جرت مظاهرات واعتصامات نسوية واحتجاجات ببيانات ورسائل الشجب والاستنكار والإدانة, جميعها تؤكد حق النسوة في الحياة العادلة الكريمة لا أكثر ولا أقل… ولقد كانت الحملة الشعبية التي جوبه بها قرار [مجلس الحكم] واسعة قوية واتسمت بقاعدة عريضة على جميع الصُعُد, حيث شاركت منظمات نسوية ذات تأثير جدي فاعل ولها تاريخها الوطني العريق والمشهود بالالتزام الأدبي بتقاليد شعبنا الحضارية المجيدة.. كما شاركت نقابات واتحادات في مجالات الصحافة والكتّاب والعلماء والقضاة والحقوقيين وناشطي حقوق الإنسان ومن مختلف القطاعات الأخرى هذا فضلا عن مشاركة كبيرة الأهمية من شخصيات وطنية معروفة باتزان الرأي ورجاحته وهم من خيرة النخبة العراقية المثقفة العارفة بشؤون مجتمعنا وأصوله ومستحقاته القانونية الحضارية المتمدنة..
ومع كلّ ذلك فقد وُصِف جميع هؤلاء بالسفاهة وتمَّ التجاوز على مكاناتهم الأدبية المتقدمة في الأوساط السياسية والشعبية والدينية, من نفر قليل يتميّز بسطوته على مواقع معينة في ظرف العراق الطارئ. وإنْ كانت تلك السطوة قائمة بالمراوغة وأحيانا بقوة العضلات والرصاص والمصادرة ووصل الأمر ببعضهم أنْ وصف كل هؤلاء المعترضين وحملتهم الوطنية النزيهة بأنَّها حملة الكفرة الملحدين وأعداء الدين الإسلامي وهو نفسه قد لا يعرف من الإسلام أكثر من اسمه وطقوس لا يعرف قواعدها وجوهرها.
وفي الحقيقة فإنَّ جملة الاعتراضات على [قرار مجلس الحكم] كانت مسوَّغة وموضوعية ولم تتعرض للدين الإسلامي لا من قريب ولا من بعيد. ولكنَّ القضية تتعلق في جوهرها بقرار يعود بنا القهقري لأسباب يمكن توضيح بعضها هنا.. فحكاية كون القرار ينسجم مع الشريعة الإسلامية ويمثلها تماما هي مجرد ادعاء أو قول قد يصيب وقد يخطئ ويحتاج لمناقشة؛ ذلك أنَّ الدين له نصوصه التي تمثله وله طقوسه ومفرداته وأصوله.. وليس كل من قال أنا أمثل الدين أو المذهب صدق أو أصاب.. وليس كل قرار أو نص اجتهاد قال أنا النابع من الدين والمذهب صار أصلا منه أو حتى فرعا عليه…
فلطالما شهد التاريخ أدعياء زعموا ما زعموا فكان الوضع في الحديث النبوي وكان التشويه في التفسير والقراءة وأقلها ما شهدناه من إمكان حصول الخطأ من مجتهد حسن النية.. ولذا فلا داعي لعجلة كاتب ليضع نفسه موضع الافتاء ويكفـِّر عن يمينه قبل شماله؟!! وليس لنا إلا المناقشة والحوار الهادئ لنصل إلى الأفضل الذي يتوافق مع مجتمعنا العراقي..
أما مجتمعنا فلم يكن عبر تاريخه إلا تركيبة من التنوع الديني والقومي والمذهبي الطائفي وكثرما تميّز بتفتحه وميله للحوار الموضوعي ولتبادل الرؤى وتفاعلها فعاش في لقاء وتداخل وسلام.. واجتماعيا تزاوج المسيحيون والمسلمون وغيرهم وتزاوج السنة والشيعة, ولم يكن من محدِّدات تستطيع وقف خيار العراقي والعراقية بل شجّعت أوضاع مجتمعنا مثل هذا التداخل ووفر وجود قانون متنور الغطاء الموضوعي المناسب لمعالجة كل حالة بخصوصيتها…
فما الذي اعترض عليه المتنورون؟ في الحق لم يعترضوا على دين بالتحديد أو مذهب ولكنهم رأوا في فكرة تطبيق قرار 137 عمليا دعوة صريحة لتثبيت الطائفية وتشريعها بعد أنْ كان القانون والمجتمع يسعى لوقفها.. ففي ظل تطبيق التشريع يجب اللجوء لمذهب بعينه ومن ثمَّ لتحديد شرطي وقفي على زواج بين شيعي وسنية أو سني وشيعية على سبيل المثال ..
فإذا كنّا في ظل القانون المدني لسنا بحاجة لِشرْطية قاسية في الأمر ويمكن مساعدة الجيل الجديد على تجاوز المحددات السلبية التي قد تعترض سبيل لقائهم [ ونحن في ظرف معروف من ضرورة تشجيع هذا اللقاء في ظل عزوف خطير عنه]. وما أقصده هنا بالتحديد يتعلق باختلاف رؤى العوائل التي ينتمي إليها أطراف اللقاء, وهي اختلافات موضوعية مقبولة في نطاقها الخاص ولكنها عندما تعترض سبيل إشكالية اجتماعية كالتي ذكرناها ستتحول إلى معضلة تثير أحقادا طائفية وتحوّل الاختلافات إلى خلافات وتنتقل بها إلى مرحلة شطر المجتمع والتحريض على طائفية مقيتة …
وهذه أول المشكلات : مشكلة تعزيز الطائفية وفتح الأبواب على مصاريعها. بلى سيكون سهلا لزواج شيعي وشيعية أو سني وسنية تطبيق المذهبية عليها, ولكن كيف سيتم تحكيم أمر زواج سني وشيعية وشيعي وسنية؟ فعلى وفق تصورات شرط العمل بالتشريع المذهبي قد يتحول الأمر إلى تحريض وحث على تعزيز فلسفة الانقسام الطائفي ولست أدري ما حجتنا في مثل هذا الأمر عندما سيكون السؤال بخصوص الزواج بين من ينتمي إلى ديانتين مختلفتين؟ ولماذا سنعود قسرا إلى فلسفة وليست الأخرى؟؟
الاعتراض الآخر أيضا لا يضع نفسه بمجابهة مع الدين الإسلامي ولا أي دين آخر بل يركز على كون القرار المعني يُخرِج الأحكام من القضاة الشرعيين الموجودين في المحاكم التي تعدّها الدولة إعدادا متكاملا, إعدادا يقرأ الشرائع وفلسفاتها ويدرس على أساتذة متخصصين بالعلوم الفقهية والقوانين المدنية ولا يمكنه العمل من دون ضوابط يحميها المجتمع وقوانينه.. في حين القرار المعني (137) يضع مثل هذه الأمور التي تخص حياة الإنسان العراقي ومصيره بأيدي أفراد لم يتم تأهيلهم على وفق قوانين حتى مجتمع القرون السالفة المنصرمة..
ففي الماضي كان المجتمع بتركيبته المعروفة يحتمي بالنمط التقليدي وفيه القبيلة أو العشيرة تتحكم بالقوانين وكان يترشح عن القوانين القبلية رؤساء عشائر لهم وزنهم وعلى وفق شروط موضوعية تستجيب لظروف ذلك الوقت ومعطياته.. ومع ذلك لم يجد الإسلام نفسه ما يجعله يقبل بالعشائرية فألغاها.. وإذ نحترم الوضع التاريخي وإفرازاته .. ينبغي لنا أنْ نقول إنَّ مرحلتنا المعاصرة ليست مرحلة ما قبل عشرة قرون. ومن ثمَّ فقوانين مرحلتنا وإفرازاتها ليست كما كانت آنذاك. وهكذا فالمؤسسة القبلية العشائرية ليست كما كانت ولا دورها نفسه قبل عشرة قرون. ولا يعترض على هذا حتى العشائريون من ذوي الوجاهة الحقة وذوي العقل الراجح الذين يماشون بعض التراجعات وبقايا القبلية التي تمَّ إعادة تخليقها وتصنيعها في ظروف النظام الدكتاتوري الظلامي المهزوم..
ونحن نتفق بالتأكيد على وجود ثغرات حقيقية خطيرة في المؤسسة العشائرية القبلية ما لا يسمح لمجتمعنا المتحضّر أنْ يسلّمها رقبته لتحكم وتفصل في أمور وقوانين جوهرية. فما مؤهلات شخصيات وُجِدت لظرف طارئ على رأس مجموعة مقابل مؤهلات القضاة المتضلعين الاختصاص؟ وهل يقبل عاقل أنْ يحتكم لمؤسسة فيها كثير من الاخفاقات والسلبيات إنْ لم نقل أشياء أبعد؟ وهل سيفضلها على تسجيل مدني مكتوب يحفظ له الكرامة والمستقبل والمصير؟
وهل سيكون صحيحا العودة للمخاتير ورجالات عشائر وقبائل وبعض المرجعيات غير المؤهلة؟ وهل تغطي هذه المؤسسات التقليدية عراقنا أم أننا سنعمد إلى تصنيعها ؟ ولماذا نعيد تخليق مؤسسة رفضها الإسلام دينا ودنيا؟ ولمصلحة مَن يجري تعزيز الخلط بإضفاء القدسية على شخوص خارج المرجعية الدينية مثل الشخصيات القبلية العشائرية؟ وما جاورها من مؤسسة ترجع بنا إلى الخلف قرونا بعيدة؟ أليس هذا من الجاهلية؟ وهل يمكن لهذه المؤسسة أنْ تغطي الظروف التاريخية المعاصرة وتمكّن دولتنا الحديثة من مجاراة العصر ومتطلباته؟!
إذن نحن أمام أمرين خطيرين حسب القرار المستعجل الذي يمثل رؤية سياسية ظلامية وليس له صلة بالدين الحقيقي.. ذلك أنَّه يكرس الطائفية في حين القانون المدني لا يمنع شخصا من تسجيل أموره الشخصية حسب مذهب وتصور واعتقاد.. وهو يعود بنا إلى الخلف حيث عهود الظلام عندما يريد تعميد المؤسسة القبلية التي نُهينا عنها منذ فجر الإسلام… ويمكننا أنْ نضيف أعتراضات أخرى من قبيل معالجة خصوصيات إنسانية وحقوقا فردية بتعميم يصادر حقوق الأفراد وحرياتهم في الخصوصية بالتحديد.. وغيرها اعتراضات كثيرة أخرى…
وهذه إذن, هي حقيقة أمر القرار 137 الذي يبدو ظاهريا التزامه بالتشريع الإسلامي فيما حقيقته وجوهره تكريس وتعميد لأمرين يتعارضان مع الفكر الإسلامي الذي جاء تنزيها لمجتمعنا من كلّ عنصرية باسم العصبية القبلية مرة وباسم العصبية الضيقة الجديدة التي تتحول بمذاهب الدين من الاجتهاد للتسهيل والتمكين إلى التعقيد والطائفية التي تقضي على كل منطق للتوحد واللقاء وأقل حدّ فيه أنْ يتحقق اللقاء الديني والقرار يتعارض مع التلاقي والتوحد لأنهَّ يمثل تعميد الطائفية والتفرقة فيما المذهبية الأولى جاءت اجتهادا يمثل التفتح وشتان بين الاثنتين..
إذن أمر الإسلام السياسي المتصف بالمغالاة والتطرف ليس إلا تضليلا ومخادعة في برامجه بالخصوص هنا القرار الذي نحن بصدده وليس مما يتعارض بيننا أبناء الشعب العراقي جميعا وممثليه ونُخبـِهِ المثقفة والمتخصصين من قضاة وحقوقيين وكتّاب وعلماء وأساتذة ومراجع دينية متفتحة, أقول ليس مما يتعارض والدين رفض قرار أصدره شخص قد يصيب وقد يخطئ فلماذا يخطئ الشعب وعلمائه ومتخصصيه ويكون الحق مع فرد أو أفراد؟ الحق مع الذي يثبت الصواب في رأيه وبمناقشة مدلول القرار المعني في بعض جوانبه كما ورد هنا وجدناه بعيدا عن الحق قريبا من الباطل في منعه مؤسسة احترمها المجتمع عقودا بل قرونا من الزمن ليأتي طرف فيقول كل تلك الأجيال على خطأ وقراره الصواب ووحده يمثل الدين وكل الآخرين أعداء الدين كفرة زنادقة.. لماذا؟ لأنهم لا يوافقونه على بيع كرامة بناتهم لأدعياء مؤسسة قضت نحبها منذ عهد الإسلام الأول ويريد إعادتها بإسقاط القدسية عليها بقراره المفبرك..
إننا أبناء الوطن الواحد لا يمكننا إلا أنْ نقف سويا لتثبيت عهد التفتح والديموقراطية التي تحترم الأقلية وتنصفهم ولا تصادرهم كما سيحصل مع غير الكتابيين وتنصف الأقلية من أهل الكتاب وتنصف الأقلية من المذاهب الإسلامية لأنّ الصواب والخطأ ليس فيه أقلية وأكثرية ولكنّه يحتكم إلى المنطق العقلي وإلى حقائق الحياة ومعطياتها ..
ولن يعدل بين العراقيين إلا قانون يوازن بينهم جميعا ولا يفرض على طرف منهم سلطة طرف آخر لمجرد قول قوة سياسية أنّها هي التي تمثل رؤية الأغلبية.. فلا علاقة بين حق الأغلبية في تقرير مسارات الأمور وبين فلسفة حزب وسياساته. فقد لا ترى تلك الأغلبية فيه ممثلا أو معبرا عنها.. ومجال للزعم الأبدي في الوقوف على رأس طائفة أو مذهب.. كما إنَّ للخلط بين التمثيل السياسي والمرجعية الدينية إمكان للتضليل من جانب بعض السياسيين. أوَلا يخطئ السياسي أم أنه معصوم لمجرد ادعائه تمثيل فئة أو طائفة أو مذهب؟؟؟
دعونا من تهريج السفهاء [أقصد بعض كتّاب المواقع الجدد] ولنحتكم إلى العقل فمن عاد إليه (العقل) كنا معه فيما سنتوافق عليه في النهاية ولا عصمة لأحد منا بل نحن في حوار حتى نصل إلى الأصوب والأفضل لكل أبناء شعبنا بتنوعاته وفئاته ومن غير ضيم وظلم واستلاب ومصادرة بقوة سياسية أو بادعاء تمثيل دين أو مذهب …
لنتجنب التطرف والمغالاة والاندفاعات ولنتوقف وقفة المتأني المتفكر لتهدئة أوضاع بلادنا بدلا من إشعال نيران أحقاد كفانا من حرائقها الكثير.. ولنا بعد ذلك عودة للموضوع حتى نلتقي على البيِّن المختار من علمائنا الأفاضل ووجهائنا الكرام وبمناسبة هذا الذكر فليس كل من كتب من صبية الزمن المتأخر ومن أزلام التضييع والتحريض على الفتنة ما يمكن أنْ نقف عنده. ونعمة مواقع الإنترنت قد تتحول لنقمة إذا ما قال شخص في أطراف بلادنا أين الصواب من بين آلاف ما يُكتب ويُرسَل إليه؟ وعلينا جميعا مسؤولي النشر التدقيق ولنتذكر أيام التجريح والتعديل للتوثق من علمائنا…. فهل تدبيج العبارات وتأطيرها مما يقع في قيم التعديل السامية أم أنها حملة تضليل بخلط الحابل بالنابل؟
فيا أبناء شعبنا نحن لسنا بعيدين منكم ولسنا كما يقول المثل العراقي خرجنا (من فطر الحائط) ولا تغرينا أمثلة بلاد غربة لا تنسجم مع بلادنا بل نحن في صميم إرادة شعبنا العراقي بكل أطيافه وألوانه وفئاته وطوائفه ولا ننكرنَّ على طرف من شعبنا حقه الكامل من غير منقصة وتبعية لفلسفة طرف آخر.. فجديد حياتنا أنْ يحيا العراقي مواطـَنـَةَ َ يفخر عبرها بعراقيته التي تحفظ له كل حقوق الإنسان تامة كاملة وبعدل ومساواة وحرية…