلاليته في قراره وفي خياره ومن ثمّ في أهمية دوره برسم طبيعة مجلس الاتحاد. كما أدعو القوى الفديرالية في جميع المحافظات للتعبير عن موقفها إغناءً للحوار ورفضا لسلب مجلس الاتحاد دوره بوصفه أحد ركني الهيأة التشريعية ومنع تحويله لمجرد مجموعة مستشارين معطلي المهام والأدوار!!
وللرسالة المفتوحة هذه بقية. مؤكداً توجيه رسالتي هذه أيضا إلى مجلس النواب بأمل لفت النظر لعمق ما يرتكب من خطيئة بحق الدستور وبحق الوجود الفديرالي بتفريغ مجلس الاتحاد من مقاصد وجود وهويته القانونية الدستورية.