قراءات في شؤون التحالف والتسامح وثقافة الحوار
كيف يجري حوار الطرشان.. يعني أن يمضي الأمر حيث يعطي كل طرف للآخر أذنه “الطرشة” أي الصماء التي لا يسمعه فيها.. وأن يجري الحوار بطريقة يتكلم فيها طرف وهو لا يسمع لصاحبه ولو مفردة.. وبيت القصيد أن يُملي طرف على آخر ما يريده من دون أن ينظر حتى في استجابته أو تفاعله. فهو يطلق كلماته لا للحوار وتبادل الراي بل ليِأمر وينهى فقط…
ولا نجد حوار الطرشان إلا في مجتمع سادت فيه لغة الغوغاء وأمراض الجهل والتخلف.. حيث التربية هنا هي التربية القبلية الماضوية تلك التي تتحدث عن أهمية الإنسان ليس في وجوده الإنساني البشري البحت بل في منصبه وموقعه الوظيفي… حيث السيد ليس غير {اس العشيرة والبقية سواء في موقع التابعين المهمَّشين…
في تلك الأجواء يصير الطرف الناطق المتكلم الأساس بل الوحيد هو من بيده سلطة الرعية. وفلسفة الراعي المالك وقطيعه هي التي تحكم الوضع… وفي أجواء القبيلة تشيع فلسفة الغزو؛ وأن تغزو لا أن تُغزى وأن تكون المبادر الأول وما يتبع ذلك من تربية البدء بالكلام وبغيره بل السطو عليه أو على أهم مساحة فيه..
أنا أتكلم إذن أنا موجود.. أنا أنطق كلاما أكثر إذن أنا أملك معرفة أكثر وثروة أكبر! أنا مكتفِ ِ بما لديَّ لا أحتاج لما لديك.. ما لديَّ هو الأفضل والأعلى والأقوى وما لديك هو الأسوأ والأدنى والأضعف فلماذا أستمع إليك؟ اصغِ لي أنت وتعلم مني وخذ مني طالما ما تأخذه هو الكلام وليس غير..
وفي أفضل أسباب توقف الأذن عن العمل أن ليس لي من مصلحة في لسانك فأنا معزول أريد أن أتكلم وأن أحرك لساني وأنت تريد أن تفرض عليَّ ما لا أريد سماعه فسببي الآخر أني شبعت من الكلام ممن يحكموني وأنا أريد أن أبدي وجودي في لساني..
أليس الوجود أن تفعل؟ أنا لا أجد في تلقي الأذن فعلا بل أجد في إرسال الكلمات فعلا. فإذا كنت تحترمني فدعني أحكي وأتكلم وأنطق وأحرك لساني وشغِّلْ أنت أذنك.. أنا أريد أن تسمعني فلقد سمعت دائما.. وبالفعل فقد سمع دوما من رئيسه المباشر في دائرة العمل ومن رؤسائه غير المباشرين ومن الإذاعة ومن التلفزيون وعانى التخمة من أحاديث السيد “حفظه الله ورعاه” وهو يعاني من لسان زوجته السليطة وهي تعاني من لسان زوجها الآمر الناهي وجميعنا نعاني من ألسنة جميعنا.. حيث يطغى في زمننا أوامر لا نرضاها وأفعال لا نريدها وكلمات لا نحبها…
ما يدفعنا لحوار الطرشان كثير وما يدفعنا لإعطاء أذن الطرشة أكثر.. ولكن هل سيكون لنا من يسمعنا إذا تركنا لمبدأ الأذن الصماء أن يسود واعتمدناه مبدأ لسيل من هذيان ألسنة مصابة بحمى أن نسمع أصواتنا حتى لا نعترف بهزيمتها؟؟ أليس من السباب أن نجد لأنفسنا موطئا حيث وجدنا ألسنتنا تتحرك بعد أن عزَّ الفعل!!؟
إنَّ مؤشرات الأمس التربوية تفيد بأنَّ الأذن هي ردّ فعل لا فعل.. وهي سلب لا إيجاب وهي محو لنا لا بناء وهي إلغاء لوجودنا لا إثبات!!! ولكن كيف ذلك؟ هل حقا الأذن سلب لنا ولإرادتنا ولوجودنا؟
إذا طبقنا فلسفة الرئيس والمرؤوس، الآمر والمأمور، الناهي والمنهي، فإنَّ في بعض الأمر حقا ولكن إذا بحثنا عن وجودنا على أساس كوننا بشرا أناسا لا يتحقق لنا وجود بغير انسجامنا مع الآخر ولا يتحقق لنا وجود بغير تفاعل وتبادل مع الآخر وبغير عطاء وبذل مثلما نأخذ ونريد؛ فحينها يمكننا القول إننا لسنا بوارد القول أن نكتفي بألسنتنا بل لابد من تشغيل الأذن ..
وحينها سيكون للأذن دور الفعل لا ردّ الفعل وسيستوي دور الأذن مع دور اللسان. فلا لغة تولد أو تُكتسَب من غير الأذن ولا جوار يجري حقا ويُسمى [الحوار] بغير تبادل الدور وتفاعله ووحدته بين اللسان والأذن..
فكلنا بحاجة للآخر وليس فينا من يسطيع العيش بوجوده الخاص بعيدا وبمعزل عن الآخر.. نحن لا نوجد بوصفنا جزرا معزولة بل نحيا لأننا نولد من بشر ونلد بشرا ونؤاخي بشرا ويؤاخينا البشر…
وحتى نلبي ما تتطلبه منّا حاجتنا للوجود الإنساني فليس لنا أن نكثر كلاما ونقل سماعا فنطلق عنان اللسان ونلغي الآذان.. يجب حتما أن نفعِّل الأذن عندنا .. وحينها فقط سينطلق الحوار فاعلا مفيدا متحركا وحينها فقط يكون لوجودنا معنى ..
بلى، عند تشغيل الأذن فقط تنطلق فلسفة الحوار وثقافته وليس من حوار بلا أذن وليس من منطق لاحترام الآخر وإعلان تفاعلنا معه بغير تشغيل الأذن وتفعيل عملها والاستماع بله الإصغاء لأصحابنا..
إنَّ ادعاء الديموقراطية أمر ليس بممكن التخفي طويلا وراء وجوده زعما بغير أن نوجد فرصة حقيقية جدية لعمل الأذن أو الاستماع للآخر ولما ينطق به.. وأول طريق تشغيل الأذن تنظيفها مما يسدها ويقفل منافذ عملها..
ومن ذلك استصغار طرف وتهميشه واستهجان رأي وتسخيفه وتكفير حجة وإذلال لسان مرسِل حينها تغلق الأذن عن الاستماع لمثل هكذا شخص حيث نجد أنفسنا بغير حاجة لهامشي أو مهمَّش.. ألم نقرأ مثل البعوضة والجمل؟!! أو النملة والفيل؟ أو الفأر والأسد؟
حتى لا يغلق آذاننا شئ من ذاك وحتى نفتحها واسعة مرتاحة بعيدة عن غيض أو إزعاج من إنصات للسان العدو قبل الصديق وجب أن ننظف تلك المسالك بأدوات التسامح والتواضع والتفاعل الإيجابي مع الآخر..
ولا يقولن شخص إني الأقل حظا في الكلام والإدلاء بدلوي فخير الكلام ما قل ودل وليترك للفعل مساحة تجعل من كل كلمة إيجاز وكثافة تحوِّل تلك الكلمة لفعل عظيم وخير عميم… وليجد كل طرف السبب ليترك صاحبه هو المتكلم البادئ المسترسل وليبحث عن وسائل ما يوجز بها هو كلماته..
حينها سيكون التوازن بين دوري اللسان والأذن ممكنا بطريقة الإيجاب لا السلب ولن يطمس دور الأذن حيث رحاب الحوار وثقافته منطلقه الأذن لا اللسان..
وتحية لكل أذن أصغت لأصوات تنطق بها هذي الكلمات شاكرا فضل الإصغاء وكرم ما أ‘طتني عساها تنطق بما أخذت لمسامع أخرى فتحولها إلى لغة الحوار التي اضمحلت بين أصوات التفجير التي تصم آذاننا جميعا ولكنها التي لا تكتفي إلا بإخراس ألسنتنا جميعا فوجودنا جميعا ويومها لا نملك لا الآذان ولا (أضعف الإيمان) الألسنة أيضا…
تحيا الأذن أساسا لثقافة الحوار وهلموا نسمع بعضنا بعضا بكل الود والحب والتسامح… كما نسمع معزوفة تعجبنا أو غناء يجذبنا أو عندليبا يشدونا ويرقصنا.. حينها ستخلو الساحة من ثقافات الوحشية وأفعال السادية والدموية والصراخ والعياط والعويل ومناحات المقاتل والمغازي ليسود الوئام والتصالح والروح البشري الإنساني المهذب الكريم.. لنصغِ وشكرا جزيلا لإصغائكم…