قراءات في شؤون التحالف والتسامح وثقافة الحوار
العراقيون اليوم بمواجهة مسؤولياتهم التاريخية مباشرة فقد مضى زمن الطغيان الدكتاتوري.. وهم مسؤولون اليوم عن التعاطي مع أوضاعهم على أساس من التوافق والتخطيط لمعالجة كل تلك الآثار الجهنمية من مخلفات الماضي المقيتة..
ويمكن للساسة العراقيين أن ينجحوا في مساعيهم حيثما استطاعوا تحقيق التوافق الذي يعكس جوهر اللحمة والتجانس الموجود بين مكونات الشعب وأطيافه المتنوعة المتعددة.. ويتأتى هذا من خلق أرضية متينة راسخة للحوار الوطني ولتفاعلاته الإيجابية التي تستند لا إلى رغبات وحسب بل إلى عمق موضوعي ومنطق عقلي راق…
ولحوارنا الوطني أسسه وضوابط تطويره والنهوض بمسؤولية إنجاحه.. وأبرز ذلك الثقة والمصارحة والمكاشفة… ولكننا هنا بصدد ما يعتري الحوار من تعقيدات تخص بعض الأمور الملتهبة من تلك التي يتم مناقشتها وتناولها من منظور كل طرف يسعى لتقديم تصوراته بالخصوص..
وما يحصل على أرض الواقع التهاب خطير للمشاعر حيث تختلط الانفعالات بمجريات الأوضاع الخطيرة من جهة البطالة والتضخم والقدرة الشرائية والحاجات الخدمية الحياتية الحيوية من ماء وكهرباء ومن صحة وتعليم ومن شبكات الصرف الصحي والمواصلات ومن قضايا الأمن والأمان التي أكلت مطحنتها عشرات ألوف من الأبرياء…
ويعالج كل طرف ما يتناوله في ظل ضغوط من هذا النوع وهو الأمر الذي يفرض علينا في الإطار أن نتحمل بعض ما يصدر من خلط بين الاستجابات الإنسانية للضغوط انفعاليا وبين التباس المعالجات وأخطاء تناولاتها.. وأن نتحفظ في عرض ما لدينا من ملاحظات تخص تصويب رؤى بعضنا بعضا بخاصة تلك المرتبطة بتلبية حقوق الفئات التي ظلت مسحوقة طوال العهود المنصرمة..
وأود هنا تناول مسألة مهاجمة الشخصيات الوطنية في وجودها وفيما تكتبه من معالجات.. ومن الطبيعي أن تكون تلك المسألة مستندة في الغالب لخلفية تخريبية مقصودة.. ولنلاحظ أن مجريات الأوضاع تقف في حدود تشويه لغة المعالجات والدراسات المؤهلة لإنقاذنا من أوضاعنا المتدهورة وقيادتنا نحو اللقاء وتعميق الحوار وتطوير عناصره…
وأخطر الأمور تلك التي تنتقي المعالجات العلمانية والليبرالية والديموقراطية اليسارية فتأخذ منها فقرات أوعبارات وجمل ومفردات لكي تضلل بتأويلها الأعوج أناسا فتفصل بينهم وبين تلك المعالجات الوطنية النزيهة..
وعلى سبيل المثال فإن ظاهرة اختراق المؤسسة العراقية بكل مستوياتها وأصنافها أمر معروف في بلادنا اليوم.. وعندما يجري تعرية العناصر التي قامت بالاختراق يجري اقتطاع الفقرات المعنية للإيقاع بين المحلل السياسي والطرف الفكري الذي يمثله وجمهورهما..
وعلى سبيل المثال عندما تجري الإشارة إلى شخوص تسللوا إلى إدارات الدولة يجري تأويل الأمر على أساس أن الدراسة تشير إلى كل مفاصل إدارات الدولة بالمطلق من دون استثناء وهو أمر غير صائب بالمرة حيث القوى الديموقراطية تستهدف دعم بناء مؤسسات الدولة وليس العكس.. وعندما تجري الإشارة إلى أن بعض [أي أفراد معدودين] من قيادات سياسية يسيرون بنا إلى مشكلات معقدة يجري تأويل الأمر وكأن القراءة التحليلية تشير إلى التقاطع مع تلك القيادة السياسية ويتم التحضير للتناحر والخلاف التناقضي بما يؤهل للقطيعة ولما وراءها من مخاطر..
كما يجري بالمعتاد أمر تأويل كل معالجة تتصدى لخطايا بعض أفراد اندسوا في المؤسسة الدينية ليسمّوا أنفسهم مرجعيات دينية وينافسوا المرجعية الصادقة الحقيقية وهنا يحاول الأدعياء أن يخلطوا الأوراق ويضللوا بما يوقع بين القراءات الموضوعية وجمهور بعينه..
وهنا بالتحديد يجري كذلك اختلاق القطيعة بين قراءة العقل والموضوعية وبين القوى الدينية المتنورة كما يجري محاولة عزل أصحاب تلك القراءات بافتعال تأويلي مزعوم عن جمهورهم بالقول إنهم يقفون بالضد من معتقدات الناس ومذاهبهم مقتطعين عبارة أو فقرة بطريقة تشويهية أو على طريقة “لا تقربوا الصلاة….” ويكتفون بالاقتباس لأمر مقصود مبيَّت طبعا..
كما أن هؤلاء لا يسرهم وجود فرصة حوار بين الأطراف كافة ما يجعلهم يعزفون على وتر التناقض بين المجموعة العلمانية والمجموعة التي تمشي خلف المرجع الديني وهنا فضلا عن عديد من المزيفين ممن اخترقوا المؤسسة الدينية كحال كل مؤسساتنا المخترقة فإن الإنسان يخطئ ويصيب وبحاجة لتداول ومشاورة أي حتى المرجع نفسه لا يمكنه القول بعصمته من السهو والخطأ والحاجة للمشاورة والعودة إلى النصوص الأصلية الأصيلة..
ونحن بهذا التوصيف بحاجة لمؤسسات الدراسات في كل مناحي الحياة فنحن في دولة مدنية يحتاج الناس فيها لمتطلبات وجودهم الحيوية وليس إلى طقوس تعبدية مجردة فقط؛ والحديث الشريف يقول عامل يعمل خير من ألف عابد.. وحتى نصل بلغتنا هذه إلى الناس لابد من التصدي لحملات التشويه واختلاق القطيعة بيننا وبين جمهور العراقيين كافة…
إنَّ معركة حل مشكلات شعبنا العراقي لا تكمن فقط في عرض المعالجات وتركها في أجواء الإعلام ومؤسسات الدراسة والبحث بل تكمن أولا في الوصول إلى الناس وفي كسبهم ومنع القطيعة بينهم وبين مؤسساتهم البحثية والانتاجية المتحركة لا الجامدة الخاملة…
ويفرض الوصول لمثل هذا الوضع الإيجابي المتحرك أن نلتفت بحذر شديد إلى جملة عناصر تحاول العبث بحلقة الوصل مع الجمهور ومع مؤسسات دولتنا الوليدة.. وأن نوضح باستمرار أن ليس من مقاصد طرف يريد الخير والبناء والسلم والديموقراطية أن يعالج أموره بالطريقة التي يعرضها المؤوِّلون بطرق معوجة أما مقاصد التأويل الأعوج فهو أبعد من محاولة فصل بين الديموقراطي والناس لأن الهدف الأخير يكمن بوضوح في الإبقاء على أوسع فرص الوجود للظلاميين الجدد ولاستبداد جديد بوجه أكثر عتمة وقسوة ودموية.. ولقد بقي المستغلين يلعبون على حبال التضليل طوال عصورهم وهم يواصلون المسوار نفسه باللعب بوجه مبتسم قناعا أمام الجمهور العريض وبوجه كالح عبوس خلف هذا الجمهور..
إن جملة تلك الوقائع إنما تشكل مخاطرها من التراكمات التي تولدها وتحضِّر لها لتنتقل لاحقا لتصفية حساباتها مع كل الفئات الشعبية واليوم تبدأ بالأساتذة والمثقفين وغدا بفئات أوسع وكما ترون فالشبيبة والطلبة تعرضوا لمآسي العصي والهراوات ورصاص وسكاكين الغدر لمجرد ممارستهم لنشاط اجتماعي والنسوة تعرضن لأفضع من ذلك اختطافا واغتصابا واغتيالا لمجرد توجههن إلى المعامل والحقول والمدارس وكثير من الكسبة تعرضوا للتحقير والتدمير وللابتزاز والتقتيل لمجرد أن نوعية أنشطتهم لا تعجب هذا الشخص الدعي بالتدين أو ذاك…
ذلكم هو ما يجري في بلادنا وعلينا التوكيد على مزيد من التمسك بتعزيز مؤسساتنا العاملة وتطويرها وتنقيتها وإيجاد الحلول المناسبة لواقعنا.. ولا يأتي هذا بغير توافقاتنا الجمعية وبحوارنا الوطني المنقى من التأويل والتضليل… وبمزيد من التمسك بثوابتنا الوطنية الديموقراطية التي تحترم كل مكونات شعبنا وتتيح للجميع حريات كافية ومساواة وإنصاف وعدل..
وفي الحقيقة لا يخذلنا بحثنا عن لغة الحوار وخطابه السياسي عن فضح الجريمة المرتكبة بحق أبناء شعبنا وينبغي القبول بسير المحورين جنبا لجنب إذ الحوار لا يقصد التحالف المانع للمكاشفة والمصارحة؛ والحوار لا يمنع التقدم بالنقد الموضوعي البناء البعيد عن الشتم والتجريح ولكن الصريح الفاضح لكل ما يدخل في إطار العمل الإجرامي بحق الإنسان والطيف العراقي ومجموع الشعب بمكوناته…