عندما تسجل الدراسات كون ما بين النهرين تمثل مهد البشرية وتراث الإنسانية المعرفي؛ فإنَّها تشير إلى مجموعة من الأعراق والشعوب التي تعاقبت سنوات الدهر والجميع في حال من التنوع والتعدد في إطار من وحدة الوجود مسيرة حضارية أثمرت أهم عامل للقيم الإنسانية الرصينة ممثلة في احترام الآخر والعيش معه على أسس من المساواة والإخاء والاعتراف التام الكامل بحريته واستقلال هويته المخصوصة في النطاق الإنساني الذي يحيا فيه.
ولقد بقي العراق القديم موئل حال من الثراء والخصب في تعايش أبنائه جميعا وإنتاجهم المادي والروحي الذي قدّم للإنسانية جمعاء صورة متفتحة متنورة.. وانتقل العراقيون كافة إلى تأسيس دولتهم المعاصرة مطلع القرن المنصرم ومن ثمَّ للترحاب بولادة العراق الجديد بُعَيْد العام 2003 وهم يستمدون العزم والخبرة والمعرفة من تراثهم المجيد ويتطلعون إلى مستقبل يمثل أعمق صور التلاحم والوحدة الوطنية…
وهكذا تجد أن ممثلي المجموعات القومية والأثنية والدينية والمذهبية جميعا قد أعلنوا أنهم يضعون بصمة الوفاق العراقية التي تثبت الحقوق المتساوية دستوريا ويعملون على تنفيذ ذلكم ميدانيا.. وهو ما لم يرُق لقوى دخيلة وأخرى توافدت في ظروف معروفة لتخترق الجسد العراقي فتمثل دور الفيروس في محاولته الانتقال للشروع بإعادة إعمار الذات المخربة طوال عقود من الألم والجراح…
إن الجرائم التي ارتكبها الإرهاب والقوى الحليفة له بحق شعبنا بكل أطيافه ركزت على محور اختراق طبيعة التكوين العراقي التعددي المتنوع ومن هنا فقد وجدنا جميع مراحل الصراع الدامي التي ظهرت في السنوات الخمس المنصرمة كانت بحلقتها الأولى تنصب على الضرب قويا لمحو هذه الحقيقة فتعرضت المجموعات القومية والدينية العراقية الأصيلة لجريمة إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وكان الضحايا الأكثر وضوحا هم مسيحيو العراق من الكلدان الآشوريون السريان الأرمن وغيرهم من جميع مكونات الوجود المسيحي في العراق.. ومعهم الصابئة المندائيون والأيزيديون والشبك وجميع المكونات والأعراق والقوميات والطوائف التي تعايشت تاريخيا في وطن الخير والنماء والسلام..
إنَّ كل هذه المجموعات التي تمثل مكونات أساسية للوجود العراقي كانت وما زالت تـُعلي من شأن الانتماء الوطني العراقي وتتمسك بوحدة التراب وبحقها الثابت في الحياة الحرة الكريمة بكامل حقوقها الإنسانية والقومية والدينية بلا انتقاص.. ومن حق شعبنا وتحديدا على جناحيه من عرب وكورد أن يرتقوا بمهمة وقف الهجمتين المعنوية والمادية على الوجود الحقيقي للعراقيين ممثلا بكل الأطياف المتعرضة لتلك الجرائم الهمجية…
وطبعا أول قائمة الأمور أن نتخلى عن استخدام مصطلحات التهميش والإلغاء وثقافة الإقصاء والاستلاب ممثلة في رأس القائمة المعتمد على مصطلح [(أقلية)] وينبغي هنا لمجموع الحركات السياسية المتنورة الانتهاء من استخدام المصطلح وتداوله والانتقال لخطاب يحترم الإنسان ووجود الأعراق والمجموعات القومية والدينية بإنصاف وإحقاق للعدل..
وطبعا وبشكل أكيد أن يجري تصحيح مسار العملية السياسية ومعالجة ما اعتراها من خلل في الصميم بتغييرات استراتيجية تتيح التعاطي مع دستور دائم دقيق في التعبير عن الوجود العراقي التعددي الذي لا يلبي نزوات فردية أو فئوية أو حزبوية أو أصابع إقليمية أو دولية بل يلبي مصالح الشعب العراقي تحديدا حيث الإخاء والمساواة والعدل…
إنَّ الحديث عن أقليات في الدستور هو إدامة واستمرارية في إغفال طبيعة المجتمع العراقي التعددية المتنوعة ومصادرة لوجودالمجموعات القومية والدينية التي تمثل تأسيسا عميقا وجوهريا أساسا للمجتمع العراقي وليس كمالة عدد أو حسب النظرة الاستعلائية الفوقية والشوفينية التي تتحدث عن أغلبية متحكمة وعن أتباع يتم التعطف عليهم أو التصدق بكرسي تمثيلي أو بدعم مادي لا يغني ولا يسمن أو بما شابه من الخطابات العرجاء..
إنَّ مصداق التعبير عن عراق جديد يلزم أن نمضي به من هنا من حيث كتابة الدستور وإعادة النظر في المجالس التشريعية على مستوى الدولة أو الأقاليم والمحافظات والأقضية.. ولطالما كنتُ في إطار عراقيين نجباء آخرين أؤكد على أهمية تعديل تركيب البرلمان بطريقة يتألف من جناحين هما المجلس الوطني الذي يُنتخب بطريقة الدائرة الوطنية الواحدة ومجلس اتحادي يُنتخب من ممثلي المجموعات القومية والدينية المتعددة بنسب محسوبة لا تتحدث عن كرسي واثنين وعن فتات وعطايا بل تضع الحق حيث يأتي العدل بمشاركة الجميع في صياغة فلسفة البلاد بعيدا عن أوهام الأغلبية المسيطرة وعنجهيتها وخنوع الأقلية المصادرة المستلبة ضحية أبدية…
ومن المجلسين ينعقد البرلمان العراقي وعقله التشريعي وهكذا في مجالس المحافظات أما برامج الأدلجة التي تعكس عقائد سطوة الأغلبية الحزبية التي تتمثل في مرحلة انتخابية تلك الأغلبية [الضيقة] تستلب معنى الأغلبية الوطنية الحقة وتصادر معنى الوجود التعددي المتنوع القائم على الحق الإنساني في المساواة وعلى العدل وإنصاف المجموعات القومية والدينية وحقها في كامل التراب الوطني بلا انتقاص..
وفيما هذه هي الرؤية المؤملة في عراق اليوم والغد، نجد أننا أمام مشهد أخطر من كارثي ولا مَن يُعلن المدن المستباحة بأنها منطقة منكوبة وبأن جريمة إبادة شاملة (هولوكوست) تجري؛ بالأمس كانت [ومازالت] بحق المندائيين وبعدهم [ومازالت] بحق الأيزيديين واليوم بحق المسيحيين في الموصل بعد أن كادوا ينهونهم من البصرة ومن غيرها من مدنهم مدن العراقيين بأطيافهم جمعاء!!!
إنَّ الشعب العراقي ليس شعبا مغلوبا مكسورا فلطالما كُسِر عسكريا ولطالما اُغتُصِبت حقوق له.. ولكنه دوما كان ينتصر بثقافته وخياراته ويعود لتصويب المسار وتعديل الميزان واستعادة حقوقه.. فأما ثقافة الشعب العراقي فتكمن في تصميمه على خياره للعملية السياسية السلمية بعيدا عن نوازع الحروب الدموية وعسكرته وإدامة نزيفه وعميقا في صميم بحثه عن السلم الاجتماعي وترقب انطلاق قطار الدورة الاقتصادية وشريان الحياة والبناء..
وطبعا هذه المسألة تتطلب تضافر الجهود لتنقية مؤسسات الدولة من ظواهر الفساد ومن ظواهر الاختراق إلى الحد الذي تُستخدم فيه قوى أمنية وعسكرية في الحرب على الشعب وفي تمرير مثل هذه الجرائم ولمواصلة المسيرة لابد من تعزيز الثقة بين جميع القوى الوطنية وتصحيح التحالفات وتوسيعها والعودة لإعلاء كلمة المصالحة الوطنية..
ولابد وجوبا للحكومة من أن تعلن برنامج عمل واضح تدرسه الكفاءات العراقية في الوطن والمهجر وتبدأ بتنفيذه من فور إقراره شعبيا ورسميا.. أما وجريمة الإبادة جارية في مدن عراقية ليس آخرها الموصل بحق أولئك الذين يمثلون تاريخ العراق ويشتركون جوهريا في وجوده الجديد، فإنّ المؤمل إعلان موقف صارم حازم لا يقوم على مطاردة تكتيكية جزئية بل على استراتيجية واسعة شاملة وجوهرية تحسم الأمور تصاعديا بضبط ما لنا وما على الآخرين من القوى المفترض وجودها لدعمنا وتأمين سلامة الوطن..
لأن الحقيقة تشير إلى أن الكتل التي تتحكم بالأوضاع لم تقدم حتى هذه اللحظة أكثر من بيانات الشجب والاستنكار وهناك شخصيات (مرجعية) تتحكم في خيار بعض الناس الانتخابي وتتحكم حتى في عيشهم وأساليبه لكنها عندما يتعلق الأمر بحيوات الذين يمثلون سمة العراق وتاريخه وحاضره ومستقبله لا تعطينا حتى ولا كسرة خبز لمن يلتحفون الفضاء ويفترشون الأرض بتهجيرهم القسري بل بتقتيلهم حتى في ملاجئهم العارية.. وفي وقت تبني العمارات والسماكن في دول أخرى فإن تلك الجهات التي نشير إليها في أفضل الأحوال لا تقدم أبعد من نداءات وبيانات لا ترقى لما تفعله مثلا عند تكفيرها إنسانا (امرأة أو رجلا) في لباس ارتداه أو طريقة أكل اختارها!!!
و العراق من قبل ومن بعد: عرب وكورد وتركمان وكلدان وآشوريون سريان وأرمن وصابئة وأيزيديون مسلمون شيعة وسنة ومسيحيون كاثوليك وبروتستانت وأرثدوكس ويهود وبهائيون وشبك و مندائيون واحسِبْ جميع أطياف تراث الإنسانية وحاضرها ومستقبلها هنا في وطن التعددية والتنوع وجمالها في وحدتها الوطنية والإنسانية على أساس من المساواة والعدل… وذلكم هو ما يجري فيه من إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية تفرض علينا حكومة وشعبا إعلان استنفارنا لوقف الجريمة بكل الصُعُد والمستويات وعدم ترك الأمور بطريقة الترقيع الجزئية نخيط هنا وتتفتق هناك فلابد من استراتيجية حقيقية جدية شاملة وكفانا وعدا ووعيدا ولنبدأ فكل شيء موجود من النوايا ومن العقول ومن الآليات والأدوات والماديات وحتى الخطط والبرامج فماذا يؤخر عن حماية الشرف والضمير والحق والعدل وعن الشروع بعراقنا الجديد حقا؟؟؟
لا يُصلِح الدار إلا أهلها أولا وإلا خيارهم صحيح يد العون من جار وجيرننا ترك وفرس وعرب وجميعا هم شعوب محبة للسلم والحياة الحرة الكريمة وفيهم بلدان يمكننا أن ندير معها لغة حسن الجوار وتبادل العون زمن الشدائد ولكن الأمر فينا أولا وثانيا وثالثا
والجواب لدى من بيده إطلاق صفارة العمل.. وإلا فإنَّ الأوضاع ستذهب إلى خيارات ؟ ولات ساعة مندم!