افتتاحية العدد 17 ألواح بابلية: تتصاعد اليوم في بلاد الحضارة الإنسانية الأولى أعمال العنف المسلحة آتية على كلِّ شئ من صنع زلزال التدمير والتخريب أو بركان الصدمة والترهيب وإقلاق الإنسان العادي في تفاصيل حياته اليومية. ولكنَّ المشكلة بعد كل تلك الكارثة المأساوية التي حلَّت ببلاد السلم والحرية لا تكمن في العنف ذاته بل فيما أسَّس ويؤسس له أولئك الذين يقفون خلف دوامة العنف الدموي…
والإشارة هنا إلى لغة الخطاب التي يعملون من أجل تطبيع الأجواء عليها, حيث يجري التعايش مع أجواء العنف من تفجيرات وأصوات الرصاص الذي يلعلع في الأجواء صباح مساء ومشاهد الطعن الغادرة في صدور الآمنين وفي أظهرهم وخواصرهم, إنَّها اليوم ما عادت مجرد محاولة فقد ترسَّخت في أذهان الناس تلك المشاهد والأصوات وصارت في حالة أقل اندهاشا وذهولا أمام صور الموت المجاني الذي يطيح برقاب الآمنين ورؤوسهم…
وبخلق أرضية التطبيع سواء بكثرة التكرار أم بالترداد على ألسنة الصحافة وفضائيات الغفلة والاستغفال والتضليل يصبح لدينا أكثر من مصدر لتأصيل خطاب العنف ويصبح لدينا أكثر من محرِّض وأكثر من دافع أو مسبب لإكراه المواطن على دخول الحلبة والمشاركة في ميدان أو حومة المعركة الدائرة ولكن ليس من أجل وقفها وإنَّما في إطار من الخضوع لشروطها السلبية الخطيرة بأشكال مباشرة وأخرى غير مباشرة..
وأخطر من هذا وذاك تلك الألفة العجيبة الغريبة التي يجد بعض الضالين طريقهم فيها وهي ألفة المعارك التخريبية المعادية للحياة الإنسانية الكريمة كونها الأداة الطيِّعة بيد المجرمين وعصابات التشرد والضياع المنظمة هذه المرة والقائمة على أسس وقواعد تحميها من موانع الجريمة ومن التعرض للبتر على أيدي حماة النظام العام والسلم الاجتماعي…
ومع تأكيد مسار العنف بوصفه علامة فارقة للحظة التاريخية التي نعيشها اليوم يتأكد خطاب العنف ويصل إلى أبعد نسبة من المتلقين بالإكراه والإجبار وليس بمزاجهم فمن يركب الشارع اليومي للحياة الإنسانية المعاشة لابد له من ملاقاة واحدة من رسائل خطاب العنف. فكما اللغة الإنسانية نتعلمها بالقوة حيث لا مصدَّ للصوت الداخل الأذن البشرية فإنَّنا هنا بصدد تلقي رسائل العنف بالقوة بل بالإكراه المرّ …
إذن ما نحن أمامه هو مشهد من مشاهد ثقافة جديدة تحتل الميدان بالقوة التدميرية وتساهم في خلق أرضية هذا المشهد كل تلك الفلسفة القائمة على الفوضوية وعدم التعاطي مع ضوابط الحياة الإنسانية من أخلاقيات وعادات وتقاليد صنعها الإنسان عبر حضارته الممتدة لآلاف من السنين وعبر التمرد على القوانين والقواعد المنظِّمة لحياته السلمية وهو تمرد يستغل سلبيا مسألة رفض القديم والتأسيس لروح التجديد ليقضي على كل شئ بحجة رخيصة للتحرر وهي ليست سوى ذريعة بائسة لعديمي العقل أو لأصحاب المصلحة في مصادرة العقل الإنساني والفكر التنويري له..
ويدفع أكثر لثقافة العنف حالات التطرف الناجمة عن استغلال اندفاع الشبيبة وحيويتها وانفعالية ردود فعلها الانعكاسية المباشرة وطبعا استغلال مساحة الجهل والتخلف والميول الفطرية لتقديس بعض الطقوس والأعراف المحرَّفة والتضليلية بطرق خطيرة تتبرقع بعبارة سليمة بقصد حقيقي باطل …
ويزيد النار لهيبا وعنفا تخريبيا زيت بعض القوى الدعية الحزبية [الطائفية] منها بوجه الخصوص من تلك التي تحرض على الاصطدامات وأعمال العنف بطرقها الخاصة وهي التي طالما طبلت وتطبل لحماية مصالح هذه الطائفة أو تلك وهي تعادي بأفعالها تلك مصالح أبسط فرد في أي طائفة تدعي تمثيلها.. وينبغي للفرد نفسه أنْ يرفع الغطاء عن تلك القوى وينفض يده من سياساتها التي أعلن التاريخ إفلاسها وإلى الأبد…
تلك ثقافة العنف القائمة على تشظي الجماعات والانقسامات وغياب خطاب السلم والحرية أو اهتزازه أمام عاصفة هوجاء من ريح الشر والظلام ولكن المثقف العراقي ابن العشرة آلاف عام من الحضارة مسؤول عن حملة جدية بغية وقف الجريمة وخطابها وبغية إعادة الحياة لخطابات الحضارة البشرية المتفتحة المتنورة حضارة السلام واتلديموقراطية والتعايش مع كل ما يحترم الإنسان ويرفع من شأنه بدلا من ذاك الحطِّ من قدره والاستهانة به حدَّ الاستغناء عن حياته وإعدامه بالجملة بدم بارد..
فهل بعد هذا من نداء أقوى لدفع الفن والأدب والنقد والبحث الأكاديمي والدراسة العلمية لتنكب مسيرة العمل الأقوى على مقارعة خطاب العنف ووقف انتشاره كانتشار النار في الهشيم ومن أجل انتشار أغنية الحرية مرة وإلى الأبد في ربوع أرض السواد والأسياد فلا عبودية ولا عباد بل تحرر تام من القيود والأصفاد؟