منذ آلاف الأعوام والسنوات تعايش العراقيون في فضاء وادي الرافدين وشادوا حضارةً هي مهدُ تراثِ الإنسانية وبنوا مدنيتها الأولى. وعلى الرغم من كلِّ النكبات والكوارث، فقد اتحدت تلك الشعوبُ مجابِهةً ما تعرضت له من مآسٍ مختلفة. ومن هنا ورثنا ذياك التنوع الأبهى لتراث مدني سامٍ حمل صواب المسيرة والخيارات الإنسانية المشرقة.
ومع ولادة الدولة العراقية الحديثة مطلع القرن الماضي تأكد خيار العراقيين، وأولهم الأطياف المكونة للمجتمع، خيارهم لوحدتهم في إطار دولة عميقة الجذور ممتدة التاريخ.. فاختار الكوردُ الانضمامَ للدولة الوليدة وأعادوا توكيد اختيار أنْ يكونوا في العراق الفديرالي في العام 2003؛ مثلما تمسَّكَت كل تلك المكونات التي طرزت بنية الشعب العراقي بتلوين إنساني مهيب، بالبقاء وبالهوية الوطنية العراقية على الرغم من كل ما تعرضوا له من ضغوط وجرائم!
لقد تعاملت حركاتٌ شوفينيةٌ حاكمةٌ مع تلك المكونات التي مثَّلت سكان البلاد الأصائل عبر تاريخها، تعاملت مع أبناء تلك الأطياف باستعلائيةٍ، طالما أشاعت ثقافة الإقصاء والاستلاب والمصادرة؛ وطالما استغلت مصطلح التهميش المعروف (أقليات) كي تمعن بتوكيد ذاك الخطاب المرضي الذي ظل يسوّق للشوفينية الاستعلائية تقسيما للمجتمع ودفعاً لما أسموه أقليات للهجرة وترك وطنهم التاريخي بلا منازع..!
ولكنَّ الخطابَ السياسي الشوفيني وأبواقه الإعلامية وكلَّ أدواته التي انصبت على اختلاق شرعيةٍ لمصطلح (أقلية) واستغلاله مرضياً إجرامياً، لم يبقَ بحدود الدعوات وأشكال التسويق والحفر والتشويه في الوعي العام بل انتقل لمراحل تالية بدأت بالمضايقة الفعلية لبنات (الأقليات!) وأبنائها بممارسة أشكال التحقير والازدراء وطبعاً ممارسات رسمية في استبعاد هؤلاء من الوظائف العامة ووضعهم في ميادين متحالفة مع خطاب التهميش الاستعلائي الشوفيني!
أما بالأمس القريب واليوم، فقد اتسع الأمر من محاولات فرض ثقافة مرضية وتوفير أرضية الاستغلال وخلفية تأسيسية لارتكاب جرائم إفراغ العراق من سكانه الأوائل، ممن شاد تاريخه وحضارته.. إلى جرائم شهدنا ارتكابها. فبعد جرائم الإبادة الجماعية الجينوسايد بحق الكورد جاءت اليوم جرائم بحق الصابئة المندائية بميسان والناصرية وغيرهما من المحافظات ثم تهجير من تبقى منهم ومطاردة الأيزيدية بالاختطاف والتصفية وها هي جريمة أشمل وأبشع توغل في سادية الممارسة بابتزاز مسيحيي العراق وتهديدهم بالتصفية (إنْ لم يُسلموا) وهم يقصدون (إنْ لم يخضعوا) لمآرب الإرهابيين ومطامعهم ورغباتهم السادية!
ها هي جرائم الاغتصاب والتقتيل تطاول أهلنا المسيحيين، في أبشع جريمة يشهدها التاريخ بحق شعب مسالم. وإذا كان واضحاً أنّ تلك الجرائم ترتكبها قوى تكفيرية إرهابية فإنّه من الواضح أيضاً أن الجريمة جرت بخلفية تتأسس على أرضية خطاب الطائفية السياسية، ومسمى الادعاء بالأسلمة أو الإسلام السياسي وخطاب تلك القوى السياسية المتطرفة الإرهابية في معاداة حقوق الناس وحرياتهم وقمعها في ترويع مقصود منه إخضاع الجميع لرغبات مرضية باتت مفضوحة اليوم…
لقد وصلت الجريمة التي مارستها داعش والمتحالفين معها من قوى الإرهاب والأسلمة السياسية أو الذين خدموا أغراضها وممارساتها وشرعنوا له، وصلت إلى مستوى جرائم حرب كون المعركة تجري بين دخلاء أجانب محتلين وبين أبناء العراق فهي حرب بحق وما يُرتكب فيها هو بمصاف (جرائم حرب) بالقراءة التي يعتمدها القانون الجنائي الدولي..
وضمناً، نشهد (جرائم ضد الإنسانية) يرتكبونها بلا وازع من ضمير وبسادية الممارسة كون أولئك الغرباء أتوا بخطاب يبيح لهم الاعتداء على كرامات الناس وأعراضهم كونهم سبايا وغنائم يمتلكونها استعباداً على وفق منطق دينهم الذي لا علاقة له بما يدعون من تمثيل للإسلام دينا أو لأي مذهب أو رؤية للشرائع والقوانين والأعراف….
إنَّ الكارثة الخطيرة، هي وجود أتباع لهذا الخطاب كونه يتلبس لبوس القدسية الدينية. ولكنْ أيّ دين منهم غير الرداء الذي يرتدونه غطاء لعري جرائمهم!؟ وإمعاناً في ذاك الخطاب أعلن كل فريق منهم أنه يؤسس دولة الخلافة معلنين خليفة لهم! ولهذا نجد الأمراء والخلفاء باتوا بعدد الجماعات والفرق الإرهابية وعصاباتها الإجرامية وانتشارها حيثما كانت الأرض هشة معدّة بثقافة التأسلم الكاذب بوصفه غطاءً لجرائمهم…
أما البديل المعاصر لمثل هذا الخطاب فكان وسيبقى كامناً في بناء دولةٍ مدنيةٍ تحترم التعددية وتشيع ثقافة احترام الآخر ومبادلته علاقات إنسانية صحية سليمة. وطبعا سيكون وجود هذه الثقافة التنويرية جوهريا في إعداد المجتمع للتصدي لا للجريمة ببشاعاتها ولكن حتى للتجاوزات والأخطاء في العلاقات الوطنية، بأصغر معالمها..
إنّنا بهذا نريد للمواطن الذي انتسب لأحزاب الطائفية السياسية أن يتذكر أن وجوده هناك عضوا بتلك الحركات والأحزاب بتنوعات ادعاءات تمثيلها لهذه الطائفة او تلك، هو مفردة في هذا الانحدار في الوعي العام.. ونحن نتطلع إلى أن يكون إدراك المواطن لهذه الحقيقة أول الطريق للانسحاب من تلك العضوية وذاك الانتساب أو الانتماء كي ينأى بنفسه عن قيادات مرضية أما أودت للجريمة والانهيار الشامل الذي نحن فيه أو أنها ساهمت بشكل غير مباشر عبر أميتها وتخلفها ففشلت في القيام بمهام إدارة دولة مركبة كالدولة العراقية بوصفها دولة فديرالية دستورياً وبوصفها دولة تتألف من وجود تعددي بقي غنياً ثراً طوال آلاف أعوام وجوده وبناء حضارته وآلاف سنوات التصدي للغزوات والمجرمين..
وفي ضوء هذه الحقيقة، كون العراق دولة مركبة، دولة التعددية الأثنية، العرقية، القومية، الدينية، المذهبية، لا يبقى لنا سوى خيار الإيمان بمغزى التعددية واحترام الآخر والغوص عميقا في معنى هذه العبارة التي باتت تتردد كثيرا من دون إدراك لمعانيها المختفية عن البصر بعد توقف البصيرة وشلل العقل وتخلف الفكر السائد…
إنّ فكرة المكونات لا تعني وضع كل مكون في إطار جغرافي أو نأسره وغيره من المكونات الأخرى في كانتونات تحكمها البلطجة الشوفينية الاستعلائية لمن يدعي تمثيل الأغلبية مخادعة وتضليلا.. إن فكرة الاعتراف بالمكونات وحقوقها تكمن في قبولنا بتنوعنا ثقافةً ووجوداً إنسانياً وعمقاً حضارياً ومسيرة بناء تتكامل بوحدة وطنية وجوهر إنساني…
هذا الإدراك و وعينا العميق للمجريات يعني الارتقاء لمستوى المسؤوليات التي نتحملها تجاه أخوتنا في الوطن تاريخا وحاضرا ومستقبلا. وما ينبغي على كل منا هو أن يمارس (حملة تغيير) بمجابهة (حملة التحول من الخطاب الإعلامي السياسي المريض إلى جرائم الإبادة الجماعية).. أما حملتنا فهي أبعد من خطابٍ ثقافيٍّ عميقٍ تنويريا ولكنها جديا تمسك بمسؤولياتنا فعليا وممارسة أنشطة التصدي الميداني بالتلاحم بحركة شعبية واسعة يجسدها خطاب التحالف المدني الديموقراطي وقواه الحية، حيث يجسدون منطق العقل العلمي والفكر الإنساني بمنجزه الحضاري المدني…
فهلا تبنينا حملات استعادة وجودنا الذي لن يعود إلا باستقرار الأوضاع وتطبيعها وتوفير الأمن والأمان لأهلنا بكل تنوعاتهم وأشكال وجودهم وهوياتهم الفرعية التي تمثل فقرات بناء وجودنا المجتمعي المتكامل..!؟ ذلكم ما يجيب عنه كل مواطن ومواطنة في بلادنا وكل حركة وحزب ومؤسسة وجمعية ولن ينوب عن أيِّ منا أحد فليتخذ كل فرد وكل حزب وكل فئة موقفه حازماً صارماً يتبنى طريق الإخاء والعدل والمساواة ويجابه محاولات التمزيق والتفرقة والتقسيم ببلطجة إرهابية مسمومة سننهيها إذا ما اتحدنا بحق ونهضنا بواجباتنا الوطنية معاً وسوياً وبلا تكاسل ولا تردد.