خوفي على وطني تلك هي العبارة التي يردّدها اليوم عديد من أبناء شعبنا. في ظرف تدلهم فيه الخطوب وتستعر النيران ويتزايد اندفاع مشعلي الحرائق وتيرة.. ولكنَّ الحقيقة تكمن في كون اللحظة الحاسمة عادة ما تكون شديدة الوطأة والفعالية كثيفة حاسمة وما يبدو من تصاعد التخريب إنما هو حالة من لفظ الأنفاس الأخيرة لأشرار الاستغلال وبؤسهم.
ولكنّني من غير إفراط في التفاؤل أقول : لا تأتي النتائج بلا عمل ومثابرة وأيّ خطأ قد يكلّفنا من المسار باتجاه خلاصنا النهائي إلى الوقوع في براثن الأسوأ لمدى زمني آخر قد يطول ويزداد مأساة هذه المرة.. لكنّه ليس التخويف وإضعاف العزائم وإنّما التحذير وتعميق اليقظة وعلو الهمّة ما نشير إليه هنا..
عديد يقول: وماذا بعد؟! لقد أمسكنا بالدكتاتور فهل انتهت التفجيرات وأزمة الوقود والغذاء والكهرباء والماء والدواء.. ويبدأ تعداد المشكلات بالخطوط العريضة والتفصيلية. والسؤال في الواقع عندما يتضمن العبارة الأولى (خوفي على وطني) وعندما يرفق بأمل الخير والتحول إلى الأفضل يؤخذ على محمل جدية الحوار والدخول إلى مناقشة مابعد تلك المرحلة السوداء من حكم الطاغية, وهكذا أخذت ما رمى إليه أحد الأفاضل في مقالته “وماذا بعد؟”..
ولكنَّنا إذ نجيب عن السؤال فإنَّنا نؤكد على مسؤولية خطيرة لمثقفينا في رسم مشاريع البناء والإعمار بعيدا عن التغني والرومانسية.. ففي بلادنا حركة من بقايا الدمار عنيفة المقاومة لأنَّها تستند إلى العنف والتخريب وما أسهل أنْ يخفي مجرم بائس متفجراته في حقيبة تلميذ مسكين أو في جيب طفل لا يدري من أمر (اللعبة القذرة) شيئا أو بأحابيل أخرى .. وهم يرسلون هداياهم هذه ليس إلى مَن يقف حقيقة وراء خراب بلادنا بل إلى أبناء شعبنا أنفسهم ولكم في إحصاء ضحايا تلك الأفعال الإجرامية دليل. . وفي أكثر تحسينات صورهم (الـقبيـ…) يزعمون استهداف (المحتل الأجنبي)..
لقد توقفت أقلام بعضهم إذ يريدوننا أنْ نتوقف معهم لنسبِّح بحمد أبطال التفجيرات الذين يقاومون الاحتلال ليل نهار! ولننسى أيَّ شئ آخر لأنَّ كلّ شئ لديهم معطل سوى الاحتلال الذي أطاح بالدكتاتورية وأنهى حقبة دولة الرعب والمطاردة والقتل والاغتيال والاغتصاب والاستلاب دولة العدوان على الإنسان والجيران.. دولة استباحة كلِّ الحرمات .. دولة المقابر الجماعية وغياهب السجون وموائد العربدة والفجور..
ولسنا بمنشغلين بكلِّ تلك الجرائم فلقد طوينا صفحاتها السود وبدأنا مرحلة البناء وهي ليست أغنية أو موالا بحسب سخرية زميل لأنَّ الشعب أدرى بالمطلوب في هذه المرحلة القاسية فالبناء (ومصاعبه وتحدياته) لا يعرفه غير الصادقون الشرفاء من أبناء الشعب. ونحن لا نريد أنْ نشغل شعبنا عن استقلاله وهو جزء أساس وجوهري من مهمات البناء لصالح شعبنا ولكنَّنا أدرى أيضا بما نريد من تركيزنا في كلّ لحظة تاريخية على مهمة من المهمات..
لقد ركّزنا على بناء مؤسسات الدولة لحظة هزيمة مؤسسات الطاغية وإخلائها الميدان, وليس من تلك المؤسسات التي نشير إليها لا الجيش (الذي سهر على راحة الطاغية حتى لحظة بحث فيها عن ذاك المهزوم فلم يجد له أثرا) ولا المؤسسات القمعية (التي تخلّت عن الأمن منذ أنْ كانت في موقع الكرباج على قفا أبناء الشعب المغلوب) لا نشير إلى تلك المؤسسات التي حتى لو بقيت لما عرفت كيف تترك مهامها التي تدربت عليها لتقوم بمهمة وقفت ضدها طوال عقود من الزمن..
واليوم نركّز على مهمة جديدة تتعلق بوضع دستورنا وتهيئة مستلزمات حكومة انتقالية نزيهة وأنْ ندقق في أمرنا من الاختراق والاندساس والانشقاق والتقاطع. وإذا ما استطعنا أنْ نحقق من مسيرتنا بوعي وبيقظة ما يريده شعبنا بعقلانية بعيدة عن الطيش والمزايدة والعنف فإنّنا حينها نكون نجحنا في تجنّب حرب طاحنة أخرى.. فلطالما وقفنا ضد حرب أوقَعـَـنَا فيها الطاغية.. وليس أمر محاولة تجنيب بلادنا كوارث الحروب والعنف الدموي بأمر جديد ولا خيانة أو تهاون أو عدم معرفة بالأولويات وإنَّها السياسة وعلومها وفنونها..
ولكلِّ مرحلة مهماتها, فلا خوف على وطننا إذا ما نجحنا في تعبئة شعبنا في الخطى المناسبة لمسيرته. أما تلك الأصوات التي تنطلق صباح مساء ببوق الحرب فليس ما يهمها استقلال البلاد وإلا لاستمعت لحاجة البلاد اليوم إلى ضرورات كان يمكن لو أنَّ قوانا الوطنية الشريفة تخلَّت عنها لوقع عراقنا في كارثة لا تنتهي بحصد أرواح الملايين بل بما لا يتصوره منطق عاقل أو مجنون..
فحتى المجانين يلتجئون إلى الطعام ساعة يجوعوا فمن كان سيطعم الـ 25 مليون عراقي إذا ما عرفنا أنْ لا دكان ظلّ مفتوحا بُعَيْدَ هزيمة مؤسسات حكومة الطاغية؟ ومن سيعتني بصحة هؤلاء؟ هل كان قليل المساعدة التي جاءت بلادنا لحظتها بكافية لسد حاجة آلاف أو حتى مئات الألوف ؟ أم كان العراقيون أنفسهم يقتحمون الحياة من أجل يومهم وغدهم وكانت قوات (التحالف) وسمِّها ما شئت [فهي قوات احتلال ولا حياء من واقع أمرنا هذا الذي لا يد لنا فيه, إنَّها من مخلفات الطاغية التي ستزول ولكننا لسنا بحاجة للاصطدام والعنف معها وتجاهها] سمِّها ما شئت ولكنها قامت معنا بردم هوة الموت التي كاد شعبنا يذهب ضحية لها يوم تركها خرابة ذاك الطاغية الذ ي توعَّد كما لا يمَّحي من الذاكرة بألا يغادر قبل أنْ يتركها أرضا بورا بلا بشر ولكن شعبنا ما زال هاهنا وسيعيد الحياة والربوع!!!
ولن أتساءل بعد ذلك إلى متى ستحرص تلك الألسن على لوك ما تلوك من أقاويل بائسة لا تصبُّ إلا في خانة أحلام عودة أيام الطغاة التي غرفوا من أموالها بلا طائل وهو كلّ ما يملكون.. المال ولا عقل ولا أخلاق المال الذي استهتروا به وجاء اليوم الذي ينتهون به عن استهتارهم بثروات الشعب وحقوقه. أما لماذا لا أتساءل فلأنني أعرف أيّ ذراع توجع هؤلاء ولماذا يصرخون؟ إنّها أحلام لابد أنْ تنتهي إلى الأبد إذا ما استثنينا النزاهة التي أشرنا إليها..
خوفي على وطني إذا ما تركنا الالتباس والوهم والضلال والتضليل يخدعنا ويوقف مسارنا على بوابة الخطيئة حيث ننشغل في دوامة العنف .. أيها الصارخون (من شرفاء القوم) فينا وماذا بعدُ؟ تعالوا بهدوء لنعمل ونفكر ونخطط ونبني ولتكن بردا وسلاما علينا سويا بلا دماء أخرى وبغير عنف أو قسوة أو تخريب وكفى بأوصابنا التي انقضت ثمنا دفعناه. تعالوا لحياة جديدة ..
خوفي على وطني إذا ما استمع من شبيبتنا ومن نسائنا ومن أبنائنا إلى ذاك الصراخ لأنَّ فيه من التمثيل ما يستغل طيبة الأنفس وهواها ومصداقيتها وطهرها .. وخوفي عليه أكثر إذا ما صار من عقلائنا مَن يحكي بهذه اللغة. ولكن لنا من الثقة عميقها بإرادة واعية ثابتة وآمال واسعة بغد أفضل وإلا فلا خيار لنا غير الأمل والعمل.. و هل لراشد غير هذا الخيار؟؟
نحن نحتكم إلى العقل والموضوعية فهاتوا ما عندكم من جدل ونقاش ومن بديل موضوعي وليس من عبث واستخفاف بمصائر الناس .. وإلا تحولّت عبارة (خوفي على وطني) إلى ذريعة أو شماعة أو حجة للتخفي وقناع يتستَّر وراءه أناس مشبوهو التوجهات لا يخدمون إلا أنانية عليَّ وعلى أعدائي بعد أنْ انتهت عهودهم وولَّت أزمنتهم إلى غير رجعة..