(1) زاوية من رحلة التأسيس والأمس القريب
عادت الجامعة العراقية للحياة مجددا في كنف ولادة الدولة العراقية مطلع القرن المنصرم. فيما تاريخ هذه المؤسسة العلمية يعود إلى أول بيت للعلم والمعرفة في التراث الإنساني (السومري) مثلما يعود لبيت الحكمة والجامعة المستنصرية وهي واحدة من أوائل الجامعات المعروفة عالميا… وإذا كانت الأجواء قد تمتعت بحرية البحث والتقصي ودعم الدرس المعرفي في الأزمنة المشار إليها، فإنَّ تلك الحرية قد تحددت بشروط وقيود متنوعة مختلفة طوال مسيرة حوالي القرن من الولادة الحديثة…
إنَّ تاريخ الجامعة العراقية يشهد ببزوغ عديد من المحاولات لتعميد البحث العلمي وتحديثه وحماية حريته ورصانته.. فقد تصدى أعلام التخصص الأوائل لمهامهم بجدية وبروح مسؤول من الثبات على المواقف المبدئية حتى كان التحدي يصل إلى درجة من الاحتدام الأمر الذي كان ينتهي باعتقال الأستاذ الجامعي و\أو فصله من عمله وإبعاده أو نفيه أو تحديد إقامته ومنعه من مزاولة أي شكل من أشكال البحث العلمي…
ولطالما أعقب تلك الأحداث احتجاجات رسمية وشعبية في الحرم الجامعي فتنطلق التظاهرات ويعلو صوت الزملاء الأكاديميين والباحثين والطلبة تساندهم جموع شعبية غفيرة كما حصل في نموذج التلاحم والتنسيق عندما ساهمت قوى الشغيلة العراقية من العمال في حماية مؤتمر السباع الذي انبثق منه أول تنظيم طلابي؛ وكما جرى في منتصف خمسينات القرن الماضي في الانتفاضة المعروفة…
لقد عانت الجامعة العراقية، باستثناءات زمنية ضئيلة، من الحرمان والمحاصرة والتدخلات السافرة في سياستها وفي توجيه إداراتها وتجييرها لخدمة السلطة السياسية.. وجرى الاعتداء على الحرم الجامعي واختراق حصانته باستمرار. ومع ذلك كانت المجالس العلمية تحديدا تتحدى على وفق المتاح والممكن تلك الضغوط وتجهد نفسها لتمرير ما هو موضوعي وسليم علميا أكاديميا..
ومما يمكن الإشارة إليه هنا هو تعاضد الجهود كيما يجري تنقية لائحة أو قانون أو كيما يجري تمرير بحث علمي أو إقرار رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه بعيدا عن أعين الرقيب (الفكري) وبلفظ أدق (الرقيب السياسي القمعي).. فمرّت بنجاح طوال عقود التسلط أعمالا جدية مهمة في ظلال مسيرة الجامعة العراقية، حتى أنها كانت من بين أوائل الجامعات التي خرَّجت دفعات الريادة لقيام مؤسسات التعليم العالي في دول المنطقة…
ويمكننا الإشارة هنا إلى معارك فكرية حقيقية كبيرة وعلامات مهمة في تاريخ الجامعة العراقية. وقد حصل هذا في مناقشة رسالة الفكر الاشتراكي في الأدب العراقي المعاصر بكلية الآداب في جامعة بغداد وحصل هذا في المعركة السياسية الفكرية التي انتصرت أولا لإدخال تخصص الأدب المسرحي في قسم اللغة العربية بكلية الآداب \ جامعة بغداد وثانيا بمرور رسالتي الماجستير والدكتوراه في الأدب المسرحي على الرغم من المواقف المسبقة المتشنجة التي عارضت ثلاثة أمور ظلت مرفوضة زمنا طويلا تمثلت في دراسة كتّاب أحياء وفي مجال النص المسرحي وفي استخدام تلك النصوص للغة المحكية الدارجة أو اللهجة العامية..
كان ذلك، بمناقشة مادتي رسالة “المسرحية العربية في الأدب العراقي الحديث” ويومها علق أحد المناقشين رافضا استخدام مفردات من نمط شغيلة بدل عمال وشبيبة بدل شباب على أساس أن استخدام تلك الألفاظ يوحي بالخلفية الشيوعية التي حاول إقحامها عبثا كيما يقمع الباحث ويبرر رفض بحثه.. وطبعا مما رفضه الباحث في حينه في دفاعه عدد من الأمور أولها رفضه أن يتم تقسيم المعجم اللغوي بين يسار ويمين وأن يجري في ضوء ذلك تحريم استخدام ألفاظ قد تدعو الضرورة اللغوية البحتة لاستخدامها على أساس من القواعد المعجمية الدلالية والبلاغية الأسلوبية وثانيها رفض الحظر الصادر بحق النصوص الإبداعية بسبب من خلفية مبدعيها السياسية الحزبية (اليسارية تحديدا).. أما الأمر الثالث فكان رفض إخضاع الأكاديمي العلمي للخطاب السياسي ومحظوراته الآنية..
وانتصرت في زمن الطاغية مواقف الأكاديميين المتنورين وجرى تحدي ثوابت التقليدي المحافظ بشأن موضوعة الأحياء المعاصرين وبشأن النص المكتوب باللهجي المحكي وأخيرا بشأن إشكالية الحظر على النصوص غير الشعرية وقد سبق لنقاد وباحثين أكاديميين أن كسروا هذا الحظر بإدخال دراسة القصة والرواية وتبعها لاحقا كسر الحظر بإدخال النص المسرحي للدرس الأدبي ومنحه مكانه ومكانته البحثية، وعلى الرغم من ذلك فإن مشكلات عديدة قد منعت من تطوير هذا الانتصار للبحث العلمي وللدرس الأكاديمي.. وبقيت المعركة تدور بين المحافظين والمحدثين معركة بين متسلطين بقوة القسر ومدافعين عن المنهج العلمي والتنوير العقلي بقوة البحث العلمي وشروطه الأكاديمية البحتة.. وقد عاد هذا للظهور كما هو متوقع في ظروف تراجعات مشهودة اليوم في الحياة العامة وفي مجريات أوضاع الجامعة العراقية وظروف استقلالية عملها وممارستها الحرية الأكاديمية فتنامت مجددا سطوة قوى محافظة و\أو غير كفوءة على إداراتها وعلى توجيه التعليم العالي ومؤسساته برمتها فجاءت واقعة الموقف من خطة أطروحة دكتوراه في نصوص شاعر معاصر لتثير معركة جديدة ولتعيد إلى الواجهة مطلب التحديث في القوانين والآليات وفي واجب حماية حرية البحث العلمي…
(2) استقلالية الجامعة حرية البحث العلمي
ولمعالجة قضية الحريات واستقلالية الخطاب الأكاديمي العلمي نشير هنا في هذه القراءة إلى أنّ أطاريح الدراسات العليا، كانت ترسل، في ضوء استغلال آليات العمل وإجراءاته إلى خبير (فكري) لتشذيبها أو لمنحها رخصة المرور للجنة المناقشة.
ومعنى هذا الإجراء واضح بل سافر في فحواه وأهدافه ومتعارض مع مراد اللائحة في المراجعة العلمية المحضة.. كون الإجراء الحقيقي في هذا الموضع كان زائدا ومقحما على الآليات الأكاديمية المعروفة.. وبدل البحث النوعي في توكيد أهلية الأطروحة لعرضها على لجنة المناقشة يتم التركيز على البحث عن أية مفردات أو إشارات تتعارض وفلسفة النظام السياسي وتحديدا ما يحتمل أن يمسّ رأس الهرم، الدكتاتور الطاغية وطروحاته..
إن مجرد وجود هذا (الخبير) المرفوض قسرا من (فوق) يمثل طعنا قبيحا في حرمة الجامعة واستقلاليتها، ويمثل استلابا لمكانة العلماء الأجلاء ومصادرة لحقوقهم في حرية الكلمة والتعبير وفي إدارة مؤسساتهم وتوجيهها بمبادئ أكاديمية مهنية بحتة؛ كما يمثل قمعا لحرية البحث العلمي ومصادرة استباقية لنتائج الدرس والاستقراء والتقصي، وهو ما يحيل لزمن ظلام القرون الوسطى، زمن مطاردة غاليلو غاليلي ومعروف ما حدث له في ظل تلك العتمة الداجية وكيف خرج من مقصلة المحكمة (الفكرية الظلامية) وعلى حساب أي شيء!
وفي هذا الإطار يمكننا الإشارة إلى واقعة جرت في الأيام الأخيرة، تلك التي رفض فيها أحد الأقسام العلمية خطة أطروحة الدكتوراه بناء على أسئلة غير أكاديمية وغير علمية بالمرة..
ففي جامعة عراقية كان القسم العلمي فيها يعقد قبيل أيام اجتماعه للبحث في خطة تقدمت بها طالبة الدكتوراه.. وبدل أن ينظر في موضوعية الخطة ومنهجيتها ودرجة توافر شروط البحث العلمي فيها وصواب تفاصيلها، بدل ذلك تقدم المجلس (العلمي) بأسئلته للمشرف على الطالبة، من نمط ما (المذهب الديني) للشاعر الذي ستتم دراسة نصوصه؟ وما توجهاته الفكرية وما الانتماء الحزبي له؟ وما سلوكياته وممارساته الحياتية؟
ولعمري فإنني لم أسمع يوما أن قسما للغة العربية، قد سأل عن قبيلة شاعر عربي وعن سلوكه ومعتقداته قبل أن يصدر قراره في قبول خطة البحث.. و على سبيل المثال لا الحصر، فجميعنا يعرف ليس سلوك امرئ القيس حسب بل والمشاهد المخصوصة التي يتناولها في شعره مما يدخل في ذات الذريعة التي تبيح رفض الدراسة ولكن القرار عادة ما كان يأتي بإقرار كل الدراسات التي تناولت امرأ القيس وغيره من الشعراء ومنهم شعراء (المجون)! لماذا لا نتخذ الموقف (السياسي) أو (الفكري) ذاته من هؤلاء مثلما نتخذه تجاه الشعراء المعاصرين؟
القضية ليست قضية شعر حسي ولا قضية موضوع الشعر وما يحمله من قيم مضمونية وما يبشر به من قيم سلوكية وما يدعو إليه حياتيا.. وقبل أن نشير للقضية كما نراها ونحللها؛ ربما سيشير أحدهم [مثلما أشارت تصريحات بعينها] إلى أن أقسام اللغة العربية لا تحبذ دراسة أديب أو شاعر في حياته؟! ولكنه لا يجد تبريرا لدفعه هذا سوى أنه ينتظر (اكتمال) التجربة قبل أن يدرسه ويتناوله…
فيما الردّ قد جاء منذ عقود على مثل هذا الاتجاه.. وقد تجاوز الزمن هذا التبرير والتذرع.. وفي جامعات عريقة ومهمة عراقية وعربية وعالمية، جرت فعليا دراسة الأدباء والشعراء المعاصرين لا في نصوصهم حسب بل في معطيات أدائهم وإنتاجهم الأدبي الشعري وغيره مما في حركتهم وتفاصيل يومهم العادي..
أما الحقيقة في رفض اختيار شاعر معاصر ما زال حيا يرزق، فتكمن في موقف فكري ينافح عن قداسة (مزعومة) يسقطونها على القديم وعن رفض للجديد وقيمه الجمالية التي تنتمي لشروط الحاضر لا الماضي؛ فضلا عن مشكلة تجيير الخطاب الأكاديمي لمواقف سياسية بحتة ولآليات خطاب غير أكاديمية قطعا..
وفي ضوء هذا الموقف تمّ تحديدا رفض اختيار الشاعر حسب الشيخ جعفر وشعره، مادة لأطروحة دكتوراه في تلك الجامعة العراقية.. وإلا فإن من يريد التقدم بأطروحة دكتوراه في الشعر ونقده سيتناول ((النص)) أولا وآخرا وسيركز على أمور رئيسة ليس بالضرورة من بينها الشاعر وقيمه السلوكية.. ومن يدرس ((النص الشعري)) أو غيره ليس بحاجة لمحددات وشروط غير علمية وغير أكاديمية…
إن البحث العلمي المشروط مؤداه الإعوجاج في نتائج التجربة العلمية وفي التمحيص والعمل المتقن.. ثم من قال أن الدراسة ستتفق ورؤية الشاعر فكريا سياسيا أو سلوكيا؟ ولماذا هذا الاستباق القائم على المصادرة وانعدام الثقة بنتائج البحث العلمي؟
إن فكرة عدم الثقة بالباحثين، وإنعدام الثقة بنتائج التحليل والبحث العلميين لا تنطلق إلا عن وضع العلم في تعارض مع الأخلاق والقيم الإنسانية.. ولأن العلم لا يكتفي بعدم تعارضه مع القيم الإنسانية بل يعمِّدها بالصائب ويفيد في تدعيمها وتحسينها لما يدخل في خدمة الإنسان وإكرام قيمه ووجوده فإن هذا التعارض المفتعل ومن ثمَّ إنعدام الثقة بالبحث العلمي لا ينمّ إلا عن جهل وتخلف ويتقاطع مع الحقائق والبديهيات العلمية ومع القيم الإنسانية الصحية الصحيحة…
وهذا الأمر صار معروفا وواضحا ولكن بقاءه لا يمثل إلا حال من التستر على منطق التخلف والتغطية على آليات التضليل الظلامية.. وهي آليات سياسية بحتة وبسبب من مرضيتها فإنها تعطي قيوما سلوكية اجتماعية رخيصة من نمط الانتهازية واستغلال السلطة أيا كان حجمها ونوعها لتجيير الأمور لصالح قرار غير أكاديمي بالمرة..
إنَّ الإدانة في هذي الحال لا تنصب على التقاطع مع أستاذ جامعي بوصفه شخصا بخلفيته إنسانا بقيم سلوكية يؤمن بها؛ ولكنّ الإدانة تنصب على رفض الرؤية الفكرية الماضوية المريضة وهي إدانة تستهدف وقف التأثيرات السلبية لحجب المنتج الإبداعي عن البحث والتقصي، بخاصة في مجال الآداب والفنون والعلوم الإنسانية لأنّ الهدف الحقيقي من هذي البحوث يكمن في توكيد الصائب الصحي وإزالة الخاطئ المرضي، فماذا يجدي أن نبحث في الأموات إن لم يدخل في خدمة الأحياء؟ في إفادتهم وإعانتهم على تعديل أمر أو آخر؟
وفي ضوء ذلك لسنا ضد اسم بالتحديد من الذين اتخذوا أو سيتخذون القرار النهائي، بل ضد الثغرات في اللوائح والقوانين تلك التي تبيح لهم التحكم في البحث العلمي ووضع شروط خارج أكاديمية عليه بل مصادرته ومنعه…
وبالمناسبة فإن أمر المصادرة هذا سيبقى بيننا ولن ينتهي بوقوفنا عند إدانة شخص، لأن الأمر يتعلق باللوائح وما فيها من نواقص.. فيما الشخص ذاته يمكن أن يغير قناعاته الفكرية السياسية ويتحول من ميل إلى آخر.. فضلا عن أن هذا الشخص أو ذاك ممن تحكم سلوكهم وقراراتهم الظروف التي تحيط بهم الاجتماعية والسياسية وما يوجه قراراتهم ويحددها من قوانين ولوائح بل من تفاصيل تلك القوانين وثغراتها…
فنحن لا يمكن أن نطالب شخصا ما أن يكون المضحي في مجابهة قوى تحيط به وظروف ضاغطة نعرف كم حجمها وطبيعة جوهرها مما يسود اليوم. ولو كان جميع البشر مثاليين إلى حدّ التضحية من أجل المبدأ ومن أجل الدفاع عن صواب الرأي لما كنّا عمليا بحاجة لمثل هذه التضحية أصلا…
وعلينا تذكر هذه الحقيقة في خطاباتنا الثقافية منها والأكاديمية بوجه الخصوص لأننا بخطاباتنا الثقافية الأكاديمية نمتلك آليات غير آليات الخطاب السياسي المحدود.. ومن هنا كانت الإدانة وستبقى في حدود رفض الثغرات والمثالب الموجودة في اللوائح والقوانين ومحاولتنا تحصين استقلالية الجامعة وتأمين حرية البحث العلمي مع توفير شروط المحيط الآمن للباحث من جهة ولإدارات الأقسام العلمية وهيأة التدريس بما يقطع السبيل على جهود الحظر وتابوات التحريم المرضية المفتعلة..
وهنا وعلى الرغم من الاختلاف مع أستاذ أو آخر كما في حال الدكتور محمد صابر إلا أننا ينبغي دوما أن نضع الاختلاف موضع الجدل بقصد الوصول لقناعات مشتركة.. وبقصد تأمين الممارسات الأسلم والإجراءات الأكثر التزاما بالقوانين الصحيحة في منطقها وفي آلياتها أو تلك التي يجري تطويرها في ضوء متغيرات الواقع..
ولنتذكر في ها المجال أولئك الذين قدموا نتاجات أدبية وثقافية وأكاديمية سليمة ورائعة في جمالياتها وقيمها الإبداعية والمضمونية أيضا، فيما كانت ظروف الاضطرار تجبرهم على ممارسات (وظيفية) غير سوية وتندرج في خدمة السياسة العامة المتسلطة وهو أمر مبرر إذ الموظف لا يقوم بمهامه المهنية إلا في ظلال سلطة ليست بيده ولا بيد قانون سوي بل بيد الدكتاتور مستلب كل شيء ومن ذلك مستلِب سلطة القانون وشرعية السلطة ذاتها…
اليوم، تسود سياسة الطائفية وسلطتها بكل ما فيها من أجواء الفساد وتحكـّمِ مافياتها وميليشيات حماية الطائفية وأحزابها وعناصرها وتخندقاتها.. وفي ظلال هذا التحكم والتسلط تُخترق جميع مناحي الحياة ومنها الأكاديمية بأمراض ما يسود من سياسة عامة.. وأعود لأؤكد واجبنا في إدانة الأصل وتصويب النتائج وتقويمها بما لا يجعلنا نمسك البردعة ونترك الــحمار والأمثال تضرب ولا تقاس أيها السادة حتى لا يفهم المثل خطأ في شكله لا في فحواه…
(3) سيادة الخطاب الطائفي في الحياة العامة وسلطته في تشويه العمل الأكاديمي
إنَّ أغلب القوانين واللوائح التي تمَّ سنّها للجامعة العراقية كان ذلك في ظروف سلطة سياسية قمعية حكمت لعشرات السنين. واستمرّ العمل بتلك القوانين في الجامعة العراقية منذ سنوات ست من التغيرات الدراماتيكية بسبب من الانشغال بهجمة تعرضت لها تلك الجامعة في عقلها العلمي عندما تمَّ شنّ حملة طويلة عريضة تضمنت مطاردة شرسة طاولت الأستاذ العراقي في أمنه وحياته وموارد عيشه وتعمدت وضعه في محرقة التهديدات وعمليات الاختطاف والابتزاز التي لم تكتفِ بهذا بل ذهبت أبعد بتصفيات دموية بشعة عبر اغتيال مئات من خيرة ممثلي العقل العلمي العراقي..
وهكذا جرت موجة تهجير جديدة أخرى لمئات وآلاف من الكوادر البحثية الأكاديمية وتصفية قسم مهم ممن تشبث بمؤسسته وبقي ينافح عنها.. وتمّ تسليم إدارة الجامعة هذه المرة إلى عناصر أما ضعيفة علميا أو ممالئة لسياسة طائفية صارت سائدة في المشهد العراقي الجديد أو من الهزال والنفعية ما لا علاقة لها بتوجيه البحث العلمي إلى حيث ألقت رحلها، المهم في خلاصة الأمر عند هؤلاء [البعض لا أكثر ولا أقل] ما يحظون به من مقابل مما يباع ويشترى ماليا ماديا ولا غير… فظهر أمامنا من أشكال الفساد المرافق لأشكال التمظهر الطائفي وخنادقه المتعارضة شكلا المتحدة جوهرا.
وفي هذه الأجواء؛ لا يمكننا إلا أن نتوقع من إدارات عدد من الأقسام (العلمية) جهلا بعلماء العراق الحقيقيين وبمبدعيه من الكتّاب والأدباء: الشعراء، الرواة، القصاصين، المسرحيين ومن مجمل فنون الإبداع والعطاء المعرفي الساطع… كما سنشهد جهلا بآليات المنطق العقلي والصواب والرصانة في معالجة قضية رسالة علمية أو بحث أكاديمي وإقرار خطط تنفيذهما..
بمقابل معرفة بأمر واحد، هو أمر تعطيل كل ما يشم منه صاحب سلطة القرار في القسم العلمي، رائحة الاشتباه بخلفية لخندق طائفي آخر أو ذريعة تمس إشكالية طقسية يسمونها زعما وزورا وبهتانا الدين والدين منها ومنهم براء..
وبعد أن كان سبب مصادرة استقلالية الجامعة وحرياتها العلمية سياسيا يرتبط بالشك في أيّ أمر يحتمل أن يتعرض للطاغية ولحكمه وطروحاته، صرنا نجابه شكا مرضيا جديدا شبيها في نتيجته وجوهر آلياته بما مضى، فيما اختلافه وجديده يكمن في لون ردائه وهو لون الدين السياسي وخلفيته الطائفية، فظهرت التخويف وعقدة الرعب من احتمال عودة ماض غير مرغوب فيه…
وبتنا نسمع اليوم أن جامعة يتحكم بها (شخوص) ممن يدعون الانتماء للطائفة س أو أخرى تتبع متحكمين يزعون الانتماء للطائفة ش وكلاهما يحظر إقرار ما يراه متعارضا وأهواء الزعامات التي يعتاش منها وتلبي حاجات عيشه على حساب المهنية ومبادئ احترام حقوق الإنسان واستقلالية الجامعة وعلى حساب صواب قوانينها وصحة لوائحها…
والأنكى في هذا الأمر، أن تكون إدانة هذا الفعل القبيح الذي يعتدي على الحريات الجامعية، متشحة بخلفية طائفية بعضها مقصود في محاولة لتعزيز شرعية وجود الخطاب الطائفي القائم على التباكي وفلسفة المظلومية واستدرار عواطف بالإيهام والتضليل وبعضها يطفو بسبب من التوشه الذي تفرضه سيادة هذا الخطاب في الحياة العامة وتفاصيلها..
إنَّ معالجة قضية الحريات العلمية واستقلالية الجامعة لا يمكن أن تأتي يوما من بوابة الطائفيين الجدد بأشكالهم.. لأن ذلك سيدعو لمراكمة المنتج الطائفي نفسه وتعزيز التخندق والانقسام على أساسه.. ويمكننا بسهولة على سبيل المثال لا الحصر العودة بإشارتنا إلى مجريات رفض تلك الجامعة العراقية لخطة طالبة الدكتوراه التي اختارت مادتها في إبداع الشاعر حسب الشيخ جعفر…
وهنا ينبغي التوكيد على صواب الإدانة التي أعلنها اتحاد الكتاب والأدباء العراقيين في جوهر خطاب الإدانة تلك وأهدافه النبيلة وعلى صواب دعوة المبدعين ومنظماتهم كيما يتخذوا قرارا حاسما وواضحا بالخصوص.. ليكون أداة لتوكيد استقلالية خطاب الثقافة ونزاهته وصواب معالجته بعيدا عن أمراض الطائفية والتسييس الرخيص والانتهازية..
على أنه ينبغي لنا ولمجمل خطاب الثقافة والمثقفين والأكاديميين العراقيين ألا ينجرّوا إلى رديء الخطاب السياسي وتخندقاته الفئوية الطائفية ومن ذلك استخدام آليات الخطاب السياسي في معالجة قضية أكاديمية محضة أو التعاطي مع تمظهرات الطائفي وقيمه..
فآليات العمل الأكاديمي غيرها في السياسة. ومسألة إقرار موضوع لبحث أكاديمي بمستوى الدكتوراه تتطلب أمورا إجرائية محددة بقانون.. ونحن عندما نتحدث عن خرق أو اعتداء يتعرض له باحث أو آخر فوسائلنا لوقف ذلك يجب أن تكون أكاديمية ترفض الآليات الغريبة على ما هو جامعي أكاديمي…
أما أن يتحدث متخندق مع [الطائفي] س ضد متخندق مع [الطائفي] ش أو العكس فالأمر سيّان واختلاف مكان التخندق لا يلغي تساويهما في جوهر الموقف؛ الطائفي من جهة والمسيّس لصالح زعماء الطائفية وسياساتهم الانتهازية المعادية ليس للجامعة وآليات عملها حسب بل للإنسان وحقوقه كافة…
وفي إطار العمل والدرس العلمي والبحث الأكاديمي يمكن أن تقع أخطاء أو هفوات للفرد الباحث أو للمشرف عليه أو لكليهما الأمر الذي احتاطت له الجامعة (في تجربتها عالميا) بلجان تقويم موسعة منعا لمثل هذي الحال أو لاحتمالات الفساد أو النقص والمثلبة…
وما قد يبرر مثل هذه الثغرات أو يكون سببا فيها كنـّا للتو قد سجلناه بالإشارة إلى هزال المؤسسة الجامعية بخاصة من جهة لوائحها وقوانينها المخترقة بمفدرات تبيح تلك الأخطاء وتقعِّد للخبير (الفكري \ القمعي) مما جرى التأسيس له طوال عقود من استباحة الجامعة في ظل نظام سياسي دكتاتوري..
فيما جرت في السنوات الست الأخيرة عمليات تصفية وفصل وإقالة وإحالة على التقاعد ومنع إعادة توظيف الكوادر الرصينة الخبيرة وغيرها من أساليب ما سلَّمَ مقاليد الإدارة لعناصر ضعيفة هزيلة علميا أكاديميا بعد حملة [التطهير] و [التعقيم] الجديدة..
وفي هذي الأجواء جرى اختراق الجامعة ليس بالتوظيف على وفق سياقات خارج أكاديمية وغير علمية ولا موضوعية تحديدا في موضع توزيع مسؤوليات الأقسام العلمية والعمادات ورئاسات اللجان والإشرافات العلمية… ومن الطبيعي وبالنتيجة هنا، أن نعود للحلقة المريضة ذاتها في مشكل من يقرر تسجيل البحث وما شروطه في هذا؟ مما أجبنا عنه ضمنا فيما سبق من قراءتنا هذه.
من جانب آخر تنبغي الإشارة إلى الضغوط التي تحيط ببعض الباحثين وعدد ممن تبقى من الأساتذة الملتزمين بالروح العلمي الأكاديمي، تلك الضغوط التي يمكنها أن تدفع لتبرير آخر في إشكالية تردي اللوائح والإجراءات في ظل إكراه هذه الفئة من الأساتذة بما لا يمكنهم في جميع الأحوال أن يمرروا ما يؤمنون به وما يريدون حمايته والدفاع عنه.. وقد يكون أستاذ أو آخر يريد هذا ويؤمن به ولكنه يقع تحت ظروف الاضطرار تلك، فريسة منزلق أو وقيعة أو خطة رخيصة تضعه في موضع المتهم في حين المتهم الحقيقي ليس الأستاذ الفرد بل النظام العام الذي يتحكم بالجامعة وبلجانها العلمية وفلسفة عملها وآلياته..
ومما نحن فيه، حال التخندق الذي ظهر وساد في الحياة العامة وشدد الخناق على جميع مؤسسات الدولة والمجتمع واخترقها كافة ومن ذلكم إمراض الجامعة وتوجيهها قسرا وكرها في التوجه (الطائفي) الذي نحاه… وهنا لا يمكننا إلا أن نتحدث عن بضع أفراد من المتحكمين بالمشهد، يعملون في ضوء تأثرهم بالخطاب السياسي لا في ضوء ما يمليه خطاب مهنتهم الأكاديمية هنا..
طبعا بسبب من ضعف الروح الأكاديمي وهزال ما تراكم في إطاره لدى من بقي من الكوادر العاملة (على وجه العموم لا الإطلاق) بخاصة في الإدارات التي تسلقت المسؤولية في غياب العلماء الذين جرت عملية تصفيتهم أو إقصائهم…
في مثل هذه الأجواء، يخشى أن نتهم أناسا أبرياء ويخشى بعد ذلك أن ندفعهم باتهامنا هذا وفي ضوء مثل هذا الضغط لجهة التخندق (الطائفي) وهم ليسوا من المؤمنين بتلك التخندقات وأعود مجددا للتذكير بالدكتور محمد صابر نموذجا…
أما موضوع الحل الذي نبحث سويا عنه، نحن الأكاديميين المدافعين عن حرمة الجامعة العراقية واستقلاليتها، فيكمن في ولاء الجامعة للائحة جديدة توضع في ظل حرية تامة وعلى وفق أسس الموضوعية والروح الأكاديمي الرصين وبمراقبة آليات العمل في ضوء اللوائح الجديدة المنقاة بناء على إعادة وضع القوانين وقراءتها بدقة وشمول لأركان العمل وتفاصيله وهو الأمر الذي دعونا إليه منذ سنوات بعيدة وكانت ومازالت قوى غير أكاديمية تعارض إعادة تنقية اللوائح والقوانين الجامعية وتتمسك بالماضوي بخاصة منه تلك الفقرات التي تسمح لها بمواصلة التدخل والتجكم بالجامعة وتجييرها لمصالح الخطاب السياسي الخاص بهذه السلطة أو تلك…
(4) بعض تطلعات وحلول ومسؤولية التغيير
إنه من غير المقبول ومن غير المعقول أنْ تستمر تلك اللوائح والقوانين من زمن الاستلاب والقسر والإكراه، زمن التخلف ومعاداة العلم وأهله، تلك التي سُنَّت في ظروف التوازنات التي خضعت لسطوة دكتاتورية الدولة والحكّام الذين عادة ما كانوا من جهلاء القوم.
وليس من الصحيح ولا من الصحي الصائب أنْ نتعامل على وفق منطق ما سنَّه أزلام الظلمة والتضليل تحت يافطات احترام روح وطني أو قومي [مزيف] أو قدسية روح ديني أو اعتقادي [مدَّعاة]. فكل شيء اليوم متاح لأكاديميينا لكي يراجعوه ويُعمِلوا عقولهم النيِّرة لتغييره بكنس ضلالات الماضي المهزوم..
ومن هنا وجب على مؤسسة التعليم العالي العراقية من مراكز بحثية ومعاهد علمية وجامعات أنْ تنهض بمهمة تنظيف أجوائها تماما وكتابة لوائحها الإدارية والأكاديمية بما يخدم مسيرة العلم وأهله ويصبّ في مصالح إعادة بناء الروح العراقي الوطني ويفتح آفاق التعليم العالي والبحث العلمي على أوسع مصاريع بواباته بلا تضييق وبلا تشويه وبلا مصادرة لحرية البحث ولحرية اكتساب نور العلم لبناء البلاد وقبلها نقاهة العباد وصحتهم المعرفية الروحية..
ومن أجل ذلك نجد أنَّ بعضا من بقايا عهد المحافظة والتقليد ممن يخشون كل تغيير وممن يرون في التمسك بعهود ومواثيق الماضوية المندثرة صحة لهم وممن يرفضون كل جديد وكل رأي علمي مصيب؛ نجد هؤلاء ما زالوا يمسكون بخيوط القرار في بعض مفاصل التعليم العالي وليس لنا مع مثل هؤلاء المعرقلين الضلاليين الظلاميين مناقشة ولكننا نحاور ونجادل ونناقش فيما بين أهل العقل والرشاد والحكمة لكي نصل إلى البدائل المعرفية العلمية المشرقة المشرّفة التي تقوم على أحدث ما توصلت إليه البشرية من قوانين ولوائح وتشكيلات إدارية وأساليب تعليمية محدثة تتناسب ومستوى التطورات العاصفة التي حدثت في عالمنا المعاصر..
وبهذا لا نقف عند تحصين العمل الأكاديمي من التدخلات السافرة التي تصادر الحريات وتفرض قيم الخطاب السياسي المرضي كما في حال رفض خطة بحث علمي لذرائع غير أكاديمية من نمط الموقف الفكري السياسي، وإنما نتجه لسنّ اللوائح والقوانين التحديثية المنتظرة التي تتجاوز لوائح التعليم التقليدي وأنماطه لتدخل الجامعة العراقية في عالم عاصف التغييرات في آليات بحثه وعمله ومستهدفاته…
لقد نهض الأستاذ والأكاديمي العراقي بمهماته في افتتاح مشروعات مراكز البحث والأكاديميات والجامعات الأهلية التي تستخدم طريقة التعليم المفتوح والتعليم الألكتروني، التعليم عن بُعد بتوظيف آليات التعليم الحديثة فيما بقينا نسمع بسلطة لوائح التعليم التقليدي بوسائله التقليدية الثابتة التي تكلست وتجمدت وتشوّهت بسياسات ماضوية.. فماذا سيكون مصير تلك المؤسسات؟ ليس غير الحظر والتصفية بقرار يستمد شرعيته من لوائح لا علاقة لها بنظم التعليم الحديثة! وهو ما جرى على سبيل المثال في موقف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية يوم انشغلت في مهاجمة مشروعات التحديث والعمل الأكاديمي المتطور وفي إصدار قرارات الحرمان والمنع والإلغاء بدل أن تدرس مشروعات قوانين تتلاءم ومتغيرات العصر والتطورات التي جرت عالميا…
وما يُنتظر أنْ يحصل هو فسح المجال لتغيير تلك اللوائح التقليدية بما يتيح معالجة التشوهات في تلك اللوائح وما يتيح تحديثها وتطويرها وتقويمها فضلا عن فتح فرص الإفادة الأوسع من أساليب التعليم الحديثة سواء منها التعليم المفتوح أم التعليم الألكتروني بما يؤدي إلى أفضل نتائج المردود من تلك الأساليب المتطورة الحديثة وبما يخرجنا من عنق التخلف وقوانينه التي سنّها أناي من أعداء العلم والشهادة العلمية، من أعداء نور العقل ومنطقه السامي النبيل..
إن الحصول على الحريات وعلى استقلالية الجامعة لا يُنتظر أن يأتي منحة من أصحاب الإرادة السياسية للحكومة وللقرار الإداري الخاص بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي المجيّرة للحكومة وخطابها السياسي.. ولكن ذلك يأتي بجرأة الدفاع عن هذه الحريات وبإصرار هيأة التدريس من الأساتذة والعلماء على إقرار مشروعات القوانين واللوائح الأكاديمية السليمة التي تقدموا بها مع توظييف كل موقف صحي صحيح ويمتلك المصداقية في توجه وزارة التعليم وإدارات الجامعات والأقسام العلمية..
وكل ذلك يشكل تأسيسا يُؤمَّل فيه حشد قوى التغيير العلمية الصادقة في خدمة العراق الجديد المتجهة لأفضل أساليب التعليم ولأرقاه ما يجعلنا نقول لن ننتظر طويلا مع تضافر جهود الجميع والدخول في محادثات مسؤولة عن أشكال استثمار متغيرات التعليم الجديدة ونظمه وآلياته لتكون سببا في مراجعة شاملة للوائحنا بما يتيح إزالة رواسب ماضي الأنظمة الاستبدادية الغاشمة ولوائحها التي كرست التخلف وخدمة الفرد الطاغية وطروحاته واليوم خدمة لكل ظلامي ومتخلف من ترسبات الأمس وأمراضه..
هذه رسالة جديدة أخرى موجهة إلى معالي وزير التعليم العالي وإلى إدارات الوزارة والمراكز البحثية والجامعات وهي تشكل أيضا نداء لمجموع أكاديميينا من أجل عقد مؤتمر التغيير في التعليم العالي العراقي لنكون بمستوى يليق بقامات العلوم والبحوث الأكاديمية الرصينة في عراق جديد مختلف ليس بالأماني بل بالعمل الجاد المثابر.. ولدينا نحن العراقيين كل الطاقات الكافية للنهوض بمشروع التحديث..