تتقدم بنا الأيام وتمضي حيث ظروف متداخلة معقدة من الآلام والمصاعب والجراح؛ حتى أننا صرنا نبيت يومنا على أخبار حزينة فنصحو على آخر بتفجيرات تكاد تغطي الوطن ومدنه وقصباته! فماذا نحن فاعلون؟
يبدو لي أن لغة سائدة اليوم تكمن في احترابات وصراعات وتقاطعات سياسية تحتدم منفعلة برائحة البارود والدم.. وليس ردنا الشعبي ورد مثقفينا إلا بمزيد من تمسك بالعملية السياسية ومزيد من دعم تشكيل مؤسسات دولتنا الجديدة.. دولة التوجه الوطني الديموقراطي واحترام مكونات شعبنا وحقوقها بعد زمن الاستلاب والمصادرة الذي انعتق منه أبناء شعب الحضارات العريقة..
ولأن الالتفات إلى الماضي وإلى تاريخنا المضيء ليس بكافِ ِ لكي يحمينا ويسلحنا بوسائل الدفاع عن حاضرنا ومستقبل أبنائنا، يلزم أن نتجه إلى آليات تعميق ثقافة غابت عن مشاهد الحياة العراقية لعقود من الزمن وهي تكاد تمَّحي اليوم في ظل دخان أسود كالح من غبار إزالة النظام القديم ومخلفات بقاياه وأفعالها المرضية…
إنَّ ثقافة السلم والأمن الاجتماعي، ثقافة التداعي لتوحيد الصفوف وتكاتف جهود البناء، ثقافة التعاضد واللقاء في أفراح أبناء الرافدين واحتفالاتهم بيومهم وطالع غدهم المشرق؛ هي الثقافة التي تمضي اليوم قدُما بغاية تحقيق الاستقرار الحقيقي لزمن السلم والحرية..
وثقافة السلم هذه بحاجة لوسائل تدعمها بالضد من قيم العنف والاصطدامات وبالضد من لغة السلاح وما يترتب عليها من تعبيرات مأساوية كارثية.. وهنا بالتحديد تُتاح لأبناء الرافدين فرص جديدة هم الذين يخلقونها وهم الذين يرعونها رغم الألم وعمق الجرح.. إنَّ العراقي منذ سومر القديمة ومرورا ببغداد العلوم والمعارف عاصمة المدنية يوما وحتى يومنا، هو المنتصر لهويته ووجوده المتمدن المتحضر على الرغم من حجم الانكسارات التي تعرض لها لظروف معقدة تاريخيا..
ومن هنا فالعراقي فردا والعراقي جماعة وبكل أطياف ومكونات المجتمع العراقي يمتلك باستمرار القدرات النفسية والفلسفية الاجتماعية لتوليد وسائل إبداع جدية مسؤولة عن إعلاء شأن ثقافته الغنية التنوع، الغنية الرؤى والقيم الثرة في توجهاتها لعالم مؤنسن يحترم قيم حقوق الإنسان وأخلاقياته وتقديس مساحات نتاجه العقلي ومنطقه المتقدم..
اليوم تتنادى جهات الثقافة لعقد مؤتمرات الثقافة التي يدعمها العراقي ويتطلع إلى نجاحاتها.. واليوم تظهر في الأفق آليات احتفالية لتعزيز الوعي بهوية وطنية عراقية إنسانية كما في حملة أنا عراقي وقبلها وبعدها حملات وطنية عديدة معروفة.. أقترح في الإطار أن تنشط وزارة الثقافة إلى جانب مؤسسات أخرى احتفاليات بيوم عراق السلم والديموقراطية كل أول جمعة من كل شهر..
يتضمن اليوم أنشطة تؤكد لغة السلم بالضد من لغة العنف وأنشطة تعمِّد لغة التسامح والتآخي بالضد من لغة الانتقام والحقد ولغة التفاعل الإيجابي البنَّاء بين مجموعات شعبنا وفئاته الدينية والقومية ومختلف شرائح المجتمع العراقي بالضد من الانقسامات ودواعيها..
ويمكن لهذا اليوم من كل شهر أن يكون يوما للهدنة ويوما حراما لا يجوز فيه الرد على خطأ الأخ أو زلّته أو هفوته إلا بمقدار ما يؤدي إلى تعميق التفاهم والوئام والتلاحم والتعاضد وإلى مزيد من روح الهدوء والاستقرار ومن ثمَّ روح السلم والأمن والأمان..
على أن تتصاعد الأنشطة وتتراكم بنائيا وإيجابيا حتى ننتهي منها إلى احتفالية السلم والحرية والديموقراطية في اليوم الوطني للسلم ويكون اليوم موعدا للقاء جميع القوى بحرية وبإخاء ومساواة في خيرات بلاد النهرين.. لنعلن اليوم موعدنا في العام التالي في يوم السلم ولنتفق على السير في اتجاهه بمواعيد شهرية دورية ثابتة ولا ننسى دعوات الأئمة في الجوامع والحسينيات وفي الكنائس والمعابد وفي صفوف المدارس والجامعات وفصولهما وفي المعامل والحقول وفي بيوتنا وتجمعاتنا على اختلافها وليكن أول جمعة من كل شهر يوما للسلم والمحبة والتسامح…
هل ستقرأ وزارة الثقافة هذا؟ لي ثقة بأهلنا جميعا في مختلف أرجاء عراقنا ومختلف مهاجرنا ومنافينا القصية وبمختلف قوانا السياسية والاجتماعية والثقافية ولي ثقة وطيدة بأن وزارة الثقافة التي تتحمل جزءا مهما من مسؤوليات مسيرة العقل العراقي ستنهض بالمهمة على الرغم من جملة الصعاب والظروف المتشابكة المعقدة..
ولا أستثني من دعوتي وثقتي هذه عراقيا؛ فالجميع مدعوون لإعلاء شأن يوم السلم شهريا حتى نلتقي باحتفالية السلم الكبيرة وموعدنا يوما وطنيا بالخصوص.. ولا أترك في دعوتي هذه مساحة لتسجيل عراقي في موضع خارج هويته العراقية وخارج تطلعه للسلم والاستقرار والطمأنينة له ولأهله فجميعنا مدعو للتروي ولمنطق العقل ومنطق السلم والانعتاق من زمن سنسير جميعا من المؤمنين بالسلم طريقا لتطهير بلادنا منه لنحيا بروح الوئام والتسامح والسلام…