واقع الحال الذي نجد فيه العراقي اليوم يتمثل في تعقيدات كان أولّها بدأ في أمسه يوم تعايش مع الموت الزؤام ونظام الطاغية صدام. فلقد انهارت آنذاك كلّ القيم وحوصرت قيم الإنسانية وروح البشر المتحضِّر بين أضلع الفرد الواحد ومُنِع على تلك القيم المدنية الراقية السامية من الظهور والتداول بين طرفين اثنين. ومُنِع اجتماع اثنين على رؤية فأُحبِط الوجود الإنساني وتمَّ سجن مبادئه الصحيحة…
اليوم مثلا ينتحر الأب لأنَّه لم يعُدْ يسطيع العودة فارغ اليدين لأسرته بلا طعام يسد رمق الحياة ولو على نقص وجوع وتقتل الأم نفسها لأنَّ الحرّة لا ترضى أنْ تعيش إلا من نظيف ثمن خبز أطفالها ومن نظيف وحرِّ ثديها.. ولكي لا تترك أطفالها للتشرّد مُخلِّفةَ َ صيّاع الشوارع وأبناء الجريمة, تقتلُ أطفالها معها… وفي عراق النفط والفوسفات والتمور والخيرات من أبنية وقصور وجسور نقرأ خبر مَنْ تموت وجنينها لأنَّ المستشفى لا تستقبلها بلا أجور وأسعار وأرباح. وكان لنا يوما طب ورعاية وعلاج وكان الناس عندنا يعيشون ملايين وملايين بل عاش من شعوب الأرض بشر كثير على نهر الذهب العراقي..
لايجد كثير من الأخوة الذين مزقتهم سنوات التشريد وشتات المنافي وسيلة للوصول إلى عوائلهم والاطمئنان عليهم بل هم لا يجدون وسيلة اتصال .. فلقد رأى [المقاومون] الأشاوس أنَّ من أبرز مهمات المقاومة الوطنية ضرب الهواتف والاتصالات وفعلوها منذ اللحظة الأولى للحرب وهم لم يتوقفوا ولن يوقفوا مسيرة البطولة التخريبية؟[ولا عجب]
ولا يسطيع المنفيين إيصال دعم لأهلهم لأنَّ تلك المقاومة الباسلة تجد أنَّ السكة الحديد والجسور والطرقات وأشكال المواصلات الداخلية والخارجية تعود لصناعة قوى الكفر وعليهم إعادتنا لركوب حمير الإيمان؟ [ولا عجب]
وليس من قدرة على المواساة والمشاركة لضيق ذات اليد في المنافي التي أزهقت أرواح آلاف من أبناء بلد الحياة وصاحب الخلود الكلكامشي وما زالت تأكل منهم. و ليس من حقوق البشر العراقي ما لحقوق الحشر عند الأجنبي فهنا في بلاد الأصقاع النائية المهم أنْ يتسوّق الفرد لكلبته أو قطتها أو كلبها أو قطته ولذا فهم لا يملكون الوقت للنظر في المشكلات التي تصنعها حكوماتهم للمنفيين؟ [ولا عجب]
وليس لابن الداخل اليوم أنْ يرتاح بعد عقود الحروب والكوارث والمآسي. ولأنَّ طرز الحرب الصدامية لم تعد قائمة, فبديلهم هو (المقاومة الإجرامية عفوا قولوا معي الوطنية) قبل أنْ يقرأ لي وغد عفوا مقاوم ويرسل لي طردا من الكتب عفوا من متفجرات نسف برئ الحيوات و طاهر الجنات وبيِّن الآيات وصادق الأنفس والكلمات؟ [ولا عجب]
مَنْ يقف خلف الحرب الجديدة؟ ليس هو السؤال الأول. ولكنَّ السؤال الأول ما مصالح الناس؟ هنا لايختلف اثنان من عامة العراقيين على أنَّ الجائع حدَّ الموت ليس له مصلحة بغير ما ينقذ رمقه ويسدّ بعض جوعه.. فهل من رأي ثانِ ِ؟ والنازف جرحه حدَّ الموت ليس له مصلحة بغير ما يوقف نزفه ويشفي جرحه.. فهل من رأي ثالثِ ِ؟ والمريض بأخطر ما جلب الأمس واليوم من أمراض فتاكة حدّ الموت ليس له من مصلحة بغير ما يعطيه دواء ينقذه من حافة القبر.. فهل من رأي رابعِ ِ؟ والذي صار إلى عراء الصحراء القفر ليس له مصلحة بغير ما يستر أهله ويحميهم من غوائل اللا سكن واللا مأوى.. فهل من رأي خامسِ ِ؟
أيّ هؤلاء الأوبا… من أصحاب الفتاوى الوطنية المجيدة في قراءة مصالح الناس خارج هذه المصالح التي تحكيها حياة بسطاء العراقيين وعامتهم.. من أين لكم المأوى؟ ومن أين لكم المواصلات؟ ومن أين لكم الاتصالات؟ ومن أين لكم الدواء؟ ومن أين لكم الغذاء من أطايبه وأنواعه؟ ومن أين لكم الكساء من نفائسه وأشكاله؟ وهلا ّ غيّرتم محور ما ترى أعينكم العمياء عمّا تملكون لتروا قليلا من مآسي البشر وترعووا عمّا توغلون فيه من جرائم!! هنا العجب
أيّ هؤلاء الأوبا… من أصحاب المبادئ الإلهية المقدّسة في قراءة مصالح الناس خارج آهات الثكالى وأنين الأطفال ومواجع النساء في مخاضات ولادتهن وأوصاب الآباء وأحمالهم.. من أين جئتم بتلك القدسية على مبادئكم؟ ومَنْ أعطاكم شجرة الانتساب إلى الله؟ ومَنْ منحكم رتب الآيات المؤلَّهة التي إذا قالت ديس على الكرامات والحيوات من أجل ما قالت من كلمات؟ أليس لكم بصيرة عقل أو حس ضمير ولو من حافات البعد والنهايات لتنتهوا عن غيِّكم!! هنا العجب
أيّ هؤلاء الأوبا… من أصحاب مبادئ وطنية القصور وعزّ دهور الطغاة المتباكين على مجد غابر وحشيتكم وهمجية أسيادكم في قراءة مصالح الناس خارج حاجتهم لمستشفى تفجـِّرون ومحطة طاقة تدمِّرون ومزارع خضر تخرِّبون.. من أين جئتم بتصاريح وطنيتكم ومبادئها الكاذبة جهارا نهارا فلا طفلا يبكي ثدي أمّه التي تقتلون! ولا شابة تتحسّر شبابها الذي تغتصبون! ولا كهلا تسرقون أمنية لقاء ابنته المنفية التي انتظرها سنوات العمر! ولا أ ُمّاَ َ تغتالون رسوم الأبناء من حدقات العيون التي أجهدها عبثكم بالمصير! هنا العجب
مصالح الناس في لقمة خبزهم وحبة دواء تمنحهم حيواتهم التي تغتالونها بإطالة أمد ألعابكم الصبيانية التي لا تنتمي لا إلى دين إله يُعبَد! ولا إلى رؤى رسالة تُقدَّس! ولا إلى مبدأ إنساني صادق يوثق به ويؤمن به بشر! في زمن صار فيه العميان هم الذين يبصرون لنا.. والطرشان هم الذين يسمعون لنا والخرسان هم الذين ينطقون عنا..
يالـَـبـِئسَ هذا الزمن الأغبر الذي نحتكم فيه إلى تصويت الجهلة في أي طريق نختار: أمقاومة التخريب والمخربين أم سدّ رمق الجوعى وإيواء المشردين وعلاج المرضى وإنقاذ المستصرخين؟
لا أستطيع اليوم تحت قبضات الموت أنْ أبحث بهدوء المختبرات العلمية وصمتها الذي ران علينا دهورا وطمس منّا الفكر النيِّر, لأنَّ الموت اليوم لا يهددني فردا بل الموت الذي يهدد الناس جمعا وحرما ولكن ليس هذا (الحرما) في الحرم المقدس حقا؛ إنَّهم يريدوننا في حرمهم حميرا لهم ونساؤنا وبناتنا حريما لهم..
وليس بعد كلّ هذي المآسي حليم عليم لعلاج ذاك الجزء السقيم الذي صار أمر إزالته وبتره القرار السليم… لقد راح زمن الفطنة والحكمة وعادنا زمن اللكنة والعجمة والرطنة فلا صوت يعلو على صوت جهلة القوم وحضيضه.. أليست هي الديموقراطية التي يجب أنْ نعود بها لقوة المجموع (والقوة هنا قوة القبضايات الرعاع والسوقة وعصاباتهم) أما إذا أردنا محاكمة مجرم منهم فإنَّ صراخا يعلو أين العدل وأين العدالة؟ لا يمكن إعدام مَن قتل وتسبب في قتل مئات الألوف وملايين وإلا سقط العدل ذلك هو منطق سادة شارع اليوم …
إذن أيها السادة الكرام لا مصالح للناس في يومنا إلا تلك التي تخضع قسرا وكرها لمبادئ [المقاومة الوطنية] وها هم صبية ربّاهم الطاغية على الشموخ والكبرياء لا يتحسرون على أيام مجدهم بل يفرضون الطريق الذي يعود بالحياة القهقري لسواد عيونهم وعيون ملذاتهم التي لا يريدون التخلي عنها ولا الاعتذار عن جرائم جرّوها علينا ..
أما مصالح الجوعى ومصالح المرضى ومصالح الجرحى في أرواحهم وكراماتهم فلـْتذهب وليذهب كلّ أولئك إلى غياهب سراديب أكواخهم .. ولكن عذرا لم يعد الزمن بقابل للتراجع واللف والدوران فكل أنّة طفل أو شابة أو كهل وليس كلّ روح تزهق ستعلّق بأعناق جرائمكم واليوم اليوم قبل الغد يجب أنْ يُدفعَ الثمن غاليا لاندفاع واستهتار وغيّ تتبعون وتلك غضبة الحليم واستجابته لدعوة مظلوم…