لكلِّ ظاهرة ومفهوم فلسفي لخطاب إنساني أبعاد متضمَّنة معلنة وأخرى مختفية أو مخبَّأة لسبب أو ذريعة ما. وجدلنا هذه المرة ينصب فيما يمكن للحوار الجاري بين أطرافه أن يمتلكه من مساحة معلنة وأخرى تجري وراء [الأسطر]. والحق يقال إنَّ الحوار يظل في جميع أحواله ممتلِكا معطيات الإفادة والاستفادة. على أن يعي المتقدم إليه وبه ما يُحتمل أن يُحاك ليس للمتحاور من خبايا ولكن ما يمكن للمحاوِر أن يعكسه من دون قصد من نتائج غير مرتجاة من وراء حواره..
وليس المقصود هنا إشاعة روح التشكك المرضي وانعدام الثقة بين مكونات المجتمع الإنساني. ولكنَّ المرتجى من هذه المداخلة يكمن في توضيح ما للعبارة اللغوية من معنى مباشر ظاهر وآخر متضمَّن مبطن.. وما لخطاب الحوار السلمي من مظهر أكيد في استهداف المفيد وإزاحة مواضع الألم ومعرقلات مسيرة الحياة المشتركة…
إنَّ خيار الحوار لا يمكن أن ينبني بغير اعتماد الثقة والمصارحة في أجوائه وفي إجراءاته.. وهذه لا تأتي بقفزة من ظاهرة القطيعة والاحتراب إلى التعاون بمنطق الحوار والتفاعل الإيجابي البنَّاء. ولكنها تأتي بتعزيز مفردات الحوار الكاشِفة باضوائها ظلمة المناطق المعتمة بين طرفي العملية..
وبقدر إزاحة مواضع الجهل ومحوها وبقدر تعميق مواضع التعارف والتعرّف بين الطرفين سيكون تقدم الثقة وأفق التفاعل أكثر حظا في النجاح ومعالجة آثار التخريب الناجمة عن مسافة القطيعة والبعد بينهما..
وبالمناسبة ينبغي هنا التذكير بكون الحوار وسيلة للتعريف والإضاءة ما يقتضي الصبر من أجل تحقق النتائج المرتجاة من ورائه وكل عملية بناء بحاجة لوقت إضافي ومن ثمَّ لقدرات تحمّل وأناة حتى يمكن الوصول إلى الأهداف المؤملة..
وتخبرنا الحكمة البشرية والمنطق العقلي بأنَّ مسيرة البناء بلغة الحوار وخطابه تعترضها عوامل هدم خطيرة سواء منها تشبث عناصر الاختلاف وإمكانات التفسير والتأويل الخاطئ بمواضعها بطريقة تظل تطرق من على نوافذ ميدان الحوار مسببة عراقيل جدية لا يُستهان بها..
ولكن ما نعلمه عن هذه العوامل الخارجية ليس بخطورة ما لا نعلمه عن تلك العوامل الذاتية الكامنة في لغة الخطاب بين طرفين.. إذ تعترض المتحاورين منغصات شتى تتعلق بطبيعة المصطلح الذي يستخدمه كل طرف وما تولَّد عبر التراكم السلبي الهدمي بين الطرفين من مواقف مسبقة تجاه استخدام مصطلح بعينه وأسلوبا أدائيا للغة الحوار.. وهذا الأمر يسير باستمرار بخلاف اتجاه التفاعل واللقاء..
وفضلا عن ذلك تظل حالة التحفظ والتردد والتوجس وهي عوامل منها نفسية ومنها ما يعود لمعاينة مضطرة للعودة إلى جذور العلاقات السابقة بين الأطراف باحثة عن مفاتيح قراءة المفردة والعبارة ومن ثمَّ طبيعة الرسالة الموجهة لتجيب هي بالآلية نفسها وتُقرَأ بآلية شبيهة..
من هنا وجب في منطلق الحوارات أن يجري التأسيس للغة مختلفة تعتمد القواسم المشتركة باستمرار وتمضي بها متوسعة بالإيجابي على حساب ما يمكن تأويله سلبيا.. ويفترض تقدم الحوار وتفعيله العمل الحثيث من أجل خلق الأجواء المحيطة الملائمة به. على ألا ننتظر ذلك بناء على قدرية متوهَّمة أو فعل يباشره الآخر.. بل يوجب الحوار على كل طرف أن يتسم برغبة المبادرة وتوجهها وروح المبادءة وتبادل خطوات التقدم بالمضاعفة.. وبمقدار تحقق هذا سنمنح فرص تعميد الثقة من جهة ومنطق المكاشفة والمصارحة المؤمل…
الكارثة الواقعة في الاتجاه المعاكس تكمن في تكشّف أمور من نمط تحيق بخطاب الحوار حيثما فسحنا من فرص للفعل السلبي الذي يثبط أو يحبط كما في التعاطي مع أحداث تخترق زمن الحوار وتجعله ملفوفا بدخان الأزمات ويبدو لي أننا عندما نفكر بحقيقة وجود الحوار سيكون سلاحا تربويا تثقيفيا للاحق من الأحداث ووقفا لزمن الاحتراب فإننا سنسير ونحن نهيِّئ أرضية صحية للمستقبل…
وإذا كان من حق بعضهم أن يشير إلى أفعال التخريب والعراقيل المثارة من حول أجواء العملية ومن حقهم أيضا التحذير مما يختفي وراء الأكمة إذ يناور طرف [ما] بغطاء الحوار ويخفي أحابيله من أجل [مطامع أو مكاسب] وقطع أشواط أخرى من الاستغلال؛ فإنَّه من حق المتطلعين لعالم مختلف عالم السلم والإخاء أن يشير لمعرفته بمجريات واقع الحال ولكنه يمضي في لقائه وفي خطابه التحاوري بوعي تام بحقيقة ما يجري على الأرض.
وهنا يمكننا أن نؤكد أن الداعم لمسيرة الحوار لا يمكن أن تكون رغبة قوى السلم والبناء حسب بل ووعيهم بما يجري حولهم من معارك خطيرة والكيفيات التي يجري فيها محاولة استغلال رغبة السلم وتوجه الحوار بغاية ذرّ الرماد في الأعين ومضي بعض قوى الاختلاف في خططها السلبية الهادمة.. على أنَّ الوعي وحده لا يكفي بل يتحتم الذهاب أبعد من وعي الظروف المحيطة، والتحول إلى العمل الصريح بالمكاشفة الصريحة العنيدة لعديد من الوقائع القائمة..
وفي ظرفنا العراقي يمكننا الحديث عن حوار بين أطراف الساحة العراقية على أسس ثابتة واضحة تتمثل في التقدم بالعملية السياسية ومضامينها وتوجهاتها الديموقراطية السلمية.. وهذا يقتضي لا الاكتفاء بتعميد الحوار ومواصلته بإصرار بل ينبغي أن يرافقه فضح لعمليات التسليح لقوى العنف ومصادره وتعرية أهداف من نمط تلك التي تعاضد إثارة فوضى الاحتراب من جهة وتدمر جسور التلاقي وتمنح أطرافاَ َ قوةَ استغلالِ ِ أخرى بوساطة العنف الدموي وغيره وبوساطة الإكراه والقسر المستند إلى تلك القوى الهمجية التخريبية..
وهكذا يكون التعامل مع المختفي في مسار موازِ ِ للتعاطي مع توطيد مسيرة خطاب الحوار وفعاليته… وبغير هذه الحقيقة سيكون من السذاجة اعتماد منطق التنازلات واسترخاص تقديم فروض الواجبات والتضحيات للآخر وهو الأمر الذي يُضعِف نتائج الحوار ومردوداته الإيجابية بل يحوِّله إلى مجرد غطاء لقوى بعينها على حساب مجموع القوى الشعبية..
وفي هذه الحال نجد أنفسنا بعيدا عن فرصة تقديم ما تنتظره القوى الشعبية من ممثليها في ميدان الحوار العراقي العراقي.. وسيمثل تجاوز المختفي والتغاضي عن مجريات الواقع وطبيعة الصراعات الدائرة، خطورة بعيدة في التعاطي مع مجمل المسيرة التي يديرها أطراف الحوار..
بينما سيكون من الطبيعي أن نتذكر كون الحوار الدائر يجري بين قوى وقيادات وبرامج وفلسفات متعددة وهي في جميع الأحوال تخطئ وتصيب بمقدار احتكامها لمصالح الفئات الشعبية من جهة وإلى الخبرات والمصالح التي تمتلكها قوة بعينها ما يعني أننا أمام قوى تمثيلية للمجتمع بعضها يمثل مصالح ضيقة معادية للفئات الواسعة ولكنه يبقى جزءا من الحركة العامة وإدخاله إلى طاولة الحوار أمر يفيد في إحباط أية رؤى سلبية ومعالجات هدمية والمحافظة على طريق المعالجات الناجعة التي تعيد للإنسان حقوقه بدلا من إضافتها عوامل إرهاق جديدة..
وللقراءة هذه بقية كون ما قدمته هنا يمثل مجرد اقتراحات لتوسيع دراسة أسس الحوار وميدانه ومقتضياته وتعميقها وتعميمها.. ولنا ثقة بمستقبل خطاب الحوار ومسيرته في الميدان العراقي والإنساني..