انتقل العراق في العام 2003 إلى أجواء جديدة بتدخل مباشر لقوات التحالف الدولي تحديدا منها الأمريكية البريطانية. وإذا كان ذاك التدخل قد تسبب في إزاحة صدام حسين ومساعديه؛ فقد أخرج معهما أيضا الجيش العراقي وقوات [ضبط] الأمن فضلا عن ظاهرة تحلل مؤسسات الدولة وتعطلها شبه التام لأسباب مختلفة موضوعية وغيرها!
وطوال الأعوام الأربعة المنصرمة جرت متغيرات عميقة وخطيرة في الواقع العراقي. أبرزها تمثل في سطوة قوى بعينها على المشهد العراقي العام، ما أتاح لها إعادة توجيه دفة الأمور بطرائق عاشها الشعب العراقي طوال عقوده الأخيرة وتعوّد على آلياتها…
لقد سطت تلك القوى [تحديدا قيادات الأحزاب الدينية] على الوضع من منافذ الواقع الجديد الآتية:
- تعاملها مع قوى الاحتلال من منفذ ما تمت تسميته المعارضة العراقية بالتحديد تلك التي وُلِدت قبيل إسقاط النظام الدكتاتوري.. وهذا ما هيَّأها لتصدّر الميدان وتسليمها مفاتيح الحياة العراقية…
- ارتباطها عقائديا وسياسيا [وأحيانا تنظيميا] مع نظام الإسلام السياسي الحاكم في إيران… ومن الطبيعي رصد منفذ العلائق الداعمة من مثل أمور كالتدريب العسكري ومتابعة التنظيم وإدارته وترتيب أموره المالية وغيرها…
- تقديم الدعم اللوجيستي وتوفير الفتاوى والأسس الفكرية السياسية وتقديم الأجندات التي تعدّ الأرضية المناسبة لتعزيز المكاسب المتحصلة ميدانيا…
- استغلال مبدأ الخلط بين حزب [الإسلام] السياسي وبرامجه واعتقادات الناس الدينية – المذهبية منها تحديدا، لخلط الأوراق وتعميق التأثير في الجمهور… ويمكن القول: إن الحالة وصلت إلى حد التماهي بين القيادة والجمهور حيث تم التحدث بطريقة عفا عليها الزمن ممثلة بعبارة “إذا قال صدام قال العراق” والإعادة اليوم تتم بصيغة [هذا أمر السيد] وصيغة شيعة العراق يقولون وهم يقصدون حزبا طائفيا يقول بل زعيما فردا هو الذي يقول ويضللون باستبدالهم الزعيم وتركهم الناس ورؤاهم الحقيقية!
- استغلال حالة العدمية والفراغ الجدي في القيم الروحية الفكرية في ضوء التضليل من جهة وإعدادات النظام المهزوم [على سبيل المثال حملته (الإيمانية) المزعومة قبيل سقوطه] بالدخول بسلطة المقدس وأثره وتحديدا استغلال “المرجعية الدينية” فضلا عن ظهور مرجعيات سياسية معممة أسقطت القدسية على أوامرها ونواهيها على أساس كونها مرجعية دينية [مقدسة] أيضا…
- اعتماد سلطة العنف والمصادرة القسرية عبر ميليشيات لا تمتلك الرؤية المتفتحة والمدربة حصرا على أعمال البطش والتخريب كونها ميليشيات كانت تأسست لهدم قواعد السلطة المهزومة…
- ظاهرة انفلات الأمور بلا حدود وعدم وجود مؤسسات دولة، فسحَ المجال واسعا للعصابات والمافيات وآليات عملها في الخطف والاغتصاب وجرائم الاغتيال والتصفية بأشكالها، وهذه تداخلت مع السلطة الجديدة الدولتية والحزبية…
- سعة حجم الشبيبة وحالة التجهيل التي تعرضت لها في إطار تجيل المجتمع ما ترك للمراهقة السياسية أن تظهر بوضوح حتى على مستوى القيادات كما في التيار الصدري وتيارات العنف المختلفة وحتى التصدي للإفتاء الفقهي من تلاميذ لم يحصلوا على شهادة [حتى] مدرسة دينية…
- التحالف مع قوى وطنية وعلمانية في ظل الأوضاع التي استدعت وجود حالة وحدة وطنية ذات قواعد واسعة وعريضة لإعادة الإعمار وتشكيل مؤسسات الدولة. إنَّ هذه الحالة مررت تلك القوى المرضية التي كان ينبغي لها أن تبقى في حدود حجم هامشي بينما نجابه وجودها الرئيس في المشهد.. حيث صعدت على أكتاف القوى الشعبية الحقة وفي أجواء الفراغ الذي خلقته ظروف انحسار مجالات حركة القوى الديموقراطية والعلمانية في ظل النظام الفاشي القمعي…
لقد وعت الجماهير الشعبية الواسعة مشكلتها بكل ما ترتب عليها من ضريبة انعدام الأمن ونتائج الإرهاب الدموي وفقر الخدمات وترديها والبطالة والفساد المتفشيين باستفحال. وتعرفت إلى كون برامج القوى المتحكمة في الوضع وسياسة الزعامات الطائفية هي التي أوصلتها لما آلت إليه من مهالك الهاوية التي هي فيها اليوم…
فتظاهرت في مواجهة التحالفات الطائفية وهتفت بسقوطها ورفضت استقبال زعامات الإسلام السياسي، وعبرت عن احتجاجاتها بأشكال متنوعة منها أشكال نوعية متقدمة من جهة التنظيم والتعبئة، ما يعني أن الحركة الجماهيرية فاعلة وتمتلك الوعي الكافي لرؤية الوضع إلا أن ذلك ما زال من جهة القيادات الحزبية أدنى من المؤمل فيه!
وبوضوح فالمشكل العراقي اليوم هو مشكل مؤسساتي وافتقاد لدولة مؤسساتية حقيقية تستجيب لمتطلبات العصر في التعاطي مع مجريات الوضع العام سواء على المستوى العالمي الإقليمي المعقد في آلياته أم على المستوى الإنساني البسيط في تفاصيله اليومية العادية…
وما يهمنا الآن في عراق اليوم الإجابة عن تساؤلات عريضة وأخرى تفصيلية من مثل: ما العمل؟ وبمَ نبدأ؟ وما آلياتنا لاستعادة المبادرة ووضعها بيد أوسع جماهير الشعب؟ وكيف يتحقق ذلك؟ إنَّ الإجابة عن السؤال الأول لا تتاح إلا في ظل تفاصيل مركبة معقدة كثيرة تتمثل في رؤية واضحة لستراتيج من جهة وتكتيكات مرحلية منتظرة من جهة أخرى…
أما البدء فينبغي أن يكون من حيث هدفنا الكامن في إعادة مؤسسات الدولة وهيبتها ووضع احتكار السلطة في يد المؤسسة الوطنية للمجتمع العراقي ممثلة في هيكل مؤسسات دولة متكاملة تشريعيا وقضائيا وتنفيذيا. وهذه الأمور لم تأتِ ناضجة ولا حتى مقبولة عبر الانتخابات السابقة لأن هذه جرت في ظروف غير مؤاتية وجرى تحريفها من جهة بسطوة البلطجة والمصادرة الطائفية وعبر بوابة قدسية الدين وسلطته بفرض الزعامة السياسية مالكة لتلك القدسية الدينية!
إذن، من أين ستأتي الخطوة الأولى \ البداية؟ إنَّ الأمر لا يخلو من تعقيد وصعوبة؛ ولكنه ممكن عبر جبهة شعبية عريضة تضم القوى المتنورة العلمانية الديموقراطية. شريطة عدم التردد من الاحتفاظ باستقلالية تامة تمنع تسلل القوى الطائفية تحت أيّ مسمى إلى هذه الجبهة. وينبغي هنا أن تعمل هذه الجبهة العريضة من منطلق واقع الحال وتداعياته من جهة وأن تمتلك برنامجا وطنيا ديموقراطيا مختزلا واضحا ومباشرا…
ومثل هذا البرنامج ينبغي له ألا يتعدى حدود وصول القوى الديموقراطية بأغلبية مناسبة لتشكيل البرلمان والحكومة.. ومن ثمَّ إعادة ترتيبات تشكيل مؤسسات دولة نزيهة تمثل المجتمع بحيادية تامة وبحرفية تامة لا ترتبط بالروح الحزبي أو العقائدي الديني أو المذهبي أو أدلجة بعينها سوى رؤية كونها مؤسسات دولة تلبي مطالب مجموع المجتمع وفئات الشعب كافة وتنتمي للغة العصر وطابعه الحداثي…
وبناء على هكذا رؤية ينبغي أن تعمل الأحزاب الوطنية الديموقراطية كافة على الدعوة لمؤتمر تحضيري طارئ يرتقي لمستوى مسؤولية إعداد برنامج العمل المؤمل. وهذه الدعوة ملزمة لتلك القوى لأننا لسنا في حال العمل في ظروف اعتيادية أو طبيعية ما يتطلب حالة التعامل بلغة الطوارئ والعجالة الضرورية بل الحتمية…
ولتبدأ الآن مجالس التنسيق بين القوى السياسية الديموقراطية في دول المهجر وفي محافظات الوطن تحديدا باللقاء ودفع رؤاها للقيادات الحزبية وبصيغة أوضح للضغط باتجاه النهوض بمهمة عقد لقاء “العراق الديموقراطي“.
والمهمة المفترضة للقاء عاجل طارئ لقوى “العراق الديموقراطي” يتضمن مهمة رسم الآليات لانتخابات مبكرة مشروطة بالآتي:
- حكومة وحدة وطنية مؤقتة توظف التكنوقراط في أدائها ومهمتها الأساس التحضير للانتخابات المبكرة…
- جهة إشراف مستقلة ومقرّة من أطراف العملية السياسية كافة مع وجود إشراف دولي مستقل ومحايد وله سلطة القرار بشأن مجريات العمل..
- منع بقايا الميلشيات من الوصول إلى مراكز الانتخابات، بمعنى البدء بحلّ تلك الميليشيات المعنية بأمر الحل وتحقيق ذلك قبيل البدء بالانتخابات ذاتها..
- قانون انتخابي يحظر جهتين من المشاركة: أحزاب تقوم على الفكر الديني المذهبي ومنع تلك التقاليد التي تعود لأرضية الدولة الدينية ومظاهر ولوج رجال الدين للحياة العامة وتوظيف سلطاتهم ومرجعياتهم الدينية للفصل في الشأن المدني العام ومنع رجال السياسة والإدارة المدنية العامة من الظهور بالعباءة التقليدية الأثرية أو الدينية وووقف آليات منهج ولاية الفقيه المستتر بالتقية وبغيرها بخاصة بمراجعة الشخصيات السيادية لمراجع دينية في شؤون مدنية للدولة ومثل ذلك منع قوى تعود لسلطة النظام الفاشي المهزوم من التسلل بهذه الطريقة أو تلك وترك فرصة لقرار المعالجة مجددا لمؤتمرات وطنية مخصوصة [المصالحة] وللجهات التشريعية القابلة بعد مرور مدة زمنية متوافق عليها وطنيا…
- وضع محدِّدات لمنع التأثير السلبي لأية مرجعيات تُسْقِط على نفسها القدسية وتمارس دورا خارج ميدانها أو بطريقة غير قانونية أو غير مشروعة دستوريا وحصر سلطة المرجعيات الدينية في مجالاتها الفقهية المخصوصة وبحدود قوانين الدولة المدنية وشروطها…
- تعديل تشكيلات البرلمان الوطني بما يستجيب لبرلمان (500مقعد) من هيأتين هما المجلس الوطني (300مقعد) ومجلس الاتحاد(200مقعد)؛ الأول يقوم على التمثيل النسبي المباشر لمجموع سكان العراق والآخر يقوم على تركيبة تحفظ لكل مجموعة سكانية بنسبتها المساوية للآخر لتمثيلها على أساس أن تركيبة مجلس الاتحاد هي تركيبة تمثل الأطياف العراقية كافة من عرب 20% وكورد 20% وتركمان20% وكلدو آشور سريان 20% وصابئة مندائيين وأيزيديين وأرمن ويهود وغيرهم 20%. [هذه الحالة من التساوي كون مجلس الاتحاد ينهض بمهام واختصاصات تتعلق بشؤون القوميات والمجموعات الدينية ومصالحها من باب هذه الخصوصية ما يتطلب أن يعبر كل طرف أو طيف عن مطالبه بنفسه مباشرة]..
إنَّ مشكلتنا في مؤسسات دولة طائفية دينية المضمون مذهبية الهوى تعود فلسفة العمل فيها إلى خلطة تجمع بين سلطة الماضوي المستجلِب لأزمنة غابرة من دواوين دولة القرون الوسطى وسلطة الخارجين عليها من عناصر الفساد وعصابات ومافيات وميليشيات بعضها محلي طارئ وآخر منظم وله امتدادات دولية إقليمية أو ما فوق الجنسية OVERSEAS وليس بديل هذه المشكلة إصلاحات جزئية ترقيعية لا تأتي بعلاج أو حل…
وإذا كانت الجماهير طالبت رفضت التشكيلة القائمة عبر مظاهرات صريحة الشعار فإن على البديل الديموقراطي أن يتصدى للمهمة لا أن يترك الفرصة مرة أخرى للعبة جديدة يجري التحضير لها عبر تغيير اسم هذا المجلس [الأعلى] أو شعار ذاك التيار [الصدري] أو قيادة ذاك الحزب [الدعوة] أو آلية تلك الميليشيا [المهدية\ البدرية]…
إنَّ تيار الإسلام السياسي بتعدد تشكيلاته يضم مجمعا متناقضا من المصالح الذاتوية ولكنه عندما يتعرض لموقف شعبي كالذي يجري سيوحد قواه وجهوده للمحافظة على أثرته وسطوته على السلطة لا السياسية بل والاجتماعية التي تصادر المجتمع ذاته..
ومن هنا تلك المجريات التغييرية التضليلية التي تمارسها تلك الأحزاب والقوى ومن هنا مواصلتها الحملة المشتركة الكامنة في جوهر جريمة هذا التيار وقواه المتطرفة ممثلة في إرهاب الإسلام السياسي التكفيري والطائفي وما جوهر تلك الحملة إلا متابعة اغتيال كل إنسان متعلم وأول هؤلاء العلماء والساتذة والأطباء والمهندسين والأدباء والفنانين والصحفيين ومصادرة الطلبة أنفسهم ومنعهم من الوصول إلى الجامعات والمدارس بل حظر حركة النساء وحتى البنات الصغار والحجر عليهم في مقابر بيوت آبائهم وأزواجهم.. ومنعا للتعددية يجري مطاردة كل ما هو غير إسلامي على طريقة أحزاب الإسلام السياسي بذبح المسيحي أو ترحيله وذبح المندائي والأيزيدي واليهودي وطبعا مطاردة الكلداني الآشوري والأرمني والصابئي وهكذا بلا عجب!!!؟
فهل سننتظر يا قوى التنوير مزيدا من التراجع والانحدار والرجوع إلى سلطة مرجعيات القرون الوسطى؟ وهل سنواصل الخنوع لدويلات الطوائف؟ وهل كان فجر الحضارة في وادينا وبلاد سومر ليكون جيلنا مدفنا للتمدن والتحضر؟ هل نكتفي بالهجرة والرفض والشجب والتذمر ونترك الفعل والمبادأة لعصابات الموت تسطو على كل شيء في وطن السلام والديموقراطية؟
كلمتي هذه ليست لاحتجاج ولكنني أزعم أن فيها مقترحا وصوتا عساه يصيب فنتبناه سويا أو يتم تعديله أو تغييره ولكن لابد من الفعل والعمل. وهو في الوقت الذي يتجه إلى القوى الديموقراطية لا يستثني منه كل من يأتي ليشارك في تبني هذه المسيرة والتخلي عن برامج برهنت كونها القاتل الأخطر لوطن الحياة وربوع السلم والتعددية والتنوع والديموقراطية………
ولعلي في انتظار تعليق يتضامن ولو باسطر أو يقترح بديلا لأننا من هنا نبدأ دحرجة كرة الثلج لتكون كرتنا العراقية الملتهبة المفعمة حركة وحيوية ونبضا بالأمل وكل البركة في الحركة وأول الفعل تململ وفي البدء كانت الكلمة.. وإني لمتطلع إلى رؤى الخير…