أهمل النظام الدكتاتوري المقبور متابعة قضايا المواطن العراقي في غربته وليس هذا بمستغرب لأنَّه هو السبب الذي دفع بهم إلى محارق الغربة وسبلها المميتة وعذابات البقاء في مجتمعات تعاملت مع العراقي انطلاقا من مصالحها ومواقف الحكومات وتصوراتها السياسية فكان (ومازال) العراقي ورقة لعب سياسية داخل تلك البلدان وفي كثير من الأحيان تغافلوا عن تطبيق قوانين حقوق الإنسان حتى أبقوا عراقيي المنفى الاضطراري سنوات غربتهم في ضوائق الأمَرَّيْن..
ومئات ألوف العراقيين اليوم في حالة من وضع الرقاب تحت تهديد سيف الإعادة بطريقة لا تلغي حقوقهم حسب بل تضعهم في مآزق جديدة وتُدْخِل العراق نفسه في دوامة الحيرة بأمره أمام سيل من العائدين بغير استعداد كافِ ِ وضمان لأوضاعهم الإنسانية. وكأنَّ هذه الملايين المهددة بالإعادة القسرية بلا سند يقف وراءها لتأخذ حقوقها العادلة ولكي لا تكون عالة على الوطن في محنته القائمة..
المشكلة مركبة معقدة فالأمر لا يتعلق بالإعادة القسرية ولكن بالقدرات الاستيعابية للبلاد وبظروف التعامل مع هذه الإشكالية إنسانيا وبعقلانية تأخذ بعين الاعتبار جميع الأطراف.. سواء منها ما خصّ المنفيين وأبناءهم ومتطلباتهم الإنسانية.. أم عراق الاستقبال من عوائل قريبة لها صلات بالعائدين أم من عوائل لها صلة غير مباشرة من مثل سكنة البيوت أو ما شابه ذلك.. أم بالحكومة وحلولها للمشكلات الراهنة (وهي حدِّث ولا حرج) فالكل يعرف الوضع الكارثي الراهن.. أما بخصوص بلدان المنفى فهي في جميع الأحوال الطرف الأفضل حالا في المعادلة …
ما المطلوب في الظرف القائم؟ الأمم المتحدة على استحياء طلبت من الدول المعنية التريّث.. والآن مجلس الحكم يطلب هذا التريّث.. والدول المعنية تناور وتحاور يوميا والمطرقة شغَّالة والعجلة تدور بأنينها في رؤوس المنفيين الذين تأقلم أبناؤهم بعد عقود من السنين العجاف على مجتمعات المنفى..
الحلّ في أوليّاته يتطلب احتراما لقوانين حقوق الإنسان ومن ثمَّ فلابد من تشكيل لجنة متخصصة في وزارة حقوق الإنسان العراقية تلتقي ممثلي الجاليات العراقية وترى تصوراتهم وتقرأ الحلول المقترحة منهم لأنَّهم أصحاب القضية وهم الذين عانوا والحياة حياتهم ولن يعوضهم عن المفقود من وجودهم البشري أحد من الأطراف التي تتخذ بحقهم القرارات..
كما ينبغي مناشدة الدول المعنية التفاوض بالخصوص من منطلق تلك الحقوق التي اُسْتُلِبت طويلا .. وعلى الدبلوماسية العراقية استخدام الأوراق المتاحة سواء من خلال قناة المنظمات الإنسانية للأمم المتحدة أم من خلال العلاقات الجديدة واستنادا إلى السياسة الجديدة للسلطة العراقية المتحررة من استغلال الإنسان العراقي وزمن البؤس والموت..
وبمناقشة الإشكالية سنجد أنَّه من الضروري وضع قراءة وطنية خاصة ووضع الآليات المناسبة لمتابعة الحل الموضوعي الذي يضمن أفضل الاستجابات لمصالح العراقيين في الداخل والخارج. وسرعة تشكيل الهيئات الدبلوماسية بخاصة في البلدان التي تعترف بمجلس الحكم وتتعاطى معه أمر حيوي ومهم لدعم أوضاع المنفيين العراقيين…
إنَّ تقديم التصور العراقي اليوم سيتيح للمنفيين حالة من الاستقرار النفسي أمام ما يدور حول أوضاعهم .. وهو ما سينعكس كذلك مستقبلا على حالة التفاعل بين هؤلاء والسلطة السياسية العراقية الجديدة مثلما يفتح القنوات الجدية للحوار منذ الآن بصدد نوع الحلّ الذي ستستقر عليه الأوضاع .. والتصور المعني يجب أنْ يكون (بمعنى يُقدَّم) بيد الأمم المتحدة من جهة وبيد الدول المعنية من جهة أخرى ..
ولعلَّ تلك الدول ستستجيب لموقف المنظمات الدولية ولموقف حازم من الحكومة الجديدة التي يجب أنْ تكون أولوية الدفاع عن المواطن العراقي أولوية لا تتقدم عليها أسبقيات أخرى.. كما أنَّ المنفيين أنفسهم يجب أنْ يكونوا على صلة مباشرة بممثليات الدولة العراقية وبالتعرّف إلى الرؤى النهائية عبر الصوت العراقي وليس عبر تلاعبات الآخر بمصيرهم…
من جهة أخرى على الوضع الجديد أنْ يأخذ بعين الاهتمام دراسة احتمالات عودة كلّ هذا العدد الهائل على المدى المنظور في ظرف سنة أو سنتين أو أكثر بجدولة العودة (عندما تكون حالة محسومة) بالاتفاق مع منظومة دول كالاتحاد الأوروبي فإذا كانت الأموال تخضع للجدولة فلماذا لا يخضع للجدولة الوضع الإنساني وهو أثمن ما في الوجود؟ أم أنَّهم يعتقدون أنَّ العراقي ما زال بلا ثمن كما كان في عهد الطاغية؟!
فهناك أمور تتعلق بدراسة الأموال المصادرة والوظائف والسكن ومدارس الأبناء ونوعيتها, إلى آخر قائمة المطالب والحاجات الإنسانية الضرورية … كما ينبغي للوضع الجديد قراءة إعادة الكفاءات العراقية لوضعها في الإطار الخدمي الذي يستوعب معالجة زخم عودة الأعداد الكبيرة التي تحتاج إلى تدريسيي الجامعات والاقتصاديين والمخططين والإداريين وغيرهم. إذ أنَّ عودة عامة العراقيين في وضع النقص المخيف للكوادر العليا في المجتمع سيؤدي إلى خلق مضاعفة خطيرة للمشكلات الناجة عن عودة المنفيين كتلة واحدة ..
إنَّ التخطيط الستراتيجي للمسألة ضرورة أكثر من ملحة لما للإشكالية من مردودات عميقة الأثر في الوضع العلااقي العام إذ في الوقت الذي نعالج مشكلة نوقع أنفسنا في مشاكل بمجابهة مفاجأة كالإعادة القسرية الشاملة.. وبغير دراسة موضوعية كافية تغطي نواحي العقدة التي تركها لنا نظام الدمار والخراب.. كما أننا سنستورد مع مواطنينا تعقيدات لا مناص من التعاطي معها اليوم قبل أنْ تأتي إلينا بصيغ مختلفة سلبية الصورة إذا أهملناها اليوم..
دعوة لكلّ المهتمين بشؤون حقوق الإنسان للالتفات للأمر وهي دعوة للحكومة العراقية المؤقتة لوضع التصور والمعالجة التي ترتقي إلى مستوى المسؤولية وتستبق الوقائع بوقت مناسب لأنَّ الموضوع ليس موضوع حقوق بشرية للمنفي بل إشكالية تجابه العراق كاملا وسنكون مرغمين على التعاطي مع الآثار السلبية فهل من دراسة وافية ووقفة جدية ملائمة بمستوى حجم القضية؟
إنَّ مسائل من نمط بقاء كثير من الأبناء في بعثات دراسية لاستكمال دراساتهم الجامعية الأولية أو المتقدمة ومن نمط خلق الفرص المؤاتية لدراسة الأبناء في مدارس شبيهة للحالية التي يواظبون فيها بهمة عالية ومن نمط توفير الوظائف المناسبة التي سيفقدها الآباء والأمهات وقد لا يوجد لها بديل مناسب في الوقت الحاضر .. إنَّ مسائل من هذا النمط ليست صعبة إذا ما أخذنا الاحتياطات اللازمة ووضعنا الخطط الملائمة..
كما يمكن التفاوض مع الحكومات المعنية لتغطية كثير من الحاجات المطلوبة في أثناء عمليات الإعادة وهو الأمر الذي ينبغي أنْ يخضع للمناقشة المستفيضة مع الجهات ذات العلاقة..
كلماتي هذه دعوة ليس إلا فلتخط الأقلام المختصة القراءات المناسبة بالخصوص ولتوجَّه إلى الحكومة العراقية وذوي العلاقة اليوم قبل الغد وعلينا أنْ نكون في حالة من النظر إلى جميع ما يجابهنا اليوم وغدنا بنظرة شمولية متكاملة تجنِّب شعبنا بكلّ فئاته مزيدا من الآلام التي طفح الكيل منها وبها…