حال العراق والعراقيين سطع دوما باسم سومر وبابل وآشور وما قدمته حيث المدرسة البشرية الأولى والمكتبة البشرية الأولى ونور تراث الإنسانية الأول.. وحيث بغداد دار الحكمة وعودة العقل العراقي بعد جفوة من الزمن وبدء مسيرة التنوير البشري مرة أخرى من هنا حيث الجامعة المستنصرية تجمع العلماء وجهود البحث العلمي وحيث مجموع العراقيين يحيون هنا في حواضرهم في حال من البناء والعمل وجهود العلم في أجواء من الاستقرار وصناعة السلم والمحبة والتقدم…
ثم تأتي المآسي بسقوط البلاد والعباد أسرى العصمللي حتى يأتي الأنجليز وتقوم المملكة وتدور جنازير الموت بقوائم مرسلة عبر المحيطات لاغتيال قائمة أولى من 1700 عراقي متهمين بقيادة العراق بسفينة الديموقراطية واليسار فيكون شباط الأسود كما يصفونه وهو الأحمر بدماء الأحياء محقتهم الآلة الجهنمية للفاشية الستينية فالسبعينية بكل حروبها الدموية الفتاكة ثم تبدأ لعنة تلك الآلة الجهنمية نتائجها الكارثية المهولة حتى يومنا!!؟
فكما يسَّاقط من المطحنة بعض الحَبّ بعيدا عن طحنها، يتسلل هاربا بعض العراقيين لينجو بأبنائه والنسوة والبنات والشيوخ مبتعدا بهم عن بساتين ديالى وأزاهير أم الربيعين وظلال نخيل البصرة وشجيرات واحات الأنبار وشطآن الفراتين والشط وجمال قصب الأهوار وبعيدا عن خضرة السهوب والجبال؛ بعيدا حيث أبعد نقطة يمكنها أن تحمي سلامة حياة بريئة من زئير الشر وأنفاسه الكريهة ومخالبه المتوحشة…
ليست هذي الكلمات إلا محاولة للحديث بصوت الأنفس والأرواح الطاهرة لأولئك العراقيين كما الحلم شفافة مخيلته ولكنه واقع الألم كما الكابوس لا يُدرس من أبواب الجنان بقدر ما يُدرس من بوابات جهنم التوحش والقسوة والألم… ها نحن اليوم وكل البشرية معنا لا نعرف للعراقي الذي غادر وطنه توصيفا أهو مهاجر أم مهجَّر أم منفي أم نازح أم شتيت؟؟؟
والقضية سيداتي سادتي ليست قضية تسمية بقدر ما هي محاولة للتعرف إلى حقيقة هذا الإنسان وجوهره وطبيعته وقراءة سلوكه وتفاعلاته مع الآخر من بني جلدته ومن غيرهم مثلما التعرف إلى حقوقه الإنسانية نفسية واجتماعية وسياسية واقتصادية… وطبيعي تماما أن نجد فروقا بيـِّنة بين كل مسمى: بين المهاجر والمهجر والمنفي والشتيت….
وبالحديث عن أغلبية العراقيين الذي تركوا الوطن سنقرأ بينهم كل تلك المسميات وسنضيف إليها النازح والتارك والمغادِر وأشكال السفر والبعد عن الديار لأسباب شتى…. وبدءا لابد من تعريف المصطلحات المستخدمة اليوم في المعجم المعرفي السياسي منه والاجتماعي والاقتصادي وأبرز تلك المصطلحات هي:
المهاجر والمنفي والنازح وأخريات من نمط الراحل المغادر المسافر التارك المعتزل المبتعد وجميع المفردات الأخيرة ليست من الاصطلاح المقصود بهذه القراءة بقدر ما هي من المعجم المساعد لتفسير المصطلحات إياها….
فأما المُهاجِر: فيأتي لغة من هَاجَر يهاجر فهو مهاجر أي ابتعد عن الشيء أو الأمر أو المكان [هجره] وهجّرَ أي أخرج من البلاد أو الدار وأبعد امرأ عن أهله وناسه.. والمهاجر من ترك بلده إلى آخر غيره بقصد الاستقرار لأمر أو سبب دفعه للهجرة… والمَهْجر مكان يقصده المهاجر للاستقرار والإقامة والمهجور المتروك استعماله والهجرة خروج وانتقال من بلاد لأخرى سعيا وراء أمر… ولا تكون الهجرة بالضرورة طلبا للأمن وتجنبا لأمر طارئ فقد تكون خيارا يقصد استبدال إقامة وثقافة ووجود.. ولكن هذا ليس كما في حالة التهجير ولا كما في النفي ومثله…
ولقد شهدت الهجرات توسعا كميا ما ولَّد الجاليات وحال تعدد الثقافات، كما تولدت ردود فعل وليس تفاعلات بمعنى السلب كما في الحركات المعادية لاستقبال المهاجرين أو بعضا منهم وللتعايش مع ذوي الأصول الأجنبية من الجاليات أو بعضا منهم وبعيدا صارت العنصرية أوضح مشهدا في التعاطي مع المهاجرين والهجرة ومع آثار ولادة الجاليات… بخاصة تلك الحالات التي تمسكت بتطرف وتشدد بتفاصيل ما حملته معها من خلفيات ثقافية بالمعنى الواسع لمصطلح ثقافة…
وفي الحقيقة، لا يسع المرء إلا أن يشير إلى حالة الاستقرار والتعايش بطريقة ما من قبل المهاجر ومحيطه الجديد، لكن العزلة والانفصام عن هذه البيئة أكثر ما نشهده في أناس لا يوجد في مقاصدهم الاستقرار النهائي والاندماج بالمحيط الجديد بل يبقون بين الإفادة من المستقر [لا المهجر] وما يمنحهم من أفضليات مع الاحتفاظ بطرز العيش التقليدية التي وفدت معهم وما زالت تحيا بين أضلعهم وفي أنفسهم وأساليب عيشهم…
هنا سنتحدث بالخصوص عن غيتوات الشتات: فمن مفردة شتَّ: افترق، وشتتِ الدار بفلان بعدت عنه.. وشت الوجد بقلبه أثاره وبلبل أفكاره [ومن ذلك سمات الشتيت النفسية والاجتماعية والسياسية بلبلة ولا استقرار]. وشتت الأشياء فرقها ويقولون: شتت الله شملهم وأشتَّ إشتاتا: فرقهم؛ وأشتات مفردها شتّ. وشتت الضوء الأبيض إلى مفرداته من الألوان.. وشتان ما بينهما بعد وعظم الفرق بينهما. شتيت وجمعها شتى قوم شتيت \ شتى أي متفرق صار جمعهم شتيتا…
والشتيت إنسان بَعُدَ عن موطنه وأهله كرها وقهرا مع سمة مفارقته الشتيت العراقي الآخر في المستقر الجديد ما قد يعني أنه مفارِق مؤقت ينزع للعودة ويتطلع إليها في إيمان ثابت راسخ في دواخله حيث ينقطع الاستعداد النفسي لديه للقبول بحال الاستقرار في مهجره، وإنْ تعاطى مع هذه الحال الجديدة بطريقة مشابهة للمهاجر.. لكنه يبقى في حال من الانفصام بين تطلع نفسي مكين مسيطر على أهوائه ورغباته وخلجات وضعه النفسي باتجاه موئله الأول وبين واقع يوفر له المستقر الملائم لراهنه أو يفرض عليه هذا البقاء… وهذه الحال في الحقيقة تدفع باتجاه عزلة داخلية وغربة تعمِّق سمات الفردنة والقطيعة والتشكك بهذه الدرجة أو تلك ما يمزق الوجود الاجتماعي للمعني ويبعده عن الانسجام والتفاعل مع نظرائه وأكثر من ذلك وضع الحواجز عن محيطه الجديد وحتى مع أبناء جاليته متحسسا [سلبيا] كثيرا من الأنشطة والفعاليات العامة…
وكما يبدو فإنَّ سمة كثير من العراقيين تضعهم في توصيف أبناء الشتات لا المهاجرين وإن بدا اليوم حالا من التفكير بالانتقال إلى سمات المهاجر وحسم أوضاعهم بصورة نهائية في دواخلهم النفسية… لكن الوضع العراقي في السنوات الخمس الأخيرة لم يستقر لاستيعاب الهجرة السبعينية وجذب بعضها باتجاه العودة فسرعان ما انتكس ليدفع بمجموعة عراقية جديدة تحت ضعوط عنفية قاسية.. ولكن المجموع الجديدة تنقسم بين مهاجر ومهجَّر وشتيت وبين أغلبية نازحة..
وسمة النزوح نستنتجها من عودتنا للمعجم إذ أنَّ نزح نزوحا فهو نازح تعني: بَعُدَ الشخصُ عن داره أو أرضه.. ونزح من الريف إلى المدينة أي انتقل إليها. والنزوح عن الدار قهرا! ومقاومة النزوح بتوفير فرص عمل وخلقها.. وللبئر نزحها حتى قلَّ ماؤها ونفد.. والفعل نزح لا يتحدث عن الفرد كما تجمهر القوم إذ هو رحيل قسري بقصد ترك حال سلبية لحال أفضل وهو ترك يعني ألا عودة إلا بتغير الشروط والظروف التي دفعت للنزوح مع متغيرات جدية مشجعة…
ويمكن الحديث عن مئات ألوف النازحين من العراق في أعقاب 2003 من الذين تركوا منازلهم [أكثر من أربعة ملايين نسمة] ممن استقروا بين محافظات أخرى أو في سوريا والأردن ومصر أو من استطاع الذهاب بعيدا إلى أقاصي البدائل من بلدان كوكبنا… وسيكون من الخطر أن تحاك بشأنهم ضغوط وآليات قسرية لإعادتهم في وضع لم تتغير شروطه جديا.. لأن رد الفعل للمستنزف في محاولات صنع حياته لن يكون إلا رد إنفجاريا أخطر شأنا على الوضع ذاته… إنَّ حال النزوح يعني الاحتجاج الجمعي على وضع ما يتطلب دراسة مخصوصة في وسائل الإعادة بقناعة وبوجود شروط ملائمة غير التي حصل في ضوئها النزوح وسيكون لدور الدولة ومنظمات الأمم المتحدة أهمية منتظرة في التعاطي مع هذي الحال عراقيا…
وبين هؤلاء جميعا يبقى المنفيون بخاصة المنفي السياسي مهصورا بكل مساوئ الآلة الجهنمية للضغط على الإنسان… والمنفي هو المنكر وجوده فنفى الشيء أنكره ونفى الشخص أبعده منكرا عليه فكره ووجوده، وطرده من داره وموطنه.. وتنافى الشيئان تعارضا وتخالفا لكن التنافي غير النفي الذي يدل على سطوة طرف وكلية قدرته في فرض أمر على الطرف الآخر وهو المنفي أو المحكوم بالنفي عن داره و وطنه.. ومن نفايات القوم من أراذلهم لكن النفاية تمتلك سلطة القسر والنفي فتحكم وتتحكم فيما المنفي إنسان مقموع مستلب مسروق من تلك النفاية صاحبة السلطة فهو موجب قيما ووجودا مستلب سلطة القرار مبعد عن موئله…
ولعل كثيرا من عراقيينا يقعون تحت خيمة النفي والمنفي وهذا الشخص يمتلك من الإيجاب في التعاطي مع وضعه النفسي ومع محيطه الموضوعي بتفاعل يناء يأخذ ويعطي إنسانيا سواء أ عاد إلى موطنه أم استمر في منفاه……………….
وللحديث بقية تسأل القارئ الكريم تعليقه ورؤيته لوضعه ولوضع الجاليات العراقية حاضرا ومستقبلا وفي أية خانة يمكنه أن يوصِّف على وفق رؤيته وطبيعة المصطلح مجموع عراقيي الخارج في نسب يتصورها بين مهاجر ومنفي ونازح وشتيت؟ وكيف يقرأ حالة العراقي في اندماجه الإيجابي أو ذوبانه السلبي في الآخر أو قطيعته وانفصامه وعزلته في غيتو مخصوص؟؟؟ وحتى تتجمع رؤى القراء سنتابع القراءة والإحصاءات والتحليل النفسي الاجتماعي المناسب…