أنْ يعمل الصحافي في ظروف الطوارئ، أو أنْ يعمل في ظروف معقدة وصعبة فذلكم خياره حيث الصحافة مهنة المتاعب؛ وواجبه الذي يلتزم بأدائه. أما أن يخضع هذا الصحافي لعقبات وعوارض غير قانونية وغير إنسانية فذلكم مما لا يمكن القبول به.. فأعمال الابتزاز عبر أشكال من الضغوط والتهديدات عبر قنوات الفساد والترهيب المافيوية، كل ذلك مما يرصده الصحافي في العراق. وأعمال الاختطاف والاغتيال أو التهديد بهما صارت من الأمور المعاشة بشكل شبه يومي في الأوضاع العراقية الملتهبة اليوم…
والمشكل في قضية استهداف الصحافيين تكمن في عوامل: منها عدم استكمال أيّة حالة تحقيق في القضايا المرفوعة بالخصوص، أو عدم الكشف عمَّن يقف وراء الأفعال الجنائية بشكل قضائي قانوني مكتمل.. ما أفسح ويفسح المجال واسعا أمام مواصلة تلك الجرائم والجنايات. وفيما يُعرف أحيانا المجرم أو من يقف وراء الجريمة يجري إهمال المعلومات أو الحقائق المعروفة؛ وتمرّ الأحداث في أفضل الأحوال بتصريحات شجب من الجهات التي يُنتظر منها أن تكون فاعلة وحاسمة في مثل هكذا مجريات خطيرة تمس حيوات أبناء الوطن، تحديدا في مجال سلطتهم الرابعة…
إنَّ حالة الاستمرار في الغطاء المكشوف وعدم توفير الحماية الأمنية لحيوات العاملين في السلطة الرابعة (الصحافة) تولّد تداعيات غير محمودة العواقب. من جهة استفحال سطوة المفسدين وقوى العنف المسلح. حيث لايقف الأمر عند حدود عرقلة عملة سلطة متابعة الواقع ورصده وكشف خباياه، بل تذهب أبعد من ذلك في تمكين المجرم من ضحاياه وتحكمه بتوجيه الأوضاع في الاتجاه الذي يخدم مطامعه وأفعاله الجنائية…
ومن هنا صار واجب توفير الغطاء الأمني الأنجع للصحافيين أمرا يستدعي ارتقاء المؤسسات المختصة لمستوى المهام المناطة بها.. فمجرد تهديد هذه الشريحة يمثل جريمة خطرة وبوابة لتمرير كوارث لا نهاية لمسلسل نتائجها اللاحقة، فما بالنا إذا ما كانت الجريمة أبعد من التهديد حيث صارت تطال رؤوس \ حيوات الصحافيين الشرفاء الذين لم يطأطئوا رؤوسهم للتهديد!؟!
وفي هذا الإطار ينبغي الالتفات إلى توفير أجواء العمل الحر وعتقه من أية لغة للقسر والإكراه أو الابتزاز سواء ما جاء عبر استغلال النفوذ والسلطة مثلما يحصل بالاعتداءات المبررة بذرائع مختلقة (كما في اعتداءات الحمايات الشخصية مثال حماية عمار الحكيم على الصحافيين في كربلاء أو حمايات المؤسسات والمنشآت مثال منشآت نفطية في البصرة) أم عبر استغلال لغة التهديد والعنف بالاختطاف وحتى بالتصفية الجسدية التي تجري بطريقة بشعة كما شهدت الساحة العراقية في الآونة الأخيرة وطوال الأعوام الخمسة المنصرمة..
إنَّ السؤال هنا يتجه إلى المسؤولين الأعلى منصبا: هل يعتقدون أن مجرد توجيه خطابات مفبركة لتبرير ما جرى حتى من دون اعتذار رسمي ومن دون تحمل مسؤولية ما جرى ويجري، يكفي لتجاوز مثل تلك الأفعال الجنائية؟؟ وهل تكفي عقوبة التوبيخ أو التنبيه المتراخية لمنع تكرار تلك الأفعال؟
نحن نعتقد في ضوء ما جرى من سلسلة الأحداث المؤلمة بل المأساوية أن الأمر يستفحل ويتصاعد وهو سياسة ثابتة وأوامر صادرة من (مسؤولين) أنفسهم وأن كل ما يعلنون من كلمات معسولة عن الحقوق وتوفير أجواء الحريات والأمن والأمان ليس إلا دعاية رخيصة في للإعلانات المجانية مع إصرار من جهتهم على مواصلة سياساتهم الثابتة في الاختباء وراء تلك الحمايات وفي إطلاق أيدي قوى ميليشياوية ومافيوية بسبب من التراخي في متابعة الجريمة ومن التعاطي معها من خلال مقايضات حزبية أو فئوية محسوبة لا تسمح بالإعلان عن الفاعلين أو المتورطين ومن يقف وراء أولئك جميعا…
وباستنتاج أولي لا يمكن أن يقبل متفحص راشد أن يفسر هذا المسلسل بعيدا عن مراكز الفساد بكل أشكاله داخل مؤسسات الدولة وبعيدا عن سلطة تتحكم بالشارع هي سلطة قوى العنف بأشكاله الميليشياوية والمافيوية والعصابات المنظمة فضلا عن أشكال التراشق المسلح الدائرة ميدانيا.. وإلا فهل يُعقل أن يكون مسلسل العنف ضد الصحافيين هو مجرد نزاعات شخصية أو مصادفات بكل عشرات ومئات الضحايا التي يريدون أن تذهب هباءَ َ بلا من ينصفهم حقوقهم؟؟
وعليه فإنَّ كل من يعلن وقوفه مع حقوق الصحافي وتأمين حياته وحرياته في العمل الآمن عليه أن يدخل في مسيرة القبول بتفعيل القضاء الجنائي وتوسيع أدواته وإمكاناته وسلطته والإعلان الملزم عن نتائج كل تحقيق وكل جريمة أو جناية بشكل واضح ومكاشفة أكيدة بكل شفافية لتنفيذ العقوبات العادلة وإنصاف الضحايا.. مع إدخال شروط جزائية مضافة نظرا لأن الوضع الحالي في العراق هو وضع طوارئ وحالة استثنائية ونظرا لأن من تتجه إليهم الجريمة هم أدوات المجتمع للكشف عن خبايا الفساد والعنف وقواهما…
وعليه، لابد لمنظمات الصحافيين أن تتقدم بمشروعها بالخصوص تأمينا لحيوات الصحافيين وحقوقهم وألا تكتفي بإدانة أو شجب ينتهي إلى أرفف النسيان فيما الضحية لا تكون مقصية لوحدها بل تنتظر ضحايا أخرى جديدة بلا وازع من ضمير يتحرك لوقف المسلسل. ومقابلهم يضحك المجرم ويستمر في غيه وجرائمه بلا حسيب أو رقيب…
إنَّ هذا يمثل طامة خطرة في تمادي قوى الفساد وفي عشعشة أجواء الجريمة وفي مسيرة تنخر في الوجود العراقي لتجعل منه هزال وفجأة يختفي نهائيا حيث ينتهي مصاصوه من شفط آخر قطرة دم لا نفط في هذا الوطن .. وليس هذا بخيال لتفعيل النظر في قضية الاعتداءات على الصحافيين أو جرائم تصفيتنهم بل واقع مؤسِ ِ لابد من التوقف عنده بدراسات مناسبة تضع الحلول الحاسمة الصارمة…
فأمهات الصحافيين الذين جرى تصفيتهم وزوجاتهم وأخواتهم وأطفالهم لا يشبعهم كلام معسول ولا يغنيهم وعود بكف الحمايات عن رؤوس الأبناء أو وعود منع المجرمين من أن يطالونهم فذلكم مما أشبعهم إياه السلف من مسؤولي النظام المقبور.. وليس من حل مقبول إلا استكمال جهاز قضائي عادل للقرار المؤمل في كل جريمة وواقعة وحدث حيث لا استثناء من سلطة القانون ولا تقويض لإجراءات عادلة…
ومن الطبيعي هنا أن نؤكد أنه ليس من المعقول أن تقف الأمور عند تصريحات المسؤولين وبياناتهم وخطبهم فإذا كان المسؤول يكتفي بالبيانات ويطالب ويُسائل، فمن سيكون صاحب القرار والحسم؟ ومن ستوضع في رقبته مسؤولية العمل والأداء؟ ولا يمكن هنا أن تذهب الأمور سدى بين بيان يصدر من مكتب محافظ وآخر يصدر من مكتب رئاسة الوزراء أو ديوان وزارة إذ ينبغي لممثلي الصحافيين أن يصروا على متابعة إجراءات عملية تبدأ فور أية واقعة ولا يتركوا الأمور للوعود والبيانات..
إنَّ دم الضحايا وحقوقهم لا تعود بتركها للروتين الحكومي فكيف بنا والوضع القائم فيه من الخلل والثغرات ما يشارك في تعميد مسلك الجريمة وسطوتها! نضع ثقتنا بأن مظاهرات الصحافيين والإعلاميين عامة بدأت لتقول كلمتها وتعيد الحقوق وتشارك جديا وبمسؤولية تامة في إنصاف منتسبيها بالضد من شريع الغاب والاعتداءات السافرة….