بُنيَ العمل الثقافي, ومنجزاته كذلك, على استجابته للشروط الحضارية التي انتمى إليها ودخل في لبنات بنائها ونهض بمسؤولية إشادتها والدفع بها نحو مراحل وحلقات أكثر تقدّماَ َ وأرقى مستوى. ولم يندرج طوال مراحل المنجز الثقافي في تاريخ البشرية أيّ من تلك الأعمال التي جاءت على هامش المرحلة أو ما يمكن أنْ نقول عنه تلك المنجزات التي تنتمي إلى مزاجية انفعالية وإلى روح فردي متمرِّد على مفهوم الانتماء بمعنى آخر شاذ على قاعدة الانتاج الثقافي بوضعه العام. إذن كان المنجز الثقافي قائماَ َ على حالة من الاستجابة لدواعي الضرورة التاريخية وحتميتها أو بقول آخر مشروطاَ َ بمحيطه وقوانين ذلك المحيط.
من هذا المنطلق بالتحديد نهض المثقفون دائماَ َ باستشراف حركة الواقع المختفية عن أنظار الإنسان العادي من جهة وشخَّصوا اتجاهات تطوره مساهمين بعمق في التأثير على تلك الحركة من جهة أخرى؛ فحرَّكوا جوهرها عبر إبداعاتهم التي ظلّت باستمرار خالقةَ َ للأمل ومحدِّدة للأهداف والمسارات الحضارية التي توجهت إليها البشرية. ومن هنا يتطلَّع العراقيون إلى مثقفيهم في هذه اللحظات الحرجة من تاريخهم لكي ينهضوا بمهمات تستجيب لما تفرضه وتحتمه الضرورة التاريخية القائمة.
على أنَّ من أخطر ما نجابهه اليوم هو كثير من الأمراض التي وردتنا أما من ضغوط المرحلة القاسية ـ التي خرجنا للتو منها ـ حيث نشطت الدكتاتورية على قتل كلِّ ما هو إيجابي في حركتنا الثقافية العراقية في إطار التخريب الكلّي لمجتمعنا؛ وأما تأتَّت من اختلاط مع ثقافات أخرى فإلى جانب الإيجابي والرائع ممّا أخذته, أُصيبت بالردئ والهامشي المرَضي المنتمي إلى إفرازات أمراض النُظُم الاستغلالية التي عاش بعض مثقفينا في كنفها حيث منفى الشتات الذي فرَّخته مطاردة قوى الظلام والطغيان في بلادنا بالأمس القريب. ومن تلك الأمراض نشير إلى المزاجية في العمل والفرْدَنَة التي تُعنى بالتعبير عن الذاتي المحدود في الوقت الذي تختاره لتحرِّك فيه نوازع تلك الذات المنغلقة المتراخية وليس في الوقت الذي يستدعيه الواقع وتفترضه الظروف المحيطة. والمزاجية في تداعياتها تسجّل خيارها لموضوعها [أو حتى كما يعبِّر مثل هؤلاء اللاموضوع إذ لا يعترفون للمنجز الثقافي وللإبداع بمضمون أو محتوى أو موضوع] استجابة لذاتية منغلقة شديدة الحساسية لتأكيد عزلتها عن الواقع وما يتطلبه ذلك الواقع وما يريده من الثقافة والمثقفين.
وبخلاف ذلك فإنَّ واقعنا اليوم يحتِّمُ فعلاَ َ ثقافياَ َ يفتح نوافذ الأمل لحاضر نيِّر وغد مشرق, ويحدِّدُ معالم اليوم والغد وتفصيلاتهما متلمّساَ َ أفضل السبل لاختزال آلام نجمت عن أمس معقد ورهيب في حياة الثقافة العراقية.. وهكذا فإنَّ كثيراَ َ من الضرورات تنتصب أمام قامة المثقف العراقي العالية. ولعلنا كنا قد قرأنا سويا بعضاَ َ من المهام العاجلة التي ينبغي النهوض بها على مستوى عراقيي الداخل والخارج وتكافلهما وتعاضدهما في معالجة تلك المهام.
ومن جملة ما ينبغي علينا في الأيام القريبة المقبلة ضرورة إنجاز عقد مؤتمرات الكتّاب والصحفيين والفنانين والمفكرين التي صودرت طويلا.. لكننا اليوم في فسحة أمل الديموقراطية المنتظرة لبلادنا لا يمكن أنْ نقبل لأنفسِنا التراخي وأنْ نترك أنشطتنا المفترضة فينا نحن معشر الثقافة جميعاَ َ أنْ تجري بمزاجية وانفعالية أو حتى لا تجري؟! وجميع أوراقنا اليوم هي بأيدينا سواء منها تلك التي تقرأ تجربة الأمس أو تلك التي تضع أمامنا مهام المرحلة المقبلة. والجديد الذي نبتغيه هو أَلا نكتفي بالاستماع إلى أنفسنا بل أنْ نتسع صدراَ َ لأصوات أخرى من مستهلكي الثقافة والمهتمين بشأنها من الذين تعنيهم حركة الثقافة وعلى صلة غير مباشرة بها ولكن فاعلة ومؤثرة, والذين يمكن أنْ يقدِّموا أو يقترحوا على المثقفين والمبدعين تصورات نافعة محرِّكة لمختلف شؤونهم. إنَّ كلَّ هؤلاء مدعوين للمساهمة الجدية ولأبعد فعل وأعمقه وأقواه, وبأوسع مشاركة بخاصة لأولئك الذين تحدثوا عن ضرورة الانتقال نوعياَ َ استجابة للمرحلة الجديدة التي نحياها ونعيشها…
إنَّ عامة العراقيين بانتظار تلك المساهمة وتلك المشاركة وبانتظار فعل إيصال صوت الثقافة والمثقفين لأوسع حضور لمثقفينا ومبدعيهم في جوهر الفعل الحضاري اليوم ولحضور حقيقي واسع للمهتمين بشأن الثقافة العراقية ولمشاركتهم في قراءة انتاجنا الإبداعي الغني المتنوع وليدلوا بما يشاؤون من تصورات ورؤى تفعِّل ولا تعطِّل, تقدِّم ولا تعرقل.. لا مجال لإضاعة الفرصة تلو الأخرى ولا مجال للقعود على الرصيف ورفع العقيرة في القربة المقطوعة. لننزل إلى ميدان الثقافة ميدان العمل ولنُنحِّي جانبا شأن المزاجية .. الوقت لن ينتظر أحداَ َ قاعداَ َ والضرورة ستعقبها ضرورة مختلفة جديدة؛ ولات ساعة مندم! فليس من لقاء بين المزاجية والضرورة.. ولسنا من هوامش الحضارة وفعلها ولسنا من طوارئها وفضلاتها بل مثقفنا وثقافتنا ضاربة الجذور في عمق التاريخ الإنساني, هي (ثقافتنا) جوهر مسار الحضارة بالأمس واليوم وغداَ َ, وهو (مثقفنا) عمودها وطودها الأشمّ.