كان من أبرز مؤسسات الدولة العراقية الحديثة، تشكيل نواة الجيش العراقي في العام 1921؛ ومن ثمَّ التطورات التي رافقت مسيرته سواء من جهة عملية نموه وتحديثه أم من جهة السياسات التي حاول النظام السياسي فرضها عليه… ولطالما حاولت القيادة العليا للبلاد توجيه أمور الجيش خارج مهامه المحددة دستوريا…
وقد نجحت السلطة في أحيان عديدة في بسط قبضتها على قيادة الجيش عبر وسائل مختلفة منها على سبيل المثال منح الترقيات الاستثنائية الخاصة ووضع الشخوص التابعين لها في مواقع المسؤولية العليا للقيادات العسكرية تحقيقا لنهج الانقابات والتحكم بالحياة العامة بقبضة القوة والعنف..
ولكن الجيش العراقي لم يكن طوال تاريخه بمعزل عن تأثيرات القوى الوطنية والشعبية ولا بعيدا عن توجه أبناء الشعب العراقي من مختلف فئاته. إذ تقدم للانخراط في السلك العسكري حجم كبير ومهم من أبناء الفلاحين والعمال والطبقة الوسطى فضلا عن المخلصين من البرجوازية الوطنية أو الطبقات العليا…
وإذا كان صحيحا أنَّ كفة الصراع ظلت تتحكم بالجيش لصالح السلطات المتعاقبة، وأنه في عدة مرات تمَّ الزج بقطعات (محدودة) من الجيش العراقي في خوض معركة السلطة ضد الهبَّات والانتفاضات الشعبية كما حصل في قمع انتفاضة الشعب في خمسينات القرن المنصرم وفي انقلاب شباط 63 الدموي وكما حصل في ثمانيناته تحديدا في عمليات الأنفلة سيئة الصيت، فإنَّ من الصحيح أيضا أن الجيش لم يخلُ من القوى الشعبية النبيلة الملتزمة قضايا الوطن والناس وهي ذاتها التي قادت حركات الجيش لتصحيح الأوضاع…
لقد قارع الجيش العراقي قوى غاشمة أجنبية أو داخلية غريبة عليه.. وسار في عمليات البناء الذاتي من جهة المهنية والحرفية ومن جهة التزامه بدستورية وجوده ووفائه لمهامه المناطة به في حماية السيادة الوطنية على المستويين الداخلي والخارجي… حتى صار الجيش العراقي واحدا من أبرز جيوش المنطقة في منعته وقوته وجاهزيته..
إلا أنَّ السياسات الرعناء للقيادة السياسية أودت بالجيش إلى الموقف المعروف، بخاصة في ضوء قرارات الطاغية الأخير القاضية بالزجّ بالجيش العراقي في معارك مفتعلة وتداعيات تلك الحروب فضلا عن إزاحة القيادات النزيهة والمسلكية وتلك التي تمتلك الخبرتين العلمية المهنية والعسكرية الحرفية مستبدلا إياها بعناصر غير عسكرية وأولها شخص الطاغية نفسه…
المصيبة لا تكمن في تلك الجرائم وحدها ولكنها تُستكمَل بقرار حلّ الجيش العراقي كونه حسب القرار المعني يمثل قوة الطاغية المهزوم وهو ما ليس بصحيح قطعا. فالجيش العراقي بأغلب قطعاته رفض الدخول في متاهات المغامرات الأخيرة للطاغية ولكنه كان في ورطة انعدام القيادة المجربة بسبب من قطع رأسه وتسليمه لصبيان الرتب العسكرية المصنّعة.. فكانت مصيبة الهزيمة وما تعرض له من ضربات موجعة من جهة ومن مآس تالية بعد هزيمة الطاغية وقواته الخاصة، حتى أن أحدا اليوم لا يدري بالضبط كيف وأين جرى تهريب السلاح العراقي عدة وعتادا وهو ما يُقاس بالمليارات من ثروة الشعب العراقي…
*******
اليوم وبعد مضي خمس سنوات على هزيمة نظام الطاغية وسقوطه المدوّي، جرت محاولات لبناء جيش عراقي بديل. ويبدو من مسار الأحداث أنَّ بعض التجاريب لم تنفع قوى سياسية وزعامات بعينها فهي تصرّ على متابعة نهج أدلجة الجيش [إلزامه بأيديولوجيا محددة] وحزبنته [السطو على قيادته من قبل ممثلي أحزاب السلطة أو الحكومة]…
وبهذا يجري ترحيل الأزمة السياسية، وطبيعة أيديولوجيا الأحزاب التي سطت على الوضع أي أيديولوجيا الخطاب الطائفي، وإدخالها في جسد القوات المسلحة الجديدة.. ومن أمثلة الأخطاء الكارثية الجارية اليوم:
- إدخال عناصر لا تصلح للمهنية العسكرية لأسباب شتى..
- إدخال الخطاب الطائفي سواء في بنية التعيينات أم في فلسفة توجيه القطعات وخططها وسياساتها…
- إجراء ترقيات عسكرية لا تستند إلى التدرج المهني والخبرات الحقيقية ولا تلتزم بالشروط المخصوصة لتلك الترقيات.. ويمكن لأي متابع أن يرى العجب العجاب في مثل هذه الحال. فقبيل سنوات خمس أو أقل طالعتنا شخصيات عسكرية برتبة ملازم وها هي اليوم طفرة واحدة تحمل رتبة لواء أو غيرها من الرتب فضلا عن منح عناصر أخرى رتبا منذ أول دخولها للجيش…!!!
- إدخال عناصر ميليشياوية في الجيش بحجة وبغيرها ومعروفة الفروق بين طبيعة الجيوش وتركيبتها وتدريباتها وبين طبيعة الميليشيات وتركيبتها وأهدافها أيضا…
- الاتجاه لفرض قيادات حزبية محددة على القطعات المختلفة عبر إدخال العناصر السابق ذكرها ومنحها الرتب العسكرية التي تتناسب ووضعها في المسؤولية التي يريدها هذا الزعيم أو تلك القيادة…
- إهمال الاستخبارات العسكرية وفسح المجال لاختراقات أجنبية عادة ما تطالعنا الخطابات الحكومية بتبريراتها العرجاء في إبعاد فرد أو آخر بعد افتضاح أمره لأبناء قواتنا من الذين انتسبوا عن إيمان بقضية الوطن والشعب…
- إجراء التدريبات على وفق الأجندات الأجنبية وعروضها. فكل تبرع من أية دولة ومن أية جهة يُستجاب له بلا مقدمات ولا شروط إلا دواعي استغلال فرصة لتلقي تدريبات من دون التفكير في خلفية تلك العروض واحتمالاتها…
- التعامل مع دول تقليديا ما زالت تمتلك أجندات تتعارض والمصالح الوطنية العراقية وهي لا تخفي أهدافها تلك وإنْ تسترت أحيانا بذريعة النظام السابق وبقاياه…
- طبيعة التسليح العراقي الراهن وحجمه ونوعيته وهنا ليس الحديث عن محددات ما بعد الحرب ولكن عن ظواهر فساد خطيرة طالعتنا بها جهات عراقية عديدة وتحدثت عن (خردة) غير صالحة للاستعمال يجري تصريفها على حسابنا وبأموال طائلة..
- ترك متابعة ما جرى للسلاح العراقي من طائرات جثمت في بلدان مجاورة ومن عتاد ثقيل تحديدا لم تعلن الجهات الرسمية عن خططها في التعاطي مع القضية ومتابعتها مع قوات التحالف المسؤولة عن الأمر طوال مدة وجودها بخاصة في السنة والنصف الأولى أي عامي 2003-2005…
- إهمال التعاطي مع مشكلة حصر السلاح بالجيش العراقي فقط. وترك الأمور بلا حلول جذرية حاسمة، أو سبهللة بيد من هب ودب ممن يطلق على نفسه مسمى جيش وميليشيا وما شابه.. ومثالنا جيش المهدي والميليشيات الحزبية التي نشأت وتدربت وتجهزت وما زالت تتسلم مرتباتها من دول إقليمية معروفة والأمر لا يقف عند المرتبات تخترقها عناصر من جيش القدس الإيراني مباشرة… دع عنك عديد القوات أو العصابات اللاعبة هنا في التقتيل والتخريب…
- للظرف العراقي الخاص يُكلف الجيش اليوم بمهام فعلية لا تدخل حرفيا أو مهنيا بين واجباته المباشرة كما في أعمال وواجبات خاصة بالشرطة الوطنية وهو هنا لا يقوم بمهام مساندة بل بواجبات ميدانية كاملة تتطلب تدريبات مختلفة عن تلك التي يؤديها وتؤديها الجيوش التقليدية… وفي ضوء هذه الحقيقة يقع الجيش اليوم في مطبات غير محمودة العواقب إذا ما واصلت السياسة العامة زجه بهذه الطريقة التي لا تنتبه لطبيعة المهام ولا إلى متطلباتها وشروطها ونتائجها البعيدة…
- يجري تحميل بعض القطعات واجبات أكثر من طاقتها وطبيعة تدريباتها وتُستخدم أسلحة في ميادين غير ميادينها ما يوقع ضحايا أبرياء من المواطنين ومن الجيش وقد حصلت أن طالعتنا الأنباء بمثل هذه الحقائق وجرى طمسها ووقف الحديث عنها للملمة من يقف وراءها وتحديدا القيادة العامة للقوات المسلحة بشخص القائد العام والقيادات الميدانية التي منحت الرتب بلا استحقاق عسكري..
إنه إذ يجري تسجيل هذه الملاحظات بوصفها تصورا مبدئيا وانعكاسا لمجريات ما يتوافر من أنباء وأخبار فإنه في الوقت ذاته تدعو هذه الورقة جميع القوى الوطنية الحريصة إلى معالجة إشكالية الجيش الوطني العراقي والتحاور بشأنه من أجل التأسيس له بطريقة موضوعية صائبة تستند إلى الحرفية والمهنية العالية وإلى تجاوز كل تلك الثغرات التي ترقى لمصاف الجريمة بحق أبنائنا الذين نضعهم في مطحنة أخطاء السياسات الجارية…
وعليه أطالب البرلمان العراقي واللجان المختصة فيه ومن يعنيهم الأمر من قادة الجيش العراقي لدراسة الآتي:
- تحديد دور القائد العام بالقرار السياسي المستند لرأي قائدي الجيش المباشرين وهما رئيس الأركان ووزير الدفاع ومنع التدخلات المباشرة من القيادات السياسية من تلك التدخلات التي تتجاوز الصلاحيات وتخترق الأوضاع بما يعطل المسارات الصحية الصحيحة للقوات المسلحة..
- منع الانتماء الحزبي للعسكري طوال مدة خدمته ومنع أية تدخلات حزبية وقطع الطريق على فكرة التركيبات الطائفية والمحاصصات في القوات المسلحة وتثبيت مبدأ الوطنية وحماية الأمر دستوريا…
- منع إدخال الميليشيات كافة في السلك العسكري وبلا استثناءات لأي سبب على المدى الاستراتيجي ومعالجة الأمور في المرحلة الراهنة بشأن أية ظروف مخصوصة في أقاليم البلاد. بما يستجيب للتطورات الدستورية ولكفاءة عمل الجيش العراقي… ويمكن أن يُتاح لدخول أعضاء تلك الميليشيات للجيش بصفة فردية وبنفس الشروط التي يخضع لها جميع العراقيين من دون تمييز وهي شروط العسكرية ومتطلباتها وفروضها…
- مكافحة الفساد وأشكاله سواء في التعيينات أو الترقيات أو العقود الخاصة بالتدريب والتسليح وغيرهما…
- الارتقاء النوعي بكفاءة الجيش العراقي واعتماد العناصر الوطنية المدربة بهذا الشأن أو استقطاب الخبرات الموجودة ولو في الشؤون المتاحة بعيدا عن إعادة العناصر المعنية إلى أية قيادة في الجيش…
- الانتباه لجهة التدريب والتسليح ولشروط التعاقدات في المديات القريبة والبعيدة مع الأخذ بالعقيدة العسكرية المتبعة في الجيش العراقي طوال مراحل وجوده، بما يقدم المصلحة الوطنية ويعليها..
- تشكيل لجنة و\أو تفعيلها بشأن أسلحة الجيش العراقي وأين تسربت ومتابعة الأمور لحين حل آخر ما يتعلق بهذا الشأن..
- مراجعة قائمة التعيينات السابقة منذ بداية تشكيل الجيش الجديد ومراجعة الرتب العسكرية على وفق السيرة الخاصة بكل رتبة وإعادة دراسة الموقف واقتراح ما تراه القيادات التقليدية المعروفة بمسلكيتها وحرفيتها أو مهنيتها العسكرية الأمينة…
إنَّ كل ما ورد يقبل الجدل والمراجعة على وفق الحقائق التي يعرفها المعنيون المختصون ومن هم على تماس مباشر مع الموضوع.. ويمكن رفض أو قبول كل أو أجزاء أو بعض مما ورد في ضوء مبدأ واحد هو مبدأ تشكيل جيش وطني عراقي خارج فلسفة المحاصصات والخضوع لفلسفة تعيد علينا سياسة النظام المهزوم في التعاطي مع الجيش العراقي…
وبخلاف مثل هذا النهج الوطني وفي حال استمرار التذرع بأننا ما زلنا في البداية وبأننا ينبغي أن نمرر هذا الأمر استرضاء لهذا الطرف وذاك تطمينا لموافقة ذاك الآخر، فإن القضية تضع البلاد على كف عفريت واستقبال عاصفة بل إعصار لا يترك خلفه سوى قفر من الخراب والمتاهات.. فوجود جيش وطني حقيقي هو الحامي الأمين للسيادة ولحق الشعب في الحياة الحرة الكريمة بلا عبودية أو تبعية كما يحصل اليوم من اضطرار لقبول بوجود القوات الأجنبية لعدم جاهزية الجيش السادس في العالم لما قبل سنوات خمس…
إن هذه الكلمة التي تهمس بود في أذن كل ساسة العراق الجدد ستتحول إلى صرخة مدوية لا تقبل غدا حال الصمت والطمس؛ فشعبنا ما عاد يقبل أن يتسيد عليه فرد ومن يتحدث عن مجيئه بالانتخاب عليه أن يتذكر أن الانتخابات ليست بيعة أبدية كما كان يمرر الطاغية وأن الدورة الانتحابية آتية وهذه المرة سيصوت الشعب لا لخيار العملية السياسية التي حسم أمره لصالحها بل هذه المرة لتطهيرها ومعالجة الخيارات بما تمليه مشاهداته ومعايشته التي ذاق فيها الأمرين والجيش ليس أي فئة من الشعب فهو عامل الحسم والمبضع الذي تكمن مهمته في بتر كل فاسد يشخصه الشعب فحذار من التهاون مجددا يا كل القوى السياسية لابد من القبول باستقلالية الجيش وحرفيته وبشروط وجوده وطنيا…