ظاهرة الاسهاب بالوقوف عند أطلال جرائم الأمس وإهمال الواجبات التي تنتظرنا اليوم
أننشغل بمشاغلاتنا بالبكاء أم ننطلق إلى ميادين البناء؟ ربما بعض الإجابة تكمن في أنّنا إنْ لم نجعل من الماضي درسا وموعظة فإنه سيتحول إلى مجرد أكفان تلفّنا وليس بعيدا أنْ تدفننا ونحن أحياء! علينا أنْ نفكر بأنَّ الدين ليس أنْ نحيا حزانى مكتئبين ثكالى أبدا، وأنَّ الإيمان به ليس دموعا وبكائيات بل هو قبول استخلافنا على الأرض لنعمّرها ونعيش في جنان العمل والبناء الذي نكدح من أجله.. كما أَّنَّ الشهداء لم يضحّوا كي يستمر العزاء والخراب والاستغلال بل إكرامهم يكون بأنْ نمحو آثار السواد ونشرع بالبناء والعمل. وإكرام الإنسان أنْ يستثمرَ عقله وحكمته ومنطق التنوير وصنع المسرات لا اختلاق مناسبات الأحزان ومشاغلته على مدار العام بين طقسيات دينية مزعومة مفتعلة ما أنزل اللهُ بها من سلطان ومقاتل تجتر من جرائم أنظمة الاستبداد مناسبات حزن ومشاغلة لا دروسا ولا مواعظ تدفعنا لبناء أنفسنا وبناء مؤسساتنا وتحصينهما ضد الفساد وعوامل الانحراف والاستغلال من عناصر مريضة.. فماذا نحن فاعلون؟؟؟ أننشغل بالبكاء أم ننطلق للبناء؟
ما من أحد يمكنه أن ينكر هول تلك الجرائم التي ارتكبتها نظم الدكتاتورية والطغيان بحق شعوبها، وقد كان بعضها من طراز جرائم الإبادة الجماعية إلى جانب أعمال التعذيب وأشكال الاغتيالات والتصفيات والاختطاف والاغتصاب وسلسلة من جرائم ضد الإنسانية وغيرها. ولكن من المؤكد أنّ عددا من بلدان المنطقة قد أنهت سلطة تلك النظم المستبدة وأنهت فرص استمرار جرائمها. وقد جاءت نظم بديلة بطريقة انتخابية يفترض أن تكون ممثلة لتطلعات الشعوب؛ وإنْ كانت ربما لم تخلُ من ثغرات ومن حالات ظهور اختراق هنا أو هناك من عناصر فساد [وربما عناصر معادية] وقوى أخرى غير مؤهلة لإدارة المرحلة…
كما رافقت التغييرات في المنطقة ظاهرة تركيز بعض القوى السياسية التي تتحكم بالمشهد الراهن وماكنتها الإعلامية الرديفة، على اجترار أمرين: هما مشاغلة الناس بجرائم الأمس وفرض تلك المشاغلة صباح مساء وباسترسال تأتي المغالاة فيه من كونه يأتي على حساب أية معالجة لمطالب الحاضر ومهام العمل المستقبلي.. والأمر الآخر إكراه الشعوب على دفع أتاوة [عبء] هي ثمن لــ(تضحيات) تلك القوى السياسية التي لا نقول هنا إنها عملت من أجل التغيير ولكن ربما العبارة الأدق التي ينبغي أن تقال: هي أنها اصطرعت مع النظم السابقة، وهذا يعود لممارستها دور المنتصر في حرب؛ وفي عدّ كل من الوطن والشعب غنيمة خاصة بأحزاب تيار أو آخر جاء [ربما سطا في غفلة] إلى السلطة عبر ثغرات الواقع والانتخابات التي جرت وتجري على عجل من دون إعدادات جدية مناسبة بخاصة على المستويين القانوني التشريعي والتنظيمي الأمني، وبعض من عناصر تلك القوى تمارس عمليات ثأرية وانتقامية خارج القانون وعلى نطاق فوضوي واسع.
ولتلك القوى التي نقصدها هنا وتبرر ما تقوم به بأنها: تخوض حربا إعلامية ضد ثقافة الأمس؛ فيما لا تعمل بوساطة آلتها الإعلامية سوى بالعزف ليل نهار على وتر جرائم الأمس، نقول: إنه يمكن لأية قوة في السلطة أن تقنع الناس بفضل منجزها وتلبية مطالب الناس في الحريات من جهة وفي توفير ما بقي الإنسان محروما منه طوال عقود. أما والناس مازالوا يعانون ويئنون من أوجاع باتت اليوم أشرس عبر تراكم السلبيات بتقادم المشروعات الخدمية وانهيارات في هياكل البنية التحتية.. فلابد من توكيد أن إقناع هؤلاء الناس بالعمل خير من مشاغلتهم بالكلام الذي شبع منه المواطن سنين عجاف! وليس لأحد أن يقنع أحدا بسلطته ويجري في ظلها ما كان يجري في ظل السلطة المهزومة! ثمّ ماذا يعني استرجاع تفاصيل الجريمة بهذه البكائيات المرضية؟ هل ستعيد ضحية إلى الحياة؟ هل ستمنحها أمرا؟ هل ستعالج مريضا، معوقا، جريحا، مصابا؟ أم هل ستلبي مطلبا لمحتاج؟ أم ستعالج قضية بموضوعية مفيدة؟
إنّ الموضوعي أن تكون الاسترجاعات ليست سلبية بل بدراسات علمية تعالج جرائم الأمس في إطارها البحثي الأكاديمي والسياسي.. وبالتأكيد من دون أن تكون تلك الدراسات على حساب مسيرة إعادة البناء والإعمار، ومن دون أن تكون على حساب أي شكل من أشكال العمل المنتظرة اليوم، أي من دون أن تكون اجترارا مرضيا سلبيا.
والإعلام وخطابه السياسي الجديد ينبغي أن يركز على ثقافة الحاضر لا ثقافة الأمس! بأن يركز على ثقافة العمل لا ثقافة اجترار الكلام والحكايا والقصص المأساوية.. وحتى عند معالجة جريمة أو واقعة فينبغي ألا نتناولها استدرارا لبكائيات وأحزان ومواجع في ظاهرة جلد الذات وتحميلها مسؤولية ما لم ترتكب… أو حجْر الناس جميعا في سجن أبدي ممتد جيلا بعد جيل في طقسيات البكاء. وليس من شريعة سماوية أو أرضية تقرّ إدامة أحزان الناس وكأنهم في مأساة متصلة مستمرة.. وما يلزمنا هو أن تكون تلك الوقائع الجلل بقدسيتها منطلقا لحيوية الفعل وإصرارا على تحقيق البديل الإيجابي الذي قدمت من أجله البشرية كل تلك التضحيات..
فمن يستشهد ويضحي بنفسه، يفعل ذلك في إيثار للآخر وفي محاولة لتحقيق السعادة له وإنجاز مهمة الخلاص والإنقاذ وليس من أجل أن يحجزه أسير الحزن على رحيله وسيكون من المنطق أن نلاحظ حكمة أن نوقف المآسي على وفق أوامر الأديان ونواهيها وعلى وفق منطق العقل وحكمته.
ولا أجد مبررا [ولا أقول مسوغا] ولا ذريعة يمكن الركون إليها في أعمال الثأر والانتقام، الأمر الذي دأب اجترار وقائع الجرائم على التحريض عليه! فتلكم من همجية الماضي ومن طبائع المجرمين والقتلة.. ونحن لم نقدم مئات آلاف القرابين ليأتي نظام يكرر جرائم الأنظمة التي اقتلعتها الشعوب، وسؤال الساذج ما الفرق بين الأمس واليوم إذا كررنا اجترار السلبي ومارسنا فعل الأمس بذات الشكل..!؟
إن النظم الجديدة بالضرورة إذا كانت تنتمي للشعب ولإرادته يجب أن تكون أنظمة ديموقراطية مدنية تحقن الدماء وتوقف كل أشكال الهمجية والوحشية وقوانين الغاب وتحظرها نهائيا. وتكون بديلا صحيا صائبا بفرض سلطة القانون والمحاكم القانونية التي تتوافر فيها كل مفاتيح العدل والإنصاف ومنع أشكال الغيلة والاستغلال والقمع والتعنيف والتعذيب والابتزاز و أي شكل للثأر والانتقام.. وأول الطريق لوقف الأمر يكمن في وقف المشاغلات الكلامية التحريضية الخطيرة…
إنّ الأديان التي تنتشر بين شعوب المنطقة من إبراهيمية وغيرها تأمر بمنع هذه الأساليب وقد حرَّمتها منذ قرون بعيدة خلت، والشرائع والقوانين والقيم الإنسانية تحظرها قطعا.. فما بال سياسة الإعلام الجديد دائبة على الانشغال والمشاغلة بجرائم الأمس وهي تحض وتحرض على الانتقام وتدفع باتجاه الثأر وترفع في شعارات مواكبها وراياتها وفي عناوين أعمالها ومسميات تنظيماتها مفردة ((ثأر)) وإن استغلت لفظ الجلالة (الله) كما في ثأر الله وإن استغلت مكانة الراحلين كما في ثأر القائد فلان وضحايا جريمة كذا وما شابه ذلك..!
إنّ الصحيح اليوم، ألا تولد أحزاب وحركات وتنظيمات بلا قانون يضبطها فتشغل تلك التنظيمات الناس بخطابها المرضي.. وألا يسمح بتشكيلات ميليشياوية وربما بفرص لعصابات الانتقام فتشيع نوازع القتل وأنهار الدم.. وألا ينشر السلاح خارج إطار السلطة المدنية الشرعية المنتخبة بالبلاد، فتُشاع الفوضى والجريمة من جديد.. وألا يدخل بتركيبة القوات المسلحة وقوات الداخلية والأمن أية عناصر تأتمر بمرجعية غير مرجعيتها المهنية واحترام سلامة الوطن والناس وأمنهما وأمانهما فتشلّ تلك الأجهزة وتنحرف عن مهامها… فإذا سمحنا بكل ذلك فإن دوامة التقتيل ستدور كما دارت زمن داحس والغبراء وأسوأ!
وعليه فإن الساسة وإعلامهم ملزمان بألا يتحدثان خارج المشروع قانونا ودينا وبما تقتضيه مصالح الشعوب. ولربما كان مهما وواجبا ملزما أن تسنّ وثائق أدبية للسلوك الإعلامي تحظر دعوات الثأر وتتصدى لثقافة حبس الناس في الماضي ومآسيه.
ونحن بدعوتنا إلى فلسفة التسامح الإيجابية البديلة لا نقصد غض النظر عن الجريمة والمجرم، ولا نقصد عدم محاسبته ومعاقبته أيا كان من تلطخت أيديه بدماء الأبرياء، ولكن فلسفة الإيجاب والمنطق العقلي تعني تنظيم المحاسبة بقانون يحمي المظلوم ويدفع تكرار الجريمة بالشبهة وبروح الثأر الوحشي أو بديمومة تغذية التقاتل فرديا جمعيا… ويوقع القصاص العادل بالمجرمين ليس ثأرا وانتقاما ولكن استباقا إجرائيا لمنع وقوع جرائم جديدة وعزل المجرمين وأسباب الجريمة…
وبالعودة لمعزوفة العيش في أجواء الماضي والتكرار للبكائيات والأحزان يجد متابع التلفزة والصحافة وكثير من خطابات ساسة بعينهم أنه لا همّ لهؤلاء سوى الحديث عن ذاك الأمس وعن تقليب صفحاته في نزعة اختلاق ما تكفهر به الأجواء وتحرض على طقسيات جنائزية بلا طائل فتقتل روح الأمل ومعنويات العمل.. ونزعة إثارة التباغض والاحتراب وتجييش الفرقاء بعضهم ضد بعض… أما أين البرامج التي تتحدث عن اليوم والغد؟ فهي ليست معدومة، بلى إنها موجودة ولكنها بين منزوية وهامشية وبين الامتلاء باسترجاعات مرضية لا معالجة جدية مسؤولة فيها.
وتطبيقيا فعليا هناك أمران مازالا يحتلان المركز الرئيس في أغلب اشتغالات الإعلام العراقي الخاص ببعض التيارات: هما طقسيات العزاءات ووفيات الأئمة الصالحين الذين لو كانوا بيننا لاستنكروا المبالغات الجارية [ولأدانوا المتاجرة بها] وكثير من مرجعيات اليوم حرَّموها وحظروها ولكن ما يطفوا يتبع المرجعيات الأقل حجما وعددا! والأمر المكرور الآخر سلبيا هو تحويل قراءة جرائم النظام السابق إلى طقسيات بكائية سلبية والتعكز عليها بإلحاق ((كل)) ما يجري اليوم من إخفاقات بذاك النظام وبهذا تتحول هذه الأساليب بالموضوعة إلى طقسيات أخرى كسالفتها بدل دراستها موضوعيا إيجابيا لمنع تكررها…!؟
أما الشعب فإنه مثخن بجراحاته وينتظر من يضع بلسسما عليها؛ فبعد ثماني سنوات لم يقل أحدهم له: لماذا بات العراق الأكثر فسادا عالميا والأكثر بين ميادين الإرهاب والأسوأ أمنيا والأدنى بمستويات الفقر والعوز والأوسع في جرائم الابتزاز؟ وما لدى أولئك الساسة والإعلاميون سوى الإجابة الوحيدة المطلقة هي النظام السابق!؟
ولكن لماذا لا يتخلصون من هذا النظام الذي سقط وانتهى وولَّى؟ متى يتخلص الشعب من آثار الاستغلال والحرمان والبشاعات؟ لماذا يُقتل ويُشاغل بالحديث عن المآسي فقط لا غير؟ لماذا تنعقد خيمة عزاء الشعب أبديا؟ من قال أو أمر بهذه الأبدية الكئيبة الحزينة السقيمة؟ هل قدرنا والشعب أن نبقى إلى أبد الآبدين وإلى يوم يبعثون في بكاء وعزاء ومآسي وبلاء؟؟؟
وفي مثل آخر اليوم، نلاحظ الإعلام الليبي الجديد، وإن كان مازال في بداياته، يكرر ذات المأساة بالعزف ليل نهار على جريمة النظام السابق؟ إنّ هذا [إذا ما استمر] هو مفتاح البلاء حيث أسلوب مشاغلة الناس بالأمس الذي ينبغي أنْ ينتهي؛ ليبدأ المجتمع بعمليات البناء وتلبية حاجاته .. فلم يتغير النظام ولم يقدم الشعب الليبي كل تلكم التضحيات لينصبَ خيمة عزاء أبدية.. وعلى الساسة والإعلام الجديدين في ليبيا الانتباه على التجاريب السابقة في المنطقة وعدم تكرارها.. عليهم وقف المشاغلة بالماضي البليد المأساوي وعليهم أن يبحثوا بأغلب جهودهم الحاضرة في آليات البناء وإعادة الإعمار والتغيير من أجل تلبية مطالب الشعب وتشغيل طاقاته لا في طقسيات الثأر والانتقام وفي بكائيات على مجريات الأمس الدامي…
الشعب الليبي مثله مثل شعوب الأرض كالعنقاء قوي ولود مبدع، قادر على تحقيق ما يريد ولكن من دون أن تتحكم به عناصر ثأرية أو ضعيفة.. ولا حتى لو كانت من قوى ثورة فبراير الظافرة.. لأن منطق العقل يقول: إن الشخص المناسب في المكان المناسب ويقول إن الفعل الرئيس اليوم في البناء والعطاء والبركة في الحركة.. وليس عيبا أن يكون بيننا من عناصر غير كفوءة وليس عيبا أن توجد عناصر مرضية لكن العيب أن نقبل بغشاعة ما يعيقنا عن البناء وإشادة حياتنا الجديدة سليمة صحيحة.
ومثل هذا نرصده في إعلام تونس وفي غيرها من البلدان وربيع ثوراتها وانتقالها لنظام جديد.. وعسانا بالفعل نتجه إلى العمل، البناء، النظر في خطط اليوم واستعدادات الغد وفي الآليات الإجرائية التي تتقدم بالمجتمع ولا تحجزه رهينة جرائم الأمس وأفكار الماضوية والطقسية والبكائيات وكل ما هو سلبي…
ولنتذكر أن البكائيات الطقسية واسترجاع الماضي سلبيا لا ينتج غير الشخصية السلبية المحبطة المحطمة التي لا يمكن أن تباشر عملا بناء.. فيما الانطلاق بالحيوية المؤملة سيكون بالدراسات الموضوعية المعرفية بمنطق العقل وحكمته وبالمتخصصين والتكنوقراط والعلماء.. فهلا سلَمنا إعلامنا لمناهج التغيير والعمل؟ وهلا أوقفنا خطابات التحريض والشحن والبغضاء والمشاغلة بأمس مضى وانتهى؟ هلا شرعنا بيونا من أجل غدنا؟ هلا فكرنا قليلا بمسؤولياتنا تجاه بناتنا وأبنائنا من جيل الغد؟
لكم التحية جميعا فليس لهذه القراءة من موقف سلبي تجاه طرف ما بل إيجاب وإخاء ومحاولة تقديم رؤية ربما تنفع وربما تصيب فتخدم مسيرة البناء ولا أستثني هنا أحدا.