دأبت الأحزاب والشخصيات الوطنية وعدد كبير من الجمعيات والمنظمات الديموقراطية على إرسال برقيات التهاني بمناسبة الأعياد القومية والدينية لأطياف عراقية ساهمت في إشادة صرح حضارته وفي تكوين بنية المجتمع العراقي المعاصر.. وإذا كان الأمر طبيعيا وعاديا طوال العقود المنصرمة من تاريخ العراق الحديث وأنه يمثل الحال الصحية الصحيحة في توكيد تبادلية العلائق بين أبناء الوطن على أسس وطنية وإنسانية تتجاوز حال اعتزال الآخر وعزله وحال الانغلاق القائم على الحذر والخشية من المكروه، إذا كان ذلكم مقبول التعبير عن الرؤية التي أشرنا إليها فإنَّه اليوم ما عاد يرتقي إلى متطلبات المرحلة…
إنَّ مسألة إرسال التهنئة صارت اليوم موجودة في بعض أداءاتها من بعض الأطراف صيغة مفروضة عليهم سياسيا.. فبالكاد كانت قوى بعينها تتذكر عيدا أو تضعه في أجندتها فتلاحق الحدث بعد تذكيرها وعلى استحياء ترسل تهنئة تسجل جهلها بالمناسبة التي لا تعرف لها تاريخا دقيقا ولا تفاصيل يصل الأمر فيها إلى عدم معرفة الاسم أو عدم معرفة طبيعة المناسبة ومضامين شعائرها وأساليب مبادلة التهنئة مع أتباعها ومؤديها…
وعلى الرغم من أنَّ أجواء تبادل التهاني تؤكد خلق أجواء وشروط التفاعل الإيجابي البناء بين الأطياف العراقية.. إلا أن الأمر سيعاود تكريس العلائق السلبية عندما تهنئ مجموعة قومية أو دينية أو مذهبية بطريقة تفتقد لإشعارهم بمعرفة أصول وطقوس حتى يتبدل الأمر من إشعار هذا الطيف أو ذاك بالتهنئة إلى احتمال شعوره بالخيبة من روتينية التهنئة وبرودها وانطلاقها لدواعي ذرائعية وللتمظهر بطريقة كاذبة تخفي ممارسات أخرى تثير لا الحساسية بل مزيدا من القلق وكثيرا من الخشية من التالي من التصرفات…
فلطالما تعرفنا إلى ما يُرتكب من جرائم تصفوية وعمليات ابتزاز بالخطف والاغتصاب للحقوق والطقوس والشعائر وحتى للبشر كما جرى في التزويج القسري لفتيات مسيحيات أو صابئيات مندائيات وأيزيديات لشخوص متأسلمين من أتباع الإسلام السياسي وفي عديد من الحالات جرى الأمر من عصابات وعناصر مسلحة محلية مدعومة من قوى خارجية إقليمية أو غيرها كما حصل في استباحة الأرمن ومجموع مسيحيي البصرة أو الصابئة المندائيين في ميسان (العمارة) وفي ذي قار (الناصرية) موئل هذه المجموعة القومية الدينية فيما جرى تهديدهم من ظهور أي تصريح بشأن ما يجري من وقائع؟ ومع ذلك تظهر من هذه القوى المحلية تهاني وتبريكات في العلن!!!
وإذا تركنا هذه الحالات فإنّنا نريد هنا الحديث مع مرسلي التهاني من القوى الديموقراطية والعلمانية تلك التي تسعى لتعزيز أفضل العلائق التي تؤسَّس على الروح الوطني والإنساني الذي يرفض التمييز لأي ذريعة قومية منها أو دينية مذهبية وطائفية، وهنا ينبغي لهذه القوى أن تدرك أهمية خلق تراكم معرفي ونسق اجتماعي منتظر في العلاقات بين كل أطياف الشعب العراقي ومكوناته بروح من المساواة والإخاء والعدل وبروح من تعزيز فلسفة احترام الآخر ومفردات طقوسه ومعتقداته بشكل حقيقي ثابت وراسخ…
إنَّ تمرير المناسبات بتهانِ ِ من سطرين أو ثلاثة ومراكمة الأمر بطريقة (التفاطين) ومن يذكرني بالمناسبة للتخلص من واجب ينبغي لي أداءه بأية طريقة سيكون له انعكاساته مجددا بعد مدة قصيرة.. وسرعان ما يتحول خطاب القوى الديموقراطية والعلمانية إلى مفردة تجيِّرها القوى الإرهابية وقوى العزل والتصفية لتكون غطاءَ َ لأفعالها الشائنة.. إذ يجري الحديث عن تلك المجموعات وحيوات أبنائها ووجودها القومي والديني وكأن كلَّ شيء عادي وطبيعي بدليل ظاهرة تبادل التهاني بكل حرية وجرأة!
وعليه فإنَّ الطبيعي اليوم لنتحول من مرحلة إعلان توجه المجتمع العراقي بأطيافه إلى حال احترام الآخر وتبادل العلاقات الإيجابية البناءة وإلى حال الدفاع عن هذا الآخر بمنع السماح للقوى العنصرية والشوفينية من تجيير خطابنا في الإخاء والمساواة وفي مشاطرة الآخر أفراحه حقا وفعلا وفي تثبيت حق الآخر في الوجود بمنع ظاهرة واسعة للخداع والتضليل تجري في وقت يتم البطش بالمجموعات القومية والدينية بلا هوادة حيث تتواصل عمليات سحقهم بين التصفية البدنية والتصفية كرها بإجبار بعضهم بالاختطاف والتزويج القسري وإكراههم على ترك المعتقد والتنكر للقومية التي ينتمي إليها وفي أهون الشرور بالتهجير إلى منافي الغربة القسرية بعيدا عن موطن الآباء والأجداد…
إنَّ منطقا سليما لا يمكنه أن يقبل تهنئة من مسؤول حكومي سيادي أو غيره ومن مسؤول حزبي أو زعيم لمنظمة أو حركة، في وقت تجري جرائم التصفية تلك. وإذا كان أي طرف يريد تقديم التهاني فينبغي عليه أن يزور تلك المجموعات القومية والدينية في بيوتها ومنتدياتها ومعابدها وأن يطلع على ملفات المعاناة [إذا ما قُرِأ بنسبها الحقيقية] من حجم التهجير المهول الذي أصاب المسيحي كلدانيا آشوريا سريانيا أو أرمنيا أو كاثوليكيا أو بروتستانتيا أو أرثذوكسيا والصابئي المندائي والأيزيدي وأي طيف عراقي ما زال مطموس الاسم والهوية كرها وقسرا…
وعلى من يريد مبادلة التهاني لا أن يكتفي بأسطره التبريرية المُجيَّرة لجريمة إبادة جماعية ما زالت تجري يوميا في بلادنا بخاصة في السنوات الخمس الأخيرة وهي الجريمة المسكوت عنها بذريعة أن جميع العراقيين سواء في الموت المجاني وجرائم الإرهاب وبلا ذريعة في مرات أخرى حيث يجري تجاهل الواقع المرير في إطار من تبادل التنازلات بين القوى المتخاصمة سياسيا…!
إنَّ هلوكوستا كارثيا يجري بحق كل مجموعة قومية ودينية في بلادنا بخاصة ممن يسمونهم في جريمة أخرى [أقليات] أو [طوائف] وحجم الجريمة يصبح بحق واقعا تحت طائلة القانون الدولي بوصفها جريمة إبادة جماعية لولا أن الأمور تسير اليوم بطريقة المسكوت عنه وبطريقة تمرير الوضع في إطار ما يجري للعراقيين بعامة فيما الحقيقة ينبغي إعلانها بطريقة تسفر عن مساهمة حتى قوى الديموقراطية والتحرر والعدل في جريمة لا تُمنح الكفاية من تسليط الضوء عليها في خضم الأولويات التي تحملها كل جهة سياسية.. وأبعد ما لدى بعض القوى الشريفة هو مواساة في واقعة أو تهنئة في مناسبة لا يعرفون عنها حتى دقة تسميتها…
ألا ترون أن بعض التهاني ترد في مناسبة ما فيكتبون فيها الاسم خطأَ َ؟ وألا ترون أننا لو استفتينا مرسلي التهاني في درجة معرفتهم بالمناسبة والجهة التي يرسلون إليها فستكون النتيجة تحت الـ 50%؟ إذن لماذا لا تساهم صحافة تلك القوى بإجراء لقاءات وحوارات مباشرة مع أخوة في الوطن والإنسانية؟ ولماذا لا تساهم في كتابة متجددة لتاريخ عريق من الوجود البشري المتحضر لهذه المجموعات القومية والدينية؟ ولماذا لا تعقد المؤتمرات المتخصصة ولا تدرس برامج موضوعية وافية؟ ألا يشكل التعريف بالتاريخ والجغرافيا وبالتوزيع الديموغرافي بداية أولية للتعريف بحقيقة هذي المجموعات وبتطمين حقوقها في الحياة الحرة الكريمة؟
إنني أدعو في المستوى البعيد لتغييرات دستورية ولتشكيل البرلمان من قسمين واحد يمثل مجلس القوميات والآخر المجلس الوطني ومنهما سويا يتشكل البرلمان العراقي الأنضج والأمثل؛ وأدعو في المستوى العاجل الفوري ومجددا لوزارة للقوميات في الحكومة الحالية.. وأؤكد على أهمية وخطورة ترك القضية وكأنها مقترح مزاجي لفرد أو لطرف ما وأحمِّل القوى السياسية في البرلمان الحالي مسؤولية تبني المشروع النبيل لتغيير استراتيجي في النظر للقضية القومية والدينية في بلادنا ولمخاطر عدم التعاطي الفوري والعاجل وبالحجم المناسب مع مسؤولية جدية لإعلامنا للتعاطي مع هذه الرؤية من أجل الضغط حتى تحقيقها وتنفيذها بما يؤدي لإنجاز الاستراتيجية المؤملة..
وإذا كنتُ بدأتُ بمفردة التهاني الباردة فإنَّ هدفي الحقيقي يكمن في توضيح عمق الجريمة وسخونتها والحجم النوعي الكبير للقضية لكي ننتقل إلى واقع جديد.. وسأبقى متابعا مصرا على مطالب عراقيينا الخاضعين لجريمة الإبادة الجماعية حتى ينعتقوا منها ويتحقق لهم العيش بسلام وأمان وحرية تامة ستعني فيما تعنيه تغييرات دستورية وبرلمانية وحكومية تستجيب للحق والعدل على وفق شرعة الديانات والقوانين الإنسانية كافة…