الأدب ظاهرة تعبيرية مركبة تعكس التراكم المعرفي الذي يمثل التطور في الحياة الإنسانية ؛وهو بهذا يبحث في وسائل إدراك العالم معرفياَ َ مثلما العلوم التطبيقية الصرفة على أنَّ العلم يعكس هذا العالم في التجريدي من القوانين فيما يعكسه الأدب في التجسيدي المحسوس الحي من النماذج . وعليهِ فإنَّ الأدبَ يعكس الواقع بشكل واع ِ ِ ويصدر عن فهم أو إدراك منطقي وليس عن مجرد انفعال اعتباطي أو عبثي. وفي ضوءِ ذلك لا يختلف الخطاب العلمي عن الأديي إلاّ في شكل التعبير أو صورته.
لقد تعرضت مسألة (علمية) الخطاب الأدبي لمعارضة جديّة منذ انقسم المجتمع وظهرت الأيديولوجيات والفلسفات المتناقضة المصالح والرؤى.. فإذا نحن تناولنا هذه المسألة على حسب تلك الرؤية التي تنزع إلى عدِّ الأدب مجرد تعبير انفعالي عن تجربة ذاتية فردية, فإنَّنا سنلاحظ أنَّ تلك الرؤية تعود إلى وهمين:ـ
الأول يتمثل في تضيِّيق مصطلح(علم) وقصره على المعارف التطبيقية الصرفة و مسوِّغ هذا القصر يعود إلى كون أصحاب هذه الرؤية ينطلقون في فهم محيطهم من أسس تقوم على تبسيط الأمور إلى حدّ السذاجة مع فصل “حدود” المعارف عن بعضها بعضا بناءَ َ على إزدراء مسبَّق للفلسفة بالمقارنة مع العلوم التطبيقية مستندين في هذا الموقف إلى أولويات الأهمية الوظيفية والمادية المباشرة لكل من العلوم الصرفة والفلسفة في حياة الإنسان.
هذا فضلاَ َ عن تعميم هؤلاء لتعريف علم بعينه ( كالرياضيات ) ليكون هو تعريف مفردة (علم) أو مفهوم هذه المفردة\المصطلح. ولكن مثل هذه العجالة في اختزال تعريف العلم والعلمية تتناقض مع حقيقة اشتمالهما على عناصر أوسع من حدود التعريف الرياضي المجرد. إنَّ هذا الوهم يعطل وسائل تطور الأدب بالارتباط مع ما توصلت إليه المعارف الحديثة فضلاَ َ عن توظيفات سلبية أخرى نتبينها في الملاحظة التي تتمثل في الوهم الثاني: وهو الوهم الذي يستغل الوهم السابق ويجعله ذريعة لتغطية هدف أيديولوجي مبيَّت . والغاية من ذلك تكمن في ضرب الروح العلمي للفكر والفلسفة وإبعاد المعارف الاجتماعية النظرية عن أية ملامح معرفية موضوعية , وبالضد من ذلك يتم خلق (وإشاعة) الروح الصوفي اللاهوتي اللاعلمي مع تحويل هذه الخطابات المعرفية إلى وسائل أو مناهج تضليلية وظلامية بدعوى أنَّنا لا نملك حق مصادرة مشاعر التلقي عبر تصوير (العلمية) بشكل يعدُّها مصادرة وسطوة آراء مسبقة وأحادية واستلاب حقوق الآخر أو دكتاتورية فكرية , على أسس ترى العلم مسطرة رياضية خارجية مسبقة وتراه في مناقشة العالم الموضوعي لا الذاتي في حين ترى الأدب وخطابه فيما يقترن بطغيان البعد الذاتي وترتُبهِ (أو قيامه) على أمزجة وانفعالات لا على معطيات موضوعية أي أنَّ الأدب ظاهرة فردية لا جمعية !
لقد برهنت علوم اللغة , الدلالة, السيميولوجيا والأدب على أمثلة ِ ِ ملموسةِ ِ تدلل على خطل الرؤية السلبية تلك , على الرغم من حاجة هذه العلوم لما يزيل عنها عوامل اخضاعها لمثبطات وعراقيل تنتمي لصراع الأيديولوجيات وإلى قصور التعامل مع معطيات العلوم الصرفة مع انتقال الحضارة الإنسانية من التفسير الإسطوري للعالم إلى القراءة الواعية العلمية له. ولكن إشكالية انتصار الرؤية الإيجابية مازالت بحاجة لأكثر من عامل الزمن لحسم الأمر.ومثالنا على استمرار هذه الإشكالية هو في معارك من مثل ما يدور في أروقة الجامعات سواء في الأقسام المتخصصة بالدرس الأدبي أم تلك التي تعنى بالدروس العلمية الصرفة , ولنلاحظ نمط الوسائل التي يستخدمها الطرف الذي ينادي بإبعاد النزعة العلمية عن الدرس الأدبي … فمن تلك الوسائل إشاعة ثقافة الحجب والمنع والتعطيل والتسطيح والتحريم والتكفير .. فالنص الأدبي وخطابه مجرد ألفاظ وإيقاعات وبنى لا تنفصل عن معطياته الدلالية إلاّ بالقدر الذي يشير إلى وصفية سلبية ويتأتى هذا في واحد مما يتأتى منه , من حالة اختيارات تتعمد التسطيح وتتعمد في دراسته تعطيل العقلنة والعلمية , هذا مع حجب أو منع الأعمال الأدبية التي تأبى على محاولات التسطيح إياها. وفي نطاق التكفير تدخل كل تلك النشاطات التي تعمل على إعدام الأعمال التي تغادر السذاجة والوقوف عند حدود الأشكال (اللغوية) التي تحاول الوصول أو الدخول في عالم الخطابات الأدبية وهي ليست سوى أعمال تدميرية تتعارض مع قوانين التعبير الإنساني الصحيحة…
إنَّ هذه المسألة تظل أسَّ الصراع في نطاقات معرفية عدة.. وهي لا تقف عند حدود (علمية) الخطاب الأدبي أو عدمها , وإنَّما تمتد لتعبر عن أوسع أشكال الصراع بين عناصر الجهالة وعناصر التنوير في حياتنا المعاصرة..حيث تنهض هذه المسألة في قراءة ذهنية التلقي وعلاقتها بظهور الإتجاهات المتناقضة في الفن والأدب وفي قراءة كيفية إدارة الصراع ومن ثمَّ في اشتراع المفاهيم والمصطلحات و قوانين الإباحة والتحريم على وفق رؤى أطراف الصراع.
نُشِرَتْ في جريدة الزمان