طُويت ورقة الاتفاقات التي أقرَّتْها قوى الحكومة الاتحادية ببغداد والتي صِيغت في ضوئِها البرامج الاستراتيجية والتفصيلية التكتيكية.. ولابد هنا في هذه اللحظة من مجاراة التصريحات التي باتت تنطلق بقوة لفظية، حتى الآن، تتحدث عن إجراءات ميدانية مخصوصة من أجل دراسة الحقائق ووضع المعالجات الأكثر صواباً ونضجاً ومنع الدوران في عبارة جعجعة بلا طحن.
وفي اختيار القضية الأمنية وطنياً وما ينتظر الحكومة الاتحادية في مجالها، أي في مجال القضايا الأمنية الوطنية الكبرى، ينبغي بحث استراتيجيات تلبية مهام تحرير الأراضي التي استباحتها عصابات داعش الإرهابية وشقيقاتها المحلية والدولية. ومن ثمّ تأمين تلك المناطق من احتمالات الاختراق سواء بالعودة مجدداً من مراكز دعم لوجستية مجاورة أم من مخلفات عناصر الإرهاب محلياً إلى جانب تلك المحاور الأبرز في مجال إعداد القوات المناسبة للتحرير ولتوفير الغطاء الأمني المناسب فضلا عن ضبط الأمور في المدن العراقية الساخنة ومنها بغداد العاصمة…
ومبدئياً نعرف جميعاً أنّ قوات الحكومة الاتحادية التي تركت تلك المحافظات لقمة سائغة لعناصر الإرهاب وتركتها كل هذه المدة (مستباحةً)* بلا عودة فعلية كانت يُنتظر أن ينهض الجيش بمهامه في طردها، بعد الانسحاب غير المبرر؛ فإنّما يدل هذا على هزيمة مركبة وعلى عجز وتبخر لوجود قوات رسمية قادرة على خوض المعركة مع (أنفار) من عناصر إرهابية فما بالنا وقد تحولت تلك الأنفار والمجموعات التخريبية تمتلك اليوم أسلحة جيش نظامي من دبابات ومدفعية وحتى طيران وأسلحة ثقيلة ومتوسطة وذخائر غنمتها من القوات التي تمّ إصدار أوامر لا انسحابها حسب بل الحلّ والتفكيك وأنكى منه تضمّن القرار تسليم كل الأسلحة لتلك العصابات الإرهابية!
الآن وفي هذه المرحلة الحاسمة، أصبح أمام الحكومة الاتحادية واجب دراسة خطط استراتيجية جديدة تسعى لتأمين العاصمة بقوات جيش نظامي من جهة وبقوات الشرطة على أن يكون الأساس الوطني هو جوهر تشكيلها وأساس بنية القوات المؤمل إرسالها لاستعادة الأراضي المستباحة*.
إنّنا هنا نشير إلى أنّ المحافظات المستباحة* بعد تركها كل هذه المدة (أسيرة)، قد جرى فيها تطهير بأسس أو خلفية (دينية) طائفية سياسية كما جرى إكراه كثير من أبنائها على التجنيد لصالح قوى الجريمة الإرهابية. وأخطر من هذا وذاك فقد تعمّقت الشروخ وحال انعدام الثقة فيما يسود من ثقافة طائفية مُختلَقة الحساسيات والعصبيات والتشدد ضد الآخر.. وما يزيد الطين بِلَّةً أنّ الحكومة الاتحادية أوغلت في ركوب الخطاب الطائفي ومنطق الثأر والانتقام ودفعت بـ(قوات ميليشياوية) تحمل رايات الطائفية وآليات خوض المعركة بخطاب يُفاقِم الانقسام والاحتراب…
إنّ البديل العاجل والفوري، إذا ما أخلصت النيات وصدقت إرادة القرار، هو ذاك الذي يتمسك بالعمق الوطني ويتخلص من الخلفية الطائفية. وأول تأليف هذا البديل يتم باعتماد قوات الصفوة المدربة من جهة والمكونة بأسس مهنية احترافية وبخطاب وطني بما يطمّن أبناء البلاد بأنه يمثلهم جميعا ويوفر غطاء الأمان وجسر الألفة والوحدة بينهم.. ويجب هنا الالتفات إلى نشر ثقافة وطنية مختلفة نوعيا وممارسة جهد إعلامي يتمسك بوثائق شرف مهنية وبتبني الاتفاقات السياسية في الإطار الوطني، وهو ما يمكن مناقشته ومعالجته في محور آخر.. لكن التركيز على الجانب الأمني في هذه المعالجة هو المستهدف.
وبالعودة لتركيب قوات الجيش الوطني، سيكون حسم ملف تشكيل مجلس الأمن الوطني العراقي واستكمال تركيبته ووضع استراتيجياته وإشرافه على قيادة عامة للقوات المسلحة وخططها الاحترافية المهنية، سيكون ذلك أمراً لا يحتمل التأجيل لأكثر من أيام معدودة وأسقف زمنية عاجلة. فأما مجلس الأمن الوطني فتركيبته من الوزارات الاختصاص ممثلة بالدفاع والداخلية والمخابرات والأمن الوطني وقادة في التحالف المشكِّل للحكومة يمثلون مكونات البلاد؛ فيما القيادة العامة لا يمكن أن تخرج على العسكر المحترف وليس ذاك الذي مُنِح رتباً عسكرية بقرارات سياسية إدارية جازفت بمصير البلاد برمته بسبب ذاك العبث في تقدير خطورة وضع شخوص لم تختبرهم الميادين ولا يملكون علوما عسكرية في مسؤوليات قيادة جيش لبلاد كبيرة كالعراق!
أما الجيش الوطني وتركيبته فمن جهة يجب أن يستعيد توازنه الهيكلي في استيعاب مختلف مكونات الشعب بلا انتقائية الفصل العنصري والتمييز الطائفي ومنع ظهور هذا الخطاب ليس في بنية الجيش حسب بل في ممارسات اشتغاله وآليات وجوده.. ويكون ظهور أيّ شعار أو نشاط يمتّ للطائفية بصلة جريمة تخضع للعقوبات العسكرية الأكثر صرامة.
ولكن كل هذا ربما يشكل الخطاب السياسي منطقه الأبرز؛ ما يجعلنا نبحث بموضوع أعمق في بناء الجيش الوطني ألا وهو (عقيدة الجيش) تلك العقيدة العسكرية الاحترافية التي تتطلب منطقا واستراتيجيات وآليات حراك وتدريب ومستهدفات نوعية مميزة. إنّ تلك العقيدة العسكرية تتطلب وقفا فوريا لمغالطات توظيف (القوات الرديفة) بـ(طرق عشوائية) تنتمي للخطاب الميليشياوي ومنع إدماج أية قوات ميليشياوية بطريقة جمعية كلية في جسم الجيش. واشتراط الانتساب على أسس تستوعب الأفراد بحسب الكفاءة والتخصص والخضوع لسلطة الجيش الوطني وعقيدته العسكرية.
وربما تطلب الأمر دراسة قضية الخدمة الإلزامية المحددة والمحدودة بأسقف وقوانين لا تسمح بامتدادها لأكثر من سنة واحدة ولا تعيد أيّاً من التجاريب الماضوية في تجيير تلك القوات أو وضعها بخدمة قيادة فردية أو فلسفة تطغى في أدائها بل تظل محددة بعقيدة عسكرية محددة بقوانين وبتوجيه مجلس أمن وطني أو مجلس دفاع وطني يكون السلطة العليا في أي قرار وقيادة عامة لا يُسمح فيها بقرارات فردية متهورة أو خارج منطق الأداء الملتزم بأهداف وطنية يُجمَع عليها…
إنّ ممارسة التمارين والفرضيات العسكرية اليوم أصبحت خطوة فورية عاجلة يمكن فيها الاستفادة من الاستشارة العسكرية بطريقة مؤمَّنَة سواء في جانب الاستفادة من قادة عسكريين عراقيين سابقين أم من خبراء دوليين.. وهي خطوة للدفع بتلك القوات المدربة والمجهزة نحو الأرض العراقية المستباحة* من عناصر الإرهاب.
وإذا اتجهنا للتحالف الدولي الذي اشترط كل طرف فيه أن يكون حراً مستقلا في تقدير مواضع الضربات التي يوجهها فإن الحال فرضت (وضعاً) مَنَح فرص تصوير البلاد وخرائطها التفصيلية لدول أخرى ولكن الأهم في إشارتنا هنا هو أنه يمنحها فرص التدخل في توجيه خطوات المعركة ومسارها وهذا ما قد يطيل أمدها على وفق رؤى تلك الدول وقراءاتها الخاصة وهذا بالمقابل يمنح قوى الإرهاب فرصا خطيرة على حساب وجودنا فيستبيح سيادة الأرض وحرية الشعب..
عليه ، وَجَب أن تكون هناك خطط وطنية سليمة ناضجة وموحدة بخاصة في استقطاب البيشمركة في إطار الجيش الوطني العراقي وإنهاء ذاك الموقف السياسي المسبَّق تجاهها الذي ظل يستبعدها من أن تكون جزءا جوهريا من الجيش الوطني. وطبعا هنا ستتوافر فرص حقيقية لرسم الخطط الميدانية والأسقف الفعلية التي يمكن بها إنهاء الاستباحة للأرض العراقية للعصابات الإجرامية وسيكون هذا أول الطريق لمنع تحويل تلك العصابات من ميليشيات إرهاب تخريبية إلى هيكلتها في إطار ما يُسمى تجاوزاً على كل القوانين والأعراف (دولة ) تنبني على حساب أرضنا وأرض بلدان الجوار فتكون بعبع التهديد الدائم لكوردستان وشعبها بل بعبع التحكم بالعراق دولة فديرالية ذات سيادة والأخطر في الأمر استيلاد دولة بهيكلة عصابات الإرهاب وتجميعها من مختلف دول العالم بذاك الهيكل المسى دولة افتراءً على منطق وجود الدولة والقوانين الضابطة لها!
ومن جانب آخر، لا يمكن للضربات الجوية المحدودة أن تكون سبيلا لإنهاء لا قوات جيش نظامي ومعاركها ولا يمكن لتلك الضربات الجوية مطاردة مجاميع أنفار عصابات إرهابية تتنقل بين جغرافيا محمية طبيعيا وبين سكان مدن آهلة بالأبرياء المستباحين المأسورين.. ومثل تلك الحال تتطلب خطوات ميدانية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية التي تتمثل بالآتي:
- أولى الإجراءات تكمن في سرعة بناء الجيش الوطني العراقي.
- وتدريبه العاجل على معارك درست الحالة بتفاصيلها.
- على أن يتضمن هذا الجيش قيادة وطنية مشتركة وقيادة عسكرية عامة محترفة.
- وأنْ يتم ضمان وحدة الجيش العراقي بإدخال قوات البيشمركة بوصفها جزءا رئيسا من الجيش العراقي.
- وأن يعتمد عقيدة عسكرية ليس فيها ما يكرر تجاريب ميليشياوية بأي شكل وأي مسمى ومن أي جناح طائفي سياسي كانت.
- أنْ تُخاض المعركة بالتكامل مع إجراءات شاملة على مستوى البلاد في مفاصل أخرى من السياسية والثقافية والمجتمعية التي تتأسس على إطلاق برامج وطنية محددة المحاور والخطى.
- أنْ يجري ضبط التسلح وتوفير العتاد للجيش الوطني ومنه البيشمركة مع التنسيق بإطار التحالف الدولي لمنع وصول إمدادات لقوى الإرهاب ومنه العتاد.
إن خطى المعركة مع الإرهاب يجب أن توضع بمحاور عاجلة وفورية وأخرى استراتيجية لا تغفل المستقبل البعيد وطنياً. وكلاهما تتطلب إرادة وطنية محصنة بعقيدة سليمة وبإرادة موحدة متكاملة شاملة ومستندة إلى استثمار مثالي بأعلى صوره ومستوياته من وجود تحالف دولي كبير كالذي نراه اليوم يولد ويعمل عبر قرارات مؤتمرات مشتركة وأخرى صادرة عن المنظمة الأممية ومجلس الأمن. فلا ينبغي إفلات هذه الحقيقة بخاصة عندما نتجه لاستثمار الأمر بحملة شعبية وطنية من جميع القوى المعنية بتعميد دولة مدنية ديموقراطية تحترم البنية الفديرالية بأعمق تفاصيل استجابتها لتلبية مطالب مكونات الشعب كافة.
- استخدمت مصطلح جريمة (استباحة) و (اغتصاب) بدل مصطلح (احتلال) في محاول لضبط دقيق للمصطلح القانوني الذي يصف الحال، حيث لا وجود لاحتلال قوات دولة لأراضي دولة أخرى العراق مثلا هنا. والموجود فعليا هنا هو انهيار لمؤسسات الدولة العراقية في منطقة بعينها من الأراضي العراقية؛ وتملأ فراغ هذا الانهيارعصابات تقوم بــ جرائم ((استباحة واغتصاب وتخريب)) ولا وجود لدولة بالمعنى الاصطلاحي والقانوني المعترف به أممياً كما يحصل خطأً في حديث بعضهم عن (دولة)! لذا يجب ضبط المصطلح قانونياً، من أجل ضبط التشخيص وضبط المهام المنتظرة منا رسمياً وشعبياً. والمهمة في ضوء رفضنا مصطلح دولة تكمن في إعادة سلطة الدولة التي انهارت وانسحبت وإعادة سلطة قوانينها وإنهاء مرحلة الانهيار والانفلات وسطو قوى الجريمة وميليشيات الإرهاب التخريبية.