تدهور المشهد العراقي العام مذ تسلَّمت أحزاب الإسلام السياسي السلطة وتحديدا مذ تحكَّمت وتسيَّدت ميليشيات تلك الأحزاب على الشارع السياسي العراقي. وليس لعراقي إلا أنْ يتحدث عن المذابح والمجازر والمآسي الكارثية المهولة التي حاقت به طوال السنوات الأربع الماضية…
فيما أشارت الدراسات الموضوعية إلى أهمية البدء بمشروع وطني شامل يشرع بتشكيل جيش وطني الأسس والآليات والمستهدفات وشرطة عراقية غير مخترقة ولا مجيَّرة لهذه الفئة أو تلك… وطبعا لن يستطيع طرف أن ينهض بهذه المهمة في ظل سيادة مطلقة للميليشيات الطائفية والحزبية التي تمارس أنشطتها بطريقة مافيوية وعبر تصفيات دموية بكل الأشكال الفردية الشخصية والجماعية على طريقة الهولوكوست…
وبات العراق مغارة معتمة تتحكم فيه خفافيش الظلام… غذاؤها لا تكفيه أنابيب البترول التي تصب في جيوب زعامات وحوشية القيادات بل كان لابد لهم من الدم العراقي لا يُراق بهمجية وحسب بل ويجري امتصاصه بمختلف الطرق والوسائل!! لقد بتنا موئل الرعب الواقعي فباتت أفلام الخيال والرعب هزلية رخيصة تجاه الواقع العراقي..
وما ينبغي ذكره هنا أن نسجل شهادة العراقي المغلوب على أمره في جهة تلك الحملة الفاشية بحق العراقيين عموما وعلى رأسهم العقل العراقي من علماء ومفكرين وفلاسفة واقتصاديين وزعامات وطنية.. حيث تتجه أصابع العراقي الضحية إلى تلك الميليشيات وإلى تـَنفـُّذ جهات إقليمية ودولية في توجيه أنشطة تلك القوى التصفوية الدموية…
والحكم الموضوعي المتعقل لا يتهم لا أعضاء أحزاب الإسلام السياسي ولا أنصارهم فغالبية من هؤلاء لا حول لهم ولا قوة وليس لهم في المعركة لا ناقة ولا جمل.. كلا ما تعشَّموه وتمنوه أن تكون تلك الأحزاب البديل الذي يُخرجهم من زمن الظلم والحيف والاستغلال الأبشع وأن يحقق لهم مطالبهم في الحياة الحرة الكريمة؟ ولكنهم سرعان ما نبيَّنوا أن تلك ليست سوى أوهام وأضاليل خسروا معها حتى ما كانوا يملكون من بقية أعمارهم وأبنائهم وكرامة عوائلهم وشرفها المدنس بالرصاص والسكاكين وأحبال المشانق ونير عبوديتهم للطغاة جميعا…
وهكذا ما بقي للعراقي إلا أن يرفع الغشاوة وأغطية التضليلي ليخرج في مظاهرات واسعة رافضا تلك السلطة التي ما كفاها دموية الطاغية المهزوم وبقاياه فشغَّلَتْ الآلة الجهنمية التي أوقفها زمن النهضة البشرية قبل قرون.. واستعادتها لتدير مطحنتها الكارثية مجددا وهذه المرة حبوب تلك المطحنة العراقيون بكل أطيافهم…
وحتى المرجعية الدينية الحقة لا السياسية المتظاهرة ادعاءَ َ عبر أعمة الزيف وجلابيب الضلال، حتى تلك المرجعيات رفعت غطاء الدعم لأحزاب التأسلم السياسي سواء من باب التخلص من جرائمها أم من فشلها في إدارة الأمور وتثبيت الاستقرار، والأصوب التخلص من تبعية أو جريرة تلك الأفعال المشينة التي ما عاد عراقي يجهلها…
ومع أن قوى إقليمية ما زالت تراهن على بقاء تلك الأحزاب وأن فلسفتها البرغماتية تتلفع بغطاء تبادل العلائق مع قوى دولية عبر قنوات تنفيذ مصالح مقابل كرسي البقاء؛ ومع أن هذا الأمر يُبقي على سلوك قوى علمانية سياسة َ التحالفات [وإن كانت المؤقتة والجزئية]، إلا أن الأمر بات يتداعى وباتت تلك الأحزاب تتشقق من الداخل..
فبين الانقسامات التنظيمية في التحالفات وفي الأحزاب نفسها [كما جرى في تفكك واضح في تحالف الائتلاف الشيعي وجبهة التوافق وكما جرى على الصعيد الحزبي في إطار حزب الدعوة أو غيره من الأمثلة عديد ومعروف] وبين التناحرات في المصالح وانكشاف فضاءات تلك التناقضات الضيقة على حساب جمهور الضحايا من أبناء الشعب بأطيافه جميعا، بين هذا وذاك كانت حالة الاحتراب والاقتتال تجري دموية بشعة حتى على صعيد القيادة الحزبية الواحدة ويمكنك القياس على بقية الصُعُد…
ولكن المأساة ليست في احتراب هؤلاء وتضارب أطماعهم واحتدامها وتضخمها البيِّن، المأساة الكارثة أنَّهم ما عادوا ينظرون إلى أية فئة أو قوة ولا إلى اية مؤسسة للدولة أو لمنظمة دولية أو غيرها وصاروا يتصرفون في أبناء الشعب كأنه قطيع أنعام يعتاشون على دمه المهدور وشرفه المسفوح……!!!!
ولكل من ينظر إلى التهدئة الحالية التي تتحدث عنها وسائل الإعلام أكثر مما يحسها أبناء الشعب البسطاء الذين من تجاريبهم يعرفون أن ذاك الهدوء الذي تمتلكه العاصفة المتخفية المنتظرة وليس ما يمكن الحديث عنه حقا، ما يجعلنا نقول: إنَّ ذلك لأمر لا يخفى على عاقل إذ بين ليلة وضحاها تجري مفاوضات إقليمية دولية لينجم عنها تهدئة موضعية جزئية مقابل إتاحة فرصة اغتنام نتائج جريمة الآلة الجهنمية وحركتها الهولوكوستية في توزيع يُنصف أطراف الجريمة ويواصل استلاب الناس حقوقهم وغصة كرامة جريحة وشرف مهدور!!
في المتاح لدى الشعب العراقي ليس أكثر من العمل الوطيد والثابت من أجل نزع سلاح الميليشيات في خارطة طريق واضحة وبأسقف زمنية محددة.. وتنقية وزارتي الدفاع والداخلية من دخيل ومريض وتابع لهذه الفئة الميليشياوية أو تلك ما نحن بحاجة فيه لمؤتمر وطني شامل من أجل هاتين الفقرتين…
وعلى أحزاب الإسلام السياسي إذا كانت تريد البقاء أن تتجه لإعلان صريح بتصفية قواها المسلحة نهائيا حيث لم تعد هناك من ضرورات لبقاء تلك الميليشيا على أن تجري الاتفاقات بالخصوص بوجود مراقبين عراقيين وغير عراقيين ممن يرى فيه العراقيون الإنصاف والحكمة والجدية في مناصرة الحل الوطني العراقي…
وفي ضوء ذلك يمكن القول: إنَّ السنتين المقبلتين للوصول إلى انتخابات وآلية عمل ديموقراطي أو شبه ديموقراطي تتضمن تحقيق هدف إنهاء الميليشيات وترسيخ سلطة الجيش والشرطة الوطنيين غير المخترقين والمميزين بالكفاءة والحرفية العالية…
ولابد هنا من التوكيد على إبعاد كل القوى المسلحة ونهائيا عن الدخول في الجيش الوطني والشرطة وأن يجري تأهيل تلك القوى للاندماج في مؤسسات المجتمع المدني بطريقة موضوعية وبمنطق عقلي منصف وصائب يستند لخبرات دولية وجهود مضاعفة لتحقيق مسيرة نوعية مدنية مختلفة جديدة..
فيما ينبغي من الآن وصاعدا أن يجري تسويق هذه الأهداف الشعبية الوطنية وتركيز العمل من أجلها بوضوح وأن تجري عملية تحشيد القوى الوطنية عامة حول هذا التوجه حتى إذا وصلنا إلى التصويت من جديد سيكون أمر الصوت لا خيار العملية السلمية الذي تأكد في الانتخابات المنصرمة بل خيار السلم الذي يُخرِج كل الأحزاب والقوى التي كان لها ضلعها في تخريب المشهد العراقي بالدموية التي عاشها المواطن الضحية طوال السنوات المنصرمة..
ويكون كل من يصرّ على الإبقاء على قوة مسلحة أو مافيا أو ميليشيا أو ما شابه خارج الخيار الشعبي الوطني لأن الناس ما عاد لديهم ما يقدمونه لأفواه الطغاة التي لا تمتلئ ولمطاحنهم الجهنمية التي لا تتوقف عن نهمها وجشعها وفضاعاتها…
لنبدأ الحملة من أجل خيار السلم والأمن لا العمليات الحربية التصفوية الانتقامية من شعبنا كما تفعل القوى الإرهابية؛ خيار العمل على أسس وطنية لا تقسيمية تخريبية كما تفعل القوى الطائفية وأحزابها.. ولأننا لا نريد لأحد أن يخرج أو يُعزل أو يُصفى يمكن لأية قوة من حركة الإسلام السياسي أن تعمل على شرط واحد هو خضوعها للقانون حيث نزع السلاح وحلِّ الميليشيات والعصابات المدججة عنفا…
إنَّ مطلب وقف الأعمال المسلحة وتفكيك قواعدها والتخلي عن أجنحة القتال أمر واجب يجب الضغط اليوم قبل اي وقت لاحق لتنفيذه إعلانا عن مصداقية العودة للرشد والحكمة والسلم والمصالحة.. وكل من يتحدث عن المصالحة الوطنية ولا يبدأ فورا بهذا المطلب يحاول تضليل الناس والآخرين في مساعيه ونواياه…
ولا ذريعة للإبقاء على عنصر مسلح واحد أمام وجود أشكال الحماية والمواثيق والمعاهدات الوطنية والدولية… ولا يمكننا الحديث عن مصداقية أو عن ثقة متبادلة أولية لافتتاح مسيرة المصالحة بل إنَّ كل ما جرى الإعلان عنه لا يخرج عن تسويق فاشل لمشروعات أحزاب الإسلام السياسي بمختلف ادعاءاتها التمثيلية للسنة أو للشيعة أو لغيرهما وهي ليست إلا تمثيليات فارغة لا جدوى من ورائها بل قيمتها تكمن فقط في تمرير الجريمة لا الحدّ منها…
وعليه فإن المصالحة ستأتي فقط عندما يجري تفكيك القوى المسلحة الرئيسة التي بسببها جرت إبادة حوالي المليون عراقي منذ العام 2003 وحتى الآن.. ولمن يتحدث عن اية ذريعة لا كلام لنا ولا خيار لنا إلا تسقيطه وأتباعه وجرائمهما بحق شعبنا..
هذا هو المنتظر: وليس من دعوة أخرى لأحزاب الإسلام السياسي فلا نريدها أن تتخلى عن روحها الديني وبرنامجها الطائفي وفلسفتها السياسية غير الوطنية ولكننا نريد فقط تخليها عن السلاح وتفكيك أصوله ومفرداته والدخول في خيار السلم والأمن الوطنيين…
الباقي يتحدث عنه العراقي في العمل الوطني وتحمّل مسؤولية مسيرة العملية السياسية السلمية وخياراتها في إعادة إعمار الذات العراقي الوطني الجريح المستلب…………