في تاريخ مجتمع وادي الرافدين كانت الجذور الأولى لطفولة العقل الإنساني وكانت البذور التي نمت مكوِّنة بدايات المنطق عقلي وأنشطته التي شكلّت تراث الإنسانية العقلي الأول. وفي تاريخه الوسيط حاضرة الدنيا وشاغلتها في كل أنشطة الثقافة والمدنية من الفنون ومفرداتها إلى الفلسفة والعلوم ومنجزاتها.. وحضارةَ َ تكونت تقاليد وثوابت للمجتمع العراقي طوال عشرة آلاف سنة من الشدائد والمحن وهي العشرة آلاف من أعوام زاهرة بالعطاء والانتصار للعقل ولأنشنة الحياة البشرية وتمدنها وتقدمها الحضاري..
ولأنَّ مجتمع وادي الرافدين الممثل الأصدق للمنطق العقلي ولحضارة البشرية وتراثها الثقافي المعرفي فهو الحاضن للتنوع والتعدد في تقاليده ومحدداته ومعتقداته ليمثل غنى قيمه وثرائها بكل ما يتعاطاه الإنسان فردا وجماعة من أنشطة في تفاصيل يومياته العادية والعميقة… ومذ أول ظهور للمعتقد حيث الأسطورة آلية للتفكير والتفسير والإجابة عن أسئلته الكونية والعادية وحيث التحول من السحر إلى الدين وجدنا التعاليم التي يؤمن بها العراقي السومري إنَّما هي تعاليم الإصلاح والتمدن والتسامح ووحدة النموذج حيث لا تمييز ولا تعنصر ولا قبول للغة العنف والدم والتشدد…
وهكذا كان المندائيون وكان الزرادشتيون وهكذا اليهود والمسيحيون في توكيد على ثوابت السلم والانعتاق وهكذا يأتي الإسلام دينا محمديا بمجتهديه وتنويرييه ليزدهر مجتمع بغداد والبصرة والموصل بمنتج العقل الإنساني في ظلال تعايش الديانات وتفاعل أبنائها.. فنكون أمام مشهد للتقدم في العلوم والفنون والآداب.. في الثقافات وتنوعاتها وأطياف الحياة بألوان قوس قزح والوجود.. ولم يجد العراقي فرقا بينه وبين جاره إلا بمقادر التسابق لأداء الخير وتقديم فروض الود والعلائق الإنسانية المشرقة محبة وسلاما…
ولم يكن العراق الحديث والمعاصر إلا استكمالا لمسيرة الوحدة والتفاعل الإيجابي البناء بين أبنائه حتى أن تشكيل منظمات المجتمع المدني من نقابات وروابط واتحادات طبقية وفئوية ومهنية وسياسية لم يميّز بين عراقي وآخر بل لم يلتفت لتثبيت التقسيمات في إطار الكينونة الوطنية العراقية لأنه وجد في مجموع العراقيين واحدا بشريا يتساوى في الحقوق والواجبات وفي جميع تفاصيل يومياتنا العادية..
والمجتمع العراقي مجتمع متفتح في ضوء تاريخه الحضاري، لم تبرز فيه يوما قضية أو إشكالية كمسألة التفرقة في أمر ديني أو طائفي أو اعتقادي بصورة عامة. فهو مجتمع يعتمد المنطق العقلي التنويري كما في رؤية أيّ من مفكريه وفلاسفته وأيّ من مجتهديه في مجالات الدين والمعتقد؛ فهؤلاء جميعا أكدوا مسيرة الاجتهاد والتفتح والتنوِّر كما أكدوا مفاهيم احترام الآخر والوقوف معه في مستوى واحد من الحق والواجب ومن الفعل وردِّهِ…
نجدنا إذن في مسيرة واضحة للبسطاء وعامة الناس وللمفكرين والقادة الاجتماعيين والسياسيين حافظت دوما على موضوعية التفاعل ومصداقية التعاضد والتكافل والتعاون والتعايش السلمي الإنساني/ لكنّ ذلك لم يخلُ في أيّ عصر أو مرحلة من منغصات بحسب طبيعة السلطة التي تتحكم في الحياة العامة…
وحيثما كانت تلك السلطة معوجة مستغِلة جاءت بسلبياتها ومن ذلك محاولة فرض سيادة العتمة مستفيدة من سلطة منطق عقلية التخلف وآلية خطاب ديني [خارج متطرف] وهو المنطق الذي يقوم على الفرض والقسر والإكراه… وطبعا منطق مصادرة العقل الإنساني وآلية اشتغاله بتعطيله واستلاب حريته في العمل لجهة منطق الأوامرية…
هنا بالتحديد تكون السلطة بيد مرجع فوقي تصدر عنه أوامر تُسقِط على آليتها القدسية لستتلب أي فعل عقلي وبهذه الصفات المرجع غير المجتهد فالمجتهد كان تنويريا يضيف ويُعمِل العقل ويدفع إليه بخلاف مسمى المرجع على أيامنا ومهامه التأويلية التي تُخضِع كل شيء لأوامرية تخدم سلطة رجال الدين أو سلطة الكهنوت المعتزل المعتكف إلا من صلة بالناس يسطو بوساطتها على أوضاعهم…
وفي حديثنا هنا، نتكلم على رجال دين الأحزاب السياسية الذين يدعون تمثيل الدين نفسه مكفـِّرين كل من عداهم وفي أقل تقدير فهم ينصِّبون أنفسهم ممثلين لله على الأرض وبقية المجتمع تابع لتأويلاتهم بل ويخرج رجال الدين الحقيقيين من السياق طالما كانوا خارج فلسفة سياساتهم الحزبية ومصالحهم المادية الرخيصة…
إنَّ وجود حزب ديني الادعاء يتستر ببرامج ظاهرها ديني وجوهرها سياسي بمصالح دنيوية بحتة يقوم على أساس أنه وقياداته ومرجعياته المتسترة بالدين وخطابه هم ممثلوا الحق والله على الأرض وغيرهم مجرد ضالّين يجب عليهم أن يتبعوا هذه القيادة المرجعية المصطبغة بالدين وجوهرها مصالح طبقية مادية بالتمام والكمال..
وعلى المجتمع العراقي بمكوناته الدينية كافة أن يلاحظ هذه الحقيقة التي تدعيها الأحزاب الدينية وقياداتها ومرجعياتها الدينية التي تحميها وتشكل غطائها وبرامجها المزوقة بالعبارات الدينية لفظا والسياسية جوهرا. وأن يفضح هذا الأمر ويفك الارتباط بتلك القيادات التي تضع نفسها ممثلة لله ولقدسيته وتضع المجتمع بكافته وعقوله وعلمائه في مواجهة مع تأويلاتهم أو خضوع لها.. حيث المواجهة تعني حكم التكفير ومن ثمَّ التصفية والخضوع لا يعني إلا الاتباع بلا مناقشة وبلا استخدام لمنطق العقل…
ولا مندوحة من سؤالنا: هل كان المجتمع العراقي بكل أطيافه الدينية عاقا بقيمه ومثله وثوابته؟ وهل كان المجتمع العراقي بلا منطق عقلي وخطاب تنويري؟ وهل كان المجتمع العراقي يميز بين أطيافه؟ وهل سلَّم المجتمع العراقي يوما لسلطة تبتزه أو تظلمه وتستلبه أيا كانت ادعاءاتها؟
هل كان المجتمع العراقي من العوج ما تطلب وجود أدعياء التدين وتمثيل القدسية الإلهية لتأوّل لهم آيات معتقداتهم وتخضعها لفلسفة حزبية ضيقة؟ وهل بحق يمثل هؤلاء خطابا معصوما مقدسا لكي يكونوا الوحيدين الذين يمثلون دينا سماويا أو آخر وغيرهم [كل المجتمع وعلمائه] على ضلال؟
وهل كان المجتمع العراقي في العراق الحديث مجتمع ضلال وخطيئة طوال قرون وعقود وجوده؟ وهل كان وهو يسيِّر تفاصيل حيوات أبنائه بمنطق العقل والتنوير والعلمنة وقوانينها وقواعد العمل الحياتي البشرية الصائبة بلا دين وفي ضلال من الثوابت الأخلاقية ليأتِ زعران سياسة وصبية بلا خبرة عقلية ولا خلفية فكرية أو دينية قويمة ويعدِّلوا عليه؟
من يقول إنَّ منطق برامج أحزاب التديّن السياسية هي القراءة الحقة للدين ولمرجعياته وثوابته؟ ومن يقول إنَّهم أصحاب القراءة الوحيدة الصائبة للدين؟ ومن يقول إنَّ الحياة قضية دينية لا تخضع لغير النص الديني؟
ومن باب الحديث عن الواقع العراقي نشير لرؤية أحزاب الإسلام السياسي التي تحكم اليوم الشارع بقبضة التكفير وإرهاب الطائفية الدينية: ونقول إنَّ أحاديث السنّة النبوية الشريفة تقول اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبدا… وتقول ساعة لقلبك…وتتحدث عن كل ما هو دنيوي بلغة الحياة اليومية وليس بفرض قسري لخطاب ديني شعائري طقوسي على ما هو دنيوي.. أي أنها تفصل بين الحياة الإنسانية ودنيوية تفاصيلها وقوانين العيش فيها وممارسات الحياة البشرية وبين لغة الطقس الديني وخطابه…
فيما لغة أحزاب التأسلم السياسي تتحدث عن خطاب واحد ولا مجال لخطاب غيره لأن كل ما عدا الأمر الديني هو كفر ويجب قمعه بكل الوسائل وطبعا أولها وآخرها عندهم القمع بالعنف الدموي… لا وجود لحياة إنسانية ودنيا وحياة بشرية فكل شيء مستلب مقموع مصادر وهم طبعا يمارسون كل الموبقات والشرور والخطايا خلف جدران القصور ودخان البخور………
ألم يحن الوقت بعد أيها الغيارى من أبناء المجتمع العراقي لكي تتوقفوا عن تكفير تاريخكم النقي الزكي؟ ألم يحن الوقت لكي توقفوا تكفير المجتمع العراقي بأطيافه وهو يمضي ممارسا لحياته مستقلة ومرافقة لمعتقداته ودياناته وقيمه وثوابته من دون إخضاع أمر لأمر بطريقة انتقامية استغلالية قمعية؟؟ ألم يحن الوقت للقول كفى لأدعياء العمامة المقدسة والجلباب المقدس والمظهر المقدس ادعاء فيما الجوهر بات معروفا من حيث الناس مقموعين في حيواتهم لأداء فروض عبادة بشر مثلهم!!!
ألا أعلنوا الانعتاق من التبعية لكذب وزور على الديانات والمذاهب الصحيحة.. وانتفضوا على تبعية وعلى تكبيل، واكسروا قيود العبودية وأغلالها.. أنتم الذين ولدتكم أمهاتكم أحرارا لماذا يصيِّركم نفر من أحزاب التأسلم عبيدا لهم ولمطامعهم؟
لا يغدرنكم لا التأويل ولَيَّ أعناق الحقائق ولا القسر والإكراه فإنْ أنتم حررتكم دواخلكم من خزعبلات مزيفة في منطق الطقوس التي يسخرونها لاستعبادكم واذلالكم وإن عدتم إلى حيث مسيرة آلآف سنوات ثوابت مجتمع التحضر والتمدن والأخلاق الكريمة الحميدة والاعتقاد الصحيح البعيد عن التأويل والتطرف والتشدد والانحراف، كسبتم حيواتكم وحيوات أبنائكم وسيرة مجتمع عراق الحياة والحرية وصحيح الثوابت والاعتقاد..
أما الدين وأما المذهب وأما الطائفة فلن يمثله مرضى التأويل وأبناء زمن الانحطاط ومرجعيات تسييس الدين وقادة الضلال فأنتم أهل الاعتدال وإنما الدين الوسط وأنتم أصحاب الاجتهاد والالتزام وليس صحيحا أن الغالبية العظى على ضلال وتلك الأنفار القادمة إلينا من مجاهل زمن الظلمة هم أصحاب الحق وليس صحيحا أن أغلبية المؤمنين وأغلبية علمائهم المعتدلين المتنورين هم على ضلال وأن أفخاخ الشر والظلمة على حق؟؟!!!!؟
الصحيح أن مجتمعنا مؤمن لا بأن يرتدي الكفن ليل نهار!! مما لم يحصل هذا حتى في حياة الأنبياء جميعا والأولياء الصالحين!!؟ فلماذا نرتدي جلابيب زمن غير زمننا؟ وهل الدين جلباب الظلاميين؟ لماذا نكبل أنفسنا بشكليات التأويليين الأدعياء وهل الدين مجرد طقوس وعبادات والحديث الشريف يقول عامل يعمل خير من ألف عابد والنص المقدس يتضمن إشادة بالعمل والحياة البشرية: وقل اعملوا فسيرى الله ورسوله والمؤمنون… ؟ لماذا يكفنوننا ويستلبون حياة منع النص المقدس وخزها أو جرحها أو إيلامها؟
لا تقبلوا أن تكونوا أعضاء أو داعمين لأحزاب تطعمكم يوما ولكنها تشتري حيواتكم كاملة وقيمكم وثوابتكم وتشتري الشرف والكرامة وتتاجر بها لأن من يبيع حياته وعقله لا يمكنه أن يحمي عفته وكرامته أمام سطوة المشتري ونوازعه وأهوائه……..
لا معنى لوجود أحزاب الإسلام السياسي والتدين إلا تأويل الأمور لادعاء تمثيل المقدس على الأرض وتكفير الآخرين ومصادرتهم وإخضاعهم لرؤاهم المادية الرخيصة بغطاء ديني غير صائب قطعا.. إذ لا وجود لمعتقد صحيح صائب يتعارض مع حياة الإنسان ويأمر بتعذيبها وإيلامها ويغجر فيها القنابل البشرية والمفخخات أو يسطو عليها بميليشيات الموت المسلحة ولا صحة لجيش لله أو لأوليائه يكفِّن البشرية في حياتها ويصادر وجودها ولا صحة لرأي يأمر باتباع معتوهين أو مرضى أو زعران وأشقياء..
الصحيح الوحيد إجماع الناس والمجتمع واستخدام العقل الذي أمرنا النص الديني الصحيح بأن نُعمِله لتعمير الأرض وصنع جنانها والعيش فيها كرماء أحرار………
فمن أراد أن يكون عبدا للشر طمعا في [علف] أحزاب التأسلم فليس إلا من الضعف والهزال حدّ المرض وليس بيننا نحن أبناء المجتمع العراقي إلا الأحرار الأباة وإنَّ غدنا لهو الأفضل الأجمل حيث لا مكان اليوم لأدعياء القدسية ومرجعيات الزيف والمجتمع العراقي هو من يحيا ويبني ويعمّر وليس بعيدا انعتقاه من إسار تلك الأنفار وشرورها وسطوتها…
أمل الأبناء وتطلعهم أن يضع الآباء صوتهم حيث العلمنة والمنطق العقلي والتنوير وحيث برامج إعمار الوطن والناس والعمل والعمل ليس غير هو أول طريق العبادة الصادقة وليست طقوس يتستر خلفها المستغلون المجرمون.. فهل نحن فاعلون؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟