اغتيالات تستهدف رموز الشعب العراقي, من قيادات سياسية واجتماعية وثقافية وعلمية.. والتساؤلات مَنْ وراء تلك الاغتيالات؟ وما مستهدفاتهم من وراء إمعانهم فيها؟ وما المديّات المتوقعة؟ وما كيفيات المجابهة؟ ولإجابة أيّ تساؤل لابد من التعرّف إلى ضحاياه.. فمَنْ يهمه قتل وجه ثقافي واغتياله؟ لماذا يكون الباحث العلمي الأستاذ الجامعي هدفا لرصاصة الموت؟ ما الذي يبرِّر لهم قتل عميد لكلية الهندسة؟ هل لعلوم الهندسة ما يؤسِّس للسياسة والفكر ويدخل في معمان غليان حواراته وتفجرها حدّ القتل والاغتيال؟
مَنْ يقف وراء اغتيال زعيم (متنوِّر بالتحديد) في مرجعية دينية تدعو لنبذ الفرقة ووحدة الكلمة وتعاضد الاجتهادات ولقائها ؟ ومَنْ يقف وراء اغتيال زعيم (معتدل بالتحديد) في مرجعية سياسية تدعو لتوحيد الصفوف وتفاعل الرؤى والحوار والتعاون والتحالف؟ مَنْ يقف وراء اغتيال الوجه الاجتماعي الذي يدعو للتحرر والانعتاق من مصائب أمراض الجهل والتخلف؟
إنَّ أمثلة الاغتيالات الأخيرة ومنها بالذات اغتيال عميد كلية الهندسة هو ما يؤكد بالمطلق أنْ ليس غير ممثلي الجهل والظلام هم الذين يقفون وراء هذه العمليات الإجرامية النكراء. إذ لا يروق لهؤلاء أيّة معالم لنور المعرفة والعلم, ولا يمكن لمصالحهم التوافق مع الجهود العلمية بل هي على النقيض من ذلك بالمطلق. وهم بذاك لا يسمحون في قراراتهم ومبادئهم لبصيص شمعة أنْ يخترق نورُهُ عالمَنا. وهم لا يرون في أساتذة الجامعة وفي الأكاديميين وفي المتنوِّرين من الساسة ومن غيرهم إلا مشاعل تزيح العتمةالتي يعتاشون عليها كخفافيش الظلام ومحبيّ مشاهد الدم والجريمة لأنَّها أدوات حيواتهم المَرَضية الساديّة.
أما إذا عالجنا مستهدفات هذه الظاهرة, فيمكن أنْ نقول: إنَّ المباشر منها يكمن في ما تعكسه هذه الاغتيالات من وأدِ ِ لعملية بناء حقيقية تجديدية راهنة؛ ومن إثارة للقلق والاضطرابات والفوضى عبر ما تحققه جرائم استباحة دماء شخصيات الأساتذة والعلماء والساسة والمفكرين المتنورين الذين يحظون بتأثير إيجابي كبير في محيطهم وهو ما يجعلهم هدفا مباشرا لجرائم الفتك والتقتيل والاغتيال إمعانا من الظلاميين في استهداف المجتمع في أثمن ثروة أدبية معرفية فيه.
وحالة الاضطراب ومنع الاستقرار هي أرضية هؤلاء المباشرة .. أما مستهدفاتهم البعيدة فهي وقف أية عملية للبناء الحضاري وللتقدم العلمي وللتنوير الفكري. ومنع أية نهضة اقتصادية اجتماعية وهو ما يأتي من تعطيل الحياة العامة وشلِّ قدراتها التنموية عبر إشاعة الجهل وتمكين التخلف الاجتماعي والتقاليد السلبية ومن ذلك مثلا قعود المرأة عن دورها الفاعل والحقيقي في البناء ومن ثمَّ تعطيل نصف المجتمع في ظلال حالة الترويع الإرهابية وانعكاسات استهداف العقل العلمي للمجتمع بما له من آثار عرقلة تنمية وإحباط هِمَم وتثبيط عزائم…
ولتحقيق كلّ ذلك فإنَّ المديّات المتوقعة لهذه الجرائم الهمجية لن تقف عند حدود فردية وهي سائرة في فعالياتها خبط عشواء مَنْ تُصِب في هوجاء عنفها واندفاعات تهورها.. إذ لا ضابط في حدود ما يُستهدَف في المدى البشري لحركاتها سوى الفتك بأيّ صيد أو (فريسة) فهم في غاب وحشيتهم ليسوا ممّن يستخدم مصطلحا إنسانيا في صراعهم؛ وعليه فقد لا يكون رئيس الجامعة وعميد الكلية والقائد السياسي والإمام المتنور المعتدل هم وحدهم المستهدَفون بل سيندفع المدى إلى الطلبة والطالبات .. ألم نرَ ذلك في وقوف متزمتي التطرف يحملون هراوات منع الطالبات من دخول الحرم الجامعي؟! ألم نرَهُم يقتلون باعة في محلاتهم ومتاجرهم؟ ألم نرَهُم في يختطفون ويروعون الحياة اليومية للنساء والشيوخ والأطفال؟ وأما المدى الزمني المُستهدَف فقد يتراجع لحظة أو برهة لظرف ما ولكنَّنا ينبغي أنْ نحذر ونتذكر ألوان التخفي وأساليب الغش والمخادعة وهي صفات لازمة لوجود هؤلاء ولا حدود بعد ذلك لمديات الجريمة الشنعاء لا مكانا ولا زمانا ولا مستهدفات بشرية…
ولنا أنْ نعرف في كيفية المجابهة أنَّ ما يوقف قوانين الغاب ويستبدلها فيضع قوانين الإنسان وحضارته مكانها ليس غير مزيد من تمسّك بالعلم والمعرفة وبقادته وشموعه من الأساتذة والعلماء والأكاديميين الذين يخوضون معركة انعتاق العلم وحرية المعرفة ومن الفقهاء والفلاسفة والمبدعين والأئمة المتنورين الذين يخوضون معركة انعتاق الفكر وحرية العقل… ولنا أنْ نعرف أنْ ليس من بناء اقتصادي ولا اجتماعي ولا تطور ولا تقدم ولا رفاه ولا خير بغير شموع النور ومحو الظلام .. وبغير أمن واستقرار .. وبغير دفاع متين عن حقنا في الحياة ضد الموت وآلته القذرة آلة الإرهاب من جماعات وأفراد مأجورين أو مستميتين في مصالح مرَضية دنيئة رخيصة.
سيقف الطلاب حول أساتذتهم, وسيقف العمال مع قادتهم, وستكون الشعائر المقدسة هي تلك التي استخلفت الإنسان ليعمِّر الأرض لا يخرِّبها وليبني ويربي لا ليهدم ولا ليقتل ويفتك بالأنفس البشرية بغير أدنى وجه حق. وسيقول الناس جماعة مؤتلفة واحدة هاهم قادة المجتمع وبُناتُهُ: العلماء والأساتذة والمتنورون جميعا بين شغيلة الحياة ومدوِّري عجلتها وخالقي خيراتها فيُطرَد الطغاة والمجرمين وتنتهي مديّات أفعالهم المخزية. لكنَّ ذلك لن يتمَّ بغير تضحيات وآلام اضطرارية مؤسفة نعمل من أجل أنْ يتجنبها شعبنا ووطننا بمزيد من اللحمة مع مشاعل النور والتنوير…