لقد أكدت الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة مسألة دور الدولة وأهميته في توجيه الاقتصاد توجيها يمارس الشفافية من جهة ويتجنب مظاهر الفساد التي جرى تمريرها في أنشطة الشركات والمؤسسات الكبرى بخاصة منها الصيرفية… فلقد منحت الليبرالية أو الرأسمالية الحرة بل المنفلتة من القيود والمحددات المنظّمة، أقول منحت الفرصة لسطوة الشركات ومن ثمَّ فرصتها في تمرير أشكال ومظاهر الفساد والثغرات التي أدت لكل هذه الأزمة الاقتصادية التي باتت تهدد بكوارث أفظع…
إنَّ محاولات ترحيل مسؤولية الأزمة ما عاد ممكنا تسريبها على حساب نظام اقتصادي مغاير كما كان في عهد وجود النظام الاشتراكي مثلا ولا عاد ممكنا ترحيلها على حساب الدول النامية من دون استباحة مطلقة تتعرض لمصائر لا السيادة والاستقلال النسبي الذي تتمتع به بل حتى الفتات الذي تحظى به تلك الدول من مردود أنشطتها وثرواتها بخاصة امتلاك الطاقة من نفط وغاز وغيرهما…
ولأن قوى معينة في داخل النظام الرأسمالي تجد أن الانفلات وعدم الشفافية كانت سببا حقيقيا للأزمة، فقد رأت في نموذج استعادة تدخل الدولة أمرا مناسبا للحل. وكما هو معروف فقد تمّ ضخ ترليونات عديدة من جيوب دافعي الضرائب لمعالجة نتائج الأزمة ومحاولة الوصول للاستقرار المفقود… وهذه مرة أخرى إشارة إلى أنّه لا يمكن للرأسمالية المنفلتة أن تكون طريقا صائبة لمسيرة الاقتصاد وقوانينه المطلوبة… كما أكدت على أهمية دور الدولة في ظروف الاقتصاد الرأسمالي لضبطه ولجم نوازعه الوحشية…
لقد كان إضعاف سلطة الدولة وحكم القانون فيها وسيلة للرأسمالية المنفلتة من عقالها لمزيد من سلوكيات استغلالية همجية نشاهدها بأم العين اليوم. ولكن القضية لا تنتهي عند حدود ما مرقت به من أزمة اقتصادية تحديدا الجوانب المالية فيها…
فإضعاف سلطة القانون والدولة من جهة أخرى يودي بالاستقرار إلى مهالك الزعزعة الأمنية عندما تنفلت بالمقابل قوى البطالة (في إطار تمزق اجتماعي مركب) في أشكال من الردود غير المنضبطة وعندما تتسع الأسباب والأسس التي تمنح فرصا جديدة لتوسع العصابات المنظمة محليا وعالميا…
وطبعا سيكون المشهد أخطر من مشاكل أفراد يتمردون على أوضاعهم البائسة.. بخاصة عندما يتعلق الأمر بتحول تلك العصابات إلى قوى مسلحة ذات نفوذ يقارع الدول وأنشطتها كما في تهديد ممرات التجارة الدولية وكما في وصول أسلحة ثقيلة لتشكيلات أكبر من حجم الدولة الوطنية وبأيدي دول تتحكم بها أنظمة توتاليتارية همجية ذات سطوة إقليمية…
ويمكننا هنا الإشارة بوضوح (في مثال نود التركيز عليه) إلى صعود نجم القراصنة الجدد في البحار والمحيطات وفي المياه الدولية التي توجد بخاصة بمقابل سواحل الدول التي تشرذمت وتشظت سلطتها لصالح جهات ليست أكبر من عصابات منظمة ومافيات أو قوى حزبية متصارعة على تسيـّد الموقف لصالح سرقات مادية رخيصة على حساب مصالح شعب بأكمله ولدينا هنا نموذج الصومال…
ولم يكن ممكنا للقراصنة هؤلاء أن تكون لهم القدرة لاصطياد سفن دول صغيرة أو حتى كبيرة في عرض البحر لولا اضمحلال سلطة الدولة في الصومال وهشاشة وجودها وقوتها الهزيلة حتى أنها لا تتمكن من الدفاع عن نفسها أمام الاجتياحات المتكررة من دون دعم خارجي…
وعليه فإنَّ الأزمة في جوهرها تقوم على أساس أن فلسفة انفلات الأمور لصالح الرأسمالية الحرة واضمحلال الدولة وتراجع دورها بما لايقف عند حدود ولادة الأزمة الاقتصادية ونتائجها التي لم تظهر كاملة حتى الآن بل بما يؤدي إلى انفلات الأوضاع الأمنية محليا أولا ولكنها ستشكل تاليا خطرا جديا مريعا على السلام العالمي نفسه وليس على قضية التجارة الدولية وتأمين الممرات الآمنة لها..
عليه فإنَّ أزمة الاقتصاد ليست محصورة في المؤسسات المالية الأمريكية أو الأوربية أيضا وإنما تتسع لتشمل الاقتصاد العالمي من جهة وطبيعة الفلسفة التي تحكم التوجه غلى المستوى الوطني والدولي.. ولابد لأية دولة من مواجهة مسؤولياتها في إطار الإفادة من الإفرازات التي أشارت إليها بوضوح الأزمة الأخيرة كونها أزمة شاملة وعميقة الغور…
وسيكون من المفيد الدعوة لمؤتمر عالمي يتناول بالبحث العلمي الدقيق مسارات ما جرى حتى الآن وما تخفيه التطورات اللاحقة إذا ما استمرت الأمور بطريقة الترقيع والمداهنة من بعض الحكومات لقوى الرأسمالية العالمية التي ما زالت تدافع عن حرية انفلات السوق بالطريقة التي تكاد تودي بنا جميعا لحرب من نوع مختلف لن ترحم أو تستثني أحدا…
إن المؤتمر العالمي المعني بحاجة لصلاحيات أبعد من قضية تناول الأزمة بالتحليل والدراسة واتخاذ التوصيات، لأن الوقوف عند حدود المنجز اللفظي وخطابه لا يكفي لتجنيبنا المآ ل الكارثي المحتمل نتيجة تدهور الأوضاع الجاري بتسارع غير منظور…
لكن الجوهر المستقرأ يتمثل ليس في استبدال رأسمالي باشتراكي (طوباويا) ولا العكس وإنما في التعاطي مع مسار الأزمة وتداعياتها في مستوياتها الاقتصادية منها والأمنية… فإذا جاءت الترقيعات الاقتصادية لتوفر فرص تباطؤ تلك التداعيات فإنها لا يمكنها أن تحسم الأمر في تداعيات الأمور الأمنية..
بخاصة بشأن القرارات أو ردود الفعل الاستعراضية بإرسال قوات منفردة لكل دولة كبرى باتجاه السواحل الصومالية حيث ظاهرة القرصنة هي الأبرز هناك.. والحل يكمن في مواجهة شاملة ومنسقة ولكن قبلها وبعدها تظل الأمور بحاجة لمراجعة فلسفة اضمحلال الدولة وسلطة القانون لصالح الشركات والمؤسسات المالية فهي السبب الأخطر الكامن وراء هذي التداعيات المعقدة وينبغي العودة لتقوية مؤسسات الدولة وسلطة القانون فيها، كيما نستطيع تجنب الانحدار لأزمة ستـُهشِّم الأوضاع وتدخلنا في نفق مظلم لعقود بعيدة لا يمكن الخلاص منها قبل إهدار تضحيات بشرية جسيمة…
ولن يكون طرف بمأمن من هذه التداعيات فالمنطق ينبهنا إلى الاحتياط بجدية وبروح مسؤول إلى مجريات الوضع العام وتفاصيل مظاهره التي تبدو أو تبرز هنا وهناك… فهل من جهة دولية أو مبادرة فاعلة يمكنها التصدي بهذي المسؤولية على المستويين الاقتصادي والأمني أم أننا دخلنا في أول النفق ولم يعد بالإمكان الاستدارة أو التراجع لأخذ العبرة والتعامل بطريقة مختلفة..؟!
هذا سيعتمد على القيادات الحالية الأهم عالميا وعلى درجة نضج الحركات السياسية الأبرز وعلى قدرات العقل البشري راهنيا على تقديم الفلسفة الموضوعية البديلة.. ولننظر محاولين بلا كلل وعسانا نفلح في إعلاء منطق العقل والصواب…