قراءات في شؤون التحالف والتسامح وثقافة الحوار
من حيث المبدأ صار عالمنا متأكدا من أنَّه لا بديل للحوار من أساليب لإدارة العلاقات الإنسانية كافة. ولم يعد ممكنا أو سهلا التعاطي مع أيِّ أسلوب آخر لإدارة تلك العلاقات من دون خسائر غير مرغوب فيها بل مرفوضة رفضا قاطعا من أغلبية الأمم والشعوب ومكوناتها من أنواع المجموعات والفئات الإنسانية… ويستعصي على جهة أنْ تمرِّرَ محاولاتها المكتعارضة مع فلسفة الحوار السلمي الديموقراطي القائم على أسس الانصاف لحقوق كل الأطراف بطريقة الجلوس حول طاولة المائدة المستديرة…
وعليه فإنَّ التعاطي مع تساؤل مقالنا هذا ينطلق من الأمل المستند إلى أوسع قاعدة في بلادنا تؤيد مبدأ الحوار والحلول التي تعتمد السلم والديموقراطية وترفض قبول الحلول العنفية المدججة بأسلحة التدمير والتقتيل والتفجير لمجمل أوضاعنا الداخلية.. وإذا كان من أبرز ما يُستفاد منه في قراءة نتائج الانتخابات الوطنية الأولى فهو تصويت الأغلبية لصالح العملية السياسية ورفض الأعمال العنفية الدموية المسلحة بفكر المزيد من أنهار الدم العراقي يُسترخَص على مذابح التطرف والإرهاب…
إنَّ الحوار لا يجري بين متشابهَيْن متماثلين ولكنه يجري بين صوتين فأكثر، أي بين المختلفين وحتى بين المتناقضين في الرؤى المتعارضين فيها؛ على أساس من القبول بلغة التفاعل الإيجابي وبلغة مؤنسنة تحترم المنطق العقلي للخبرات البشرية بالتحديد تلك التي تأمر بتبادل الرؤى ومفاعلتها بنائيا لا هدميا.. ومن تلك الخبرات يعرف المجتمع الإنساني أنَّ العنف لا يجلب سوى الخراب ومزيد من الدماء وخسارة أرواح البشر ووجودهم.
وقد [ينتصر] عسكريا طرف على آخر ويُخضِعُه لسلطانه ولخدمته ولكنه لن يسطيع ذلك من دون خسائر يهدرها من جهده ومن إنسانيته التي يفقدها باستغلاله العنف والعدوانية تجاه أخيه الإنسان عامة وأخيه من جنسه وشعبه وأمته وعائلته خاصة.. وليس من عجب أن نجد الربح بطريق العنف دربه قصير وليس فيه من فوائد ومناغع بقدر ما فيه من خسائر ومهالك… وهذا يتحول ما يُسمى نصر إلى هزيمة للوجود الإنساني عند السلطان الطاغية وفي الحياة العامة فلا يحيا في وسط إلا وسط الموت والرعب والعنف السادي وتلك ليست بحياة!؟
أما الحوار فأرضيته الاطمئنان والثقة لأنَّه يجري على أساس تبادل المصالح والتفاعل البنّاء بين أطرافه بخلاف الهدم والتثليب بين المتعارضين المحتربين.. والحوار يقوي من تحقيق المستهدفات لكل الأطراف وإنْ وجد طرف أنه لا يحقق من برامجه كثيرا مقابل ما يحقق لغيره ولكنه على أقل تقدير بالحوار يكسب ما كان يمكن هدمه بالاحتراب من جهة وما كان يمكن فقده بالجهود الضائعة بين أقدام همجية تتفاعل هدميا…
وفي الحوار تبدأ لغتان بالعمل أولها تشكيل القناعات بكسب الآخر للرؤية التي يُتصوَّر أنها الأصلح وثانيها لغة تبادل العطاء بدل تبادل النهب وهي لغة تمنح وتبني وتجد في زيادة ما للآخر زيادة ما للأول، وإنْ اختلف في التفكير والفسلفة.. وهذا ما يأتي من حيث كون كل البرامج والرؤى والأفكار إنَّما تأتي لإدارة الحياة من أجل تحقيق مصالح الناس سواء بتكويناتهم الفردية أم بوجودهم الجمعي..
ومن هنا كان لزاما ألا يكون أي تحريم أو حظر أو منع إلا لما يتعارض مع أوسع مجموعات توكيد السلم والمساواة والعدل.. من مثل العنصرية والطائفية وكل ما من شأنه توكيد التطرف والتشدد وقطع سبل التفاعل السلمي الهادئ وسيادة التفاعل العنفي الصارخ سادية ودموية… وبناء على هذا المنظور العام لا يكون للمتوافـَق عليه شفاها أم تحريريا بين البشر إلا ما يؤدي إلى سيادة الحوار بالمطلق بالخصوص والتوكيد الحوار السلمي البنّاء..
إنَّ إدارة الحوار في ظل مختلف الأوضاع ممكن إذا ما توافرت القناعات المشتركة بالمبدأ بوصفه وسيلة تحقيق مصالح أطرافه بما يعود عليها سويا بأغلب مطالبها.. ولا يمكن لطرف يرفض الحوار أسلوبا أن تطون لمطالبه مشروعية إنسانية ومصداقية أو أية قيم أخلاقية منصفة.. ولا يرفض الحوار إلا أولئك الذين يمتلكون مطامع ومصالح نفعية على حساب الآخرين في عصر صار مبدأ إنصاف الحق الإنساني ومنع الاعتداء عليه أمر جوهري في الحياة المعاصرة…
وإذا كان من الضروري أن نضمن للحوار أجواءه المناسبة وأن نمنحه الفرص الكافية ليثمر نتائجه الصحيحة الصائبة فإنَّ من أدق تلك الشروط المناسبة المنتظرة ألا يُفرَض على الحوار أسقف وهمية تتحدى مسيرته من مثل السقف الزمني لمدى الحوار بطريقة قسرية مبتورة ومنع مواصلته كما جرى في ذاك القسر غير الموضوعي لإنهاء مرحلة الصياغة الأولية للدستور، أو من مثل فرض سلطة طرف على آخر في الحوار بذرائع من شاكلة أغلبية تمتهن حق الأقلية أو الأقليات هذا فضلا عن طرق الفرض والقسر والإكراه الأخرى من مثل تسمية مجموعات سكانية كبرى بالأقلية و في الاصطلاح السياسي ومعجمه لا يمكن أن تكون كذلك…
إنَّ الحوار على أساس سياسة المائدة المستديرة ولا غالب ولا مغلوب ولا مستيد يرأس ويوجه ويأمر ولا مرؤوس يثستلب ويُصادَر ويُنتقَص من حقوقه بوصفخ إنسانا يمتلك كامل الحقوق المشابخة لأخيه الإنسان من تمييز بذريعة أو حجة أو سبب..
ولكن الحوار الذي نحتاجه في ظل شروطه الملائمة وأوضاع سلمية صحية صحيحة لا يقف عند هذا ولا يتحقق إلا به بل يمكن للحوار أن يجري في ظل أعتى الظروف المحتقنة.. فإذا قلنا إنَّ الحوار ليس الخطاب الجاري بين متماثلين بل بين مختلفين فإنَّه من المناسب والصائب ايضا أن نقول إنَّ الحوار أجدى وأوجب وأفرض لكي يجري بين المحتربين لأنَّ نفعه هنا أكبر حيث يوقف نزيف الإنسانية دما وأرواحا وقيما مادية ومعنوية روحية..
وعليه كان من الصحيح ألا يقطع الناس خطابهم الحواري السلمي وأنْ يفعِّلوا ما بينهم من صلات سلمية حتى في ظل الصراع التناقضي فكريا وسياسيا وحتى في ظل استمرار العمل من أجل فضح التصورات التي يعتقد كل طرف أنها مضرة معادية للإنسان ولكن في الوقت نفسه على كل طرف ألا ينسى حدود كونه بشرا يصيب ويخطئ ايضا مثله مثل كل بقية البشر على حد سواء من دون أن بعلو عليهم ليضع نفسه في مستوى جنس أعلى من بني آدم مثلما أبليس الذي رفض السجود لمخلوق من طين!! فلماذا نضع أنفسنا في مستوى غير مستوى أخوتنا في الآدمية البشرية الإنسانية؟؟
في الحوار نستوي جميعا ونتقابل في مائدة لا رئيسا ولا مرؤوسا ولكننا نعاون بعضنا بعضا في أمور حياتنا لكي نحل المشكلات التي تتهددنا جميعا من أمراض وأوبئة فتاكة كايدز والسرطان وغيرهما ومخاطر الفيضانات والجفاف ومخاطر نقص الأغذية بسبب من توزيعها أو لي سبب آخر.. ومخاطر طبيعية كانتشار الإشعاعات الضارة واختلال التوزنات بالغازات بسبب تلوث البيئة كل هذا وغيره مما ينبغي أن نعالجه ونحله وننتهي منه بدلا من ولوج عالم الدم والعداء الدموي السادي…
وليست دعوتي هذه دعوة أخلاقية مثالية بحتة فهي تدري بأن بعض الفئات والعناصر الآدمية توحشت واستذأبت فصارت بساديتها تحرق الأخضر مع اليابس ولا أمل فيها ولكن الأمل يكمن في مزيد من ثقل قوى الحوار فهي الوحيدة قوى الحياة لا الموت قوى السلم لا الحرب قوى الاستقرار لا العنف والدمار. بمعنى أن تستطيع قوى الحوار البناءة فرض لغة الخطاب السلمي بدل لغة البؤس والوحشية..
صحيح أننا نجابه بقوى الغاب وصحيح أننا قد لا نحقق ما نصبو إليه مباشرة وأننا قد نفقد في خضم إصرارنا على مبدأ الحوار ولكن التضحية من أجل الاستقرار والخير والسلم يمكن قبولخا في وقت لا يمكن التعايش مع الخسارة الفادحة من أجل الاستغلال والتخريب وعار مقاتل الإنسانية.
إذن للجهود المبذولة للحوار أسباب لا تنتهي ولا مصر لها بخلاف الجهود من أجل الاتجاه المعاكس اتجاه الخراب والاستغلال المأساوي للبشرية.. وللحوار أجواء مفتوحة أبدا وللقطيعة منتهى دوما وحين تنتهي القطيعة ويبدأ الحوار من جديد يقول من ساهم في إدامة التناقض يا ويلتي كم أضعت من زمن وها أنا ذا أعود من جديد إلى حيث كان ينبغي أن ابدأ به بالأمس البعيد..
وحتى لو كان هناك قتال ودم لا ينبغي منع قوى التلاقي قوى الخطاب المباشر المؤنسن السلمي من المضي في طريق الحوار لتجد كيفية مناسبة وآلية ملائمة للخروج من دوامة تعطيل اللقاء . و… بلى يمكن لنا أن نستمر في الحوار وألا نقطع الأمل فيه وفي نجاح وسائله من تحقيق الآمال المعلقة عليه لتعميق لقاء المختلفين طالما كان الاختلاف منصبا على وسائل حل مشكلاتنا الإنسانية وإيصالنا إلى غد أفضل وإلى المعالجة الأنجع.. حتى إذا خرج سبب الاختلاف عن هذه العائدية المضوعية حينها لا ينبغي أن نقبل به وعلينا أن نجد له حلا ملائما بطريقة موضوعية مناسبة، حتى لو كانت طريقة الاستيلاد القيصري الاضطراري.
أما جنس الحوار وخطاب التفاعل الإيجابي فلا انقطاع له ولو كان في ضائقة الاحتقان.. فهل لنا أن في عراقنا الجديد أن نبدأ مسيرة الحوار العراقي الذي يقبل المواصلة ولو تحت مظلة قرسية حتى تستطيع قوى التغيير أن تقرِّب بين الرؤى والتوجهات فيدخل الجميع جنة عراق الأمن والأمان وفردوس السلم والحرية وزمن البناء والتلاقي والإخاء….