قراءات في شؤون التحالف والتسامح وثقافة الحوار
يتفاعل بعضنا مع وقائع الأمور بطريقة محتدمة تعود لسطوة قوة ردّ الفعل أو علو التأثر والانفعال على حساب الهدوء والمنطق العقلي المتحكم بمجريات التفاعل.. وقد يكون هذا من باب عمق الصلة والارتباط أو تناول الأمور عبر الإحساس ومعالجتها التي تدخل في النفسي وفي الحالة الذاتية وإخضاعها لروح الفردنة ولسلوك مشخصِن للقضايا العامة…
إنّنا هنا بحاجة للفصل بين ما هو شخصي ذاتي وما هو عام موضوعي.. ومن ثمَّ بحاجة لضبط ردود الفعل المختلفة نوعيا بيين ما هو خاص فردي وما هو عام جمعي.. وإذا كان من حقنا في الحالة الشخصية الخاصة أن نسمح لفسحة الانفعال أن تكون أوسع وأن يُفضي الإحساس ورد الفعل الخصاص إلى طريقة تناول ومعالجة مشروطة بهذه الأمور؛ إذا كان كل ذلك مقبولا أو مسموحا به بدرجة ما بسبب من كونه شأنا شخصيا، فإنَّ الشروط إياها لا يمكن أن يكون مسموحا بها أ و مقبولة عندما يتعلق الأمر بالشأن العام الجمعي….
بوضوح لكلّ منّا الحق في أن يسأل أو يتساءل عن السرّ وراء انفعال شخص في ردِّه أو تفاعله مع قضية جمعية أو عامة.. لأنَّ المسألة لا تتعلق بدرجة علاقة الشخصية بالموضوع العام ودرجة حساسيته لديه ولكنها تتعلق بإشكالية موضوعية المعالجة ومنطقها العقلي من عدمهما عند التناول ومحاولة إيجاد الحلّ.
من هنا ينبغي أن نركز على التثقيف بأهمية الفصل بين الذاتي والموضوعي، بين الفردي الشخصي والجمعي العام.. وسيكون هذا الفصل مجرد وضع الأمور في مواضعها المناسبة وليس محاولة للقطييعة ومنع العامل الشعوري الذاتي في التفاعل والإحساس بقضية أو أخرى بخاصة منها القضايا الإنسانية غير الرياضية البحتة…
إنَّ الحديث عن إدخال المنطق في تناولنا الأمور وتفعيل المعالجة الجمالية بالمعنى الواسع للمصطلح يعني أن نضبط توجهنا ومساراتنا مزيلين منها كل شوائب التفاعلات التأثرية الانفعالية وهي التفاعلات التي عادة ما تُنسي أطراف الحوار جوهرَهُ لتجعلهم مكرهين على الوقوف عند حدود قشرية مظهرية تتعلق بالأسلوب وإفرازاته السلبية طبعا كونه أسلوب تناول فردي انفعالي محدود…
وقد يضيع هذا السلوب في التعاطي مع قضية حتى نسبة الاتفاق الأولي أو المبدئي الموجودة بل حتى احتمال حالة الاتفاق في أمر يزول بسبب من هذا التعاطي الانفعالي في معالجة العلائق والوقائع والأمور…
فشخص ما يحتد ويحتدم لديه روحه الانفعالي فيدخل في سياق الفرض القسري المبني على توهم أو افتراض قد لا يكون موجودا يقابله الأسلوب ذاته وتتصاعد حالة الاحتدام والتفاعل السلبي (العصبي) فنسقط في اختلاف فخلاف فصراع (انفعالي) فقطيعة ووقف للحوار…
وهكذا لا بين شخصين أو طرفين بل بين شخص وقضية يتناولها يُسقِط عليها انفعاله فيرفض التعاطي مع القضية ويعدّها أمرا معاديا أو نقيضا لوجوده واهتماماته وهي ليست كذلك.. فنجد أناسا لا يقبلون بأمر كونهم وضعوه في مسلَّمَات رفضهم المسبق…
فهل ينتظر بعضنا من بعضنا الآخر أن يساجله أم يحاوره؟ وهل ينتظر أن يتفاعل معه ومع قضاياه أم أن يحتدم ويشتجر معه ويتقاطع مع اهتماماته وقضاياه؟
طبعا ينتظر كل منّا أن يجد من الآخر الفعل لا رد الفعل والتفاعل لا الانفعال والهدوء لا الغضب والحياد لا الانحياز ومنطق العظة الحكيم لا منطق الاستعلاء الفارغ.. وطبعا ينتظر الصبر والتمعن والتؤدة مثلما ينتظر الكشف عن الخطأ بقصد المعالجة لا الاستهانة وبقصد البناء لا الهدم…
كم منّا النسبة التي تجد هذا؟ أجدني أمام مشهد من ثورة انفعال متصل مستمر يتوالد عن تعاظم في حدة ذاك الانفعال السلبي والغضب الهدّام وأجدني أمام أناس يدخلون الجدل والنقاش والحوار في أمر ليس بقصد الانتهاء منه تناولا ومعالجة بل هكذا في أفضل حال لأمر سفسطائي بلا طائل… كلام في كلام في كلام ولا عجب..
فغضبنا من كل شيء مهما تبسط وسهل يعود إلى أننا نال من التعب حدّ الاستنزاف ونال منّا الكلام والخطابات الجوفاء وهي الجعجعة بلا طحن.. حتى صرنا نغضب من قبل أن يبدأ الآخر حديثه أو حواره أو فعله.. فردّ فعلنا جاهز لكي يعرض نفسه ويعبر أو يعلن عن كونها [استوت: اكتمل طبخها على نار حامية] اُستُنزِفت وهو تعبير عن إحساس أو عاطفة أو ما يعتلج ويعتمل في الأنفس لا عمّا ينبغي من حكمة أو درس أو عظة وهذه جميعها موجودة لولا أن ما يمنعها من الظهور ليس غير استسلام للانفعال وفورته فكأنَّ النفسَ تقول لحالها: من حقي أن أثور مرة أو أخرى لأفرِّغ ما فيَّ من غضب وتوتر وشدّ وما شُحِنتُ به طوال زمن استنزافي واستلابي..
فهل التفريغ بأن نثور في غضب أعمى يُلغي البصيرة ويسلب العقل ويمنع المنطق ويصادر الحكمة ويُبعد السداد ويمحق الرشاد؟ وقفة هنيهة من لحظة الزمن ونرى أننا نساهم في تقديم أفضل خدمة لمن يصادرنا حقا ويستلبنا ويستغلنا ليجعلنا لا في انتظار الآخر بل في انتظار أنفسنا أن تهدأ وترعوي ولكنها لا تفعل وكثيرا ما رافقنا الندم بيننا وبين أنفسنا أو على أقل تقدير لا التقريع لأنفسنا بل معاتبتها بصمت سرعان ما يهرب لغضبة جديدة بلا سبب للغضب الحق فيكون الغضب الباطل…
كلنا يحمل روح المحبة والود والمصداقية والوفاء والاحترام ويحمل أيضا طاقات الإبداع والفعل والقدرة على البناء ونحن بالفعل نبني ونبدع فرديا وبالاشتراك مع الآخر الغريب عنّا ولكننا نعطِّل كل هذا عندما يتعلق الأمر بفعلنا الجمعي الموضوعي المشترك وعندما يتعلق الأمر بالآخر إنسانا أو موضوعا أو قضية..
أليس هذا الموضوع بحاجة لدوركم ايها العارفون في علم النفس وعلم الاجتماع: ما رأيكم في تناول هذه الظاهرة في إجابات بعينها وفي نماذج تساعد الناس اليوم على التعاطي لتغيير ما في الأنفس.. حيث “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” وحيث أن “اعملوا فسيرى اللهُ…” إذ العمل علينا نحن الأفراد والجماعات وليس على الغيب وبلا عمل وفعل يتعطل المنطق وتسود الخطيئة بحق أنفسسنا وبحق غيرنا..
فهل منّا من حسم أمره وصار قراره أن يطارد أصحابه ومحيطه بالهجمات والثأريات والانتقام؟ وهل منّا من صار يبني لنفسه مجده وسور حديقته أو بيته بهدم سور الآخر؟ وهل من الصواب أن نعتاش على ردّ الفعل وعلى الغضبة التي تهدم أو تقطع فيما الحياة فعل وبناء..؟
لمن رضي لذاته أن يستمر في حلبة الهبش والنبش حيث القال والقيل وافتعال رذيل المقال بحق الآخر وحيث الاعتياش على الهدم فينتهي بلا بناء يبيت فيه لا نقول سوى: إنَّ الإنسانَ الفعلُ لا ردّه وإن الحق الحكمة لا العاطفة مريضةَ َ…
فهلا ارعوينا ووجدنا في انصاتنا للحكمة والرشاد فسحتنا لنقول إننا الأفضل لأننا ننصت ولأننا من بعد نعمل فلا نكونن هدما أو ردّ فعل سلبي انفعالي؟
وسنراجع مع السائل والمعلق في هذا الموضوع أمثلة حياتية قد تفيدنا إن أصبنا هنا أم أخطأنا فالعبرة في نتيجة الجدل بيين ما يقترحه التناول هنا وبين من يقرأ ويحاور…