تتعرض العائلة العراقية ضمن ما تتعرض له من ضغوط إلى ضغوط الواقع الذي يحيط بها من جهة القيم التربوية. فالعائلة العراقية جاءت بفلسفة أخلاقية تشتمل على مفردات لم تعدْ المجتمعات الصناعية ــ التي التحقت بها في هجرتها نحو منفاها ــ تتعاطاها بعد أنْ انتفت قيم المجتمع الاقطاعي الزراعي الفلاحي.. مجتمع القرية والمحلة أو الضاحية وما إلى ذلك؛ حيث تحمل المدينة العراقية أو تتشابك مع القيم الفلاحية القروية والرعوية البدوية بمقادير متباينة, ولكنها تظل في حالة احتفاء بهما لما لهما من سيادة في المعتقدات والتصورات الشعبية المكوِّنة لمنطق العقل العراقي.
وفي الوقت ذاته فإنَّ هذا الوصف لا يتعارض مع الجذور الحضارية وللانفتاح الإنساني لهذا العقل ومكوناته, فهو يأخذ أفضل ما في التنوعات الحضارية التي يتصل بها اليوم ليضعها في إطار فلسفة أخلاقية توجِّه آلية علاقاته الإنسانية مع الآخر… على أنَّ العائلة العراقية ومكوناتها ليست دائما في حالة من اكتمال شروط تفاعلها مع الآخر بل هي تقف اليوم بين توجهين أولهما (انفلاشية) التداخل مع الآخر حدّا يمحو الشخصية أو (تزمت وانقطاع) عن المحيط حدّا يمحو تلك الشخصية من زاوية أخرى…
ولعلَّ حالة مواجهة الواقع الجديد كان قد وضع العائلة وأفرادها في اصطدام معه مسببا ارتباكا وتشوّشا في ردود الفعل بين تمسك قد يفضي إلى تزمت يتعارض مع منطق التفتح الإنساني الذي يحمله العقل العراقي واندماج بعيد قد يؤدي إلى كوارث أخلاقية تتعارض مع القيم الإيجابية المتسامية بالإنسان في الفلسفة الشرقية لعراقيينا…
وما يعمِّق المشكلة هو روح الفردية التي تُفرَض بمنطق آلية المجتمع الجديد الذي تدور قوانينه بلا رحمة على الجميع حتى مع أولئك الذين لم يتمّ بعْدُ حسم ملفات انضمامهم لهذا المجتمع الذي يعيشون في كنفه منذ أعوام عديدة.. حيث يكون الانقطاع عن التواصل \ الامتداد الحضاري والوقوف منفردا في ميدان يتعارض مع قيم الشخصية يجعلها تغرق في فيض الآخر الطاغي بفضل إشكالية الأصل والفرع؛ في هذا التوازن بين [الوجود] لمجتمع و[ضيافة] لفرد هو قطرة في بحر.. في لججه يمكن للسباح الماهر ولسفينة انقاذ أنْ يخرجا منه بسلامة ولكن هذا لا يستقيم في نموذجنا, فلا كل فرد بعارف بالشروط الموضوعية والذاتية لهذا الصراع.. ولا بسفينة الانقاذ وهي هنا الجالية عندما تتكون وتطوِّر آليات عملها المشترك وتشكِّل مؤسساتها المدنية النوعية وهي في نموذجنا العراقي لم تكتمل بعد لتلعب دورها أو أنَّها بحاجة لدعم كبير..
هنا نضيف دور الإعلام وهو اليوم إعلامهم بالكامل في وقت إعلامنا قطرة في محيط.. ودور الإنترنت والسينما والمسرح والشارع والمنتديات وحتى المدارس وفصولها بكل ما في هذه المفردات من عوامل رخيصة وسلبية حينما لايرى منها أفراد العائلة وبالذات الأبناء الجدد إلا الزوايا الرخيصة .. ولا يأخذون منها لأسباب عديدة إلا مفردات ومعطيات هامشية غير ذات جدوى أو أهمية هي لتفريغ عقولهم ولضياعهم أقرب منها إلأى بنائهم وهذا كله مما يخيف العائلة ويضعها تحت حالة الضغط والحصار الذي يشلّها عن التفكير الإيجابي الفاعل وعلى التفاعل مع الصحيح..
اليوم مع انقضاء عهد الدكتاتورية وعودة الاتصال بالوطن بشكل طبيعي يمكن للعاءئلة أنْ تحظى باهتمام مختلف تساعدها على عودة تماسك الشخصية ووضوح الهوية وروسخها وأن يتم الالتفات إلى معالجة حاجاتها بالخصوص.. ويمكن للدعم الرسمي لإعلام الخارج وتعزيز دور جمعياتنا ومنظماتنا وصحافتنا ودورياتنا ومنافذ الاتصال المعرفي والثقافي والإعلامي أنْ تلعب أدوارها الحيوية في تجاوز تلك الضغوط أو التخفيف منها وحلّ كثير من الإشكالات والمعضلات التي تجابه عوائلنا..
وفي الوقت الذي نعرف فيه حالات من النجاحات التي أصبناها من تفاعلنا مع الآخر, وفي الوقت الذي نعرف فيه أنَّنا قد أفدنا كثيرا من المكتسبات ويعود هذا إلى جرأة شخصيتنا وتفتحها .. في القوت نفسه نجابه الصعوبات والضغوط ومنها ما لم ينفتح له اليوم طريق التغير والحلبل وضع ضغوط جديدة تخص التعامل مع أيّ احتمال من احاملات العودة ومن ثمَّ التغيير من جديد في بيئة أبناء العائلة العراقية وما يمكن التعاطي معه في ضوء أية متغيرات غير ملائمة تحمِّل العائلة واجبات لا تستطيع الإيفاء بإجابتها من دون مساعدات جدية خطيرة الشأن من قبل المسؤولين عندما تكون في الغد العاجل قضية مطروحة مباشرة على مجتمعنا وأسرتنا العراقية التي قد تُكرَه على عودة في توقيت غير مناسب وفي ظروف غير مؤاتية..
لعلَّ هذه القراءة مجرد تنبيه على قضية منتظر من المتخصصين معالجتها على المستويات كافة السياسية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية…