يَحْفَلُ تاريخُ وادي الرافدين وسِجلّ شعوبِهِ بتلك الاحتفالاتِ الدورية التي طالما تغنَّتْ فرحاَ َ بأيامِ العملِ والحصادِ والنجاح في مأثرة قامَ بها أبناءُ مدنِ الحضارةِ الممتدة على ضفافِ النهرين الخالدين وبمواسمِ الخير واحتفالاَ َ بإنشاءِ مدينةِ أو بناء صرح فيها أو سور حصين لها .. وكثيرة هي مناسبات الاحتفالات المقدسة عندهم, حيث كانوا يجتمعون في الساحات العامة ليمروا بعدها في الطرقات الرئيسة حتى يصلوا مكان الاحتفال المقصود. لقد مرَّتْ على أبناء سومر كثيرا من النكبات ومسببات الألم والمعاناة, لكنهم دائما وأبدا كانوا لايتوقفون عند لحظات المآسي والكوارث, فسرعان ما يُنهون مراثيهم ليبدأ عندهم مسار العمل ومن ثمَّ الاحتفال بحصاد يومهم.. ولعل ما يسجِّلُ لنا ذلك وجود أغاني العمل وكثير من أغاني الاحتفالات وأناشيدها ووصفهم لكرنفالات الفرح الجماعية التي يشارك فيها الكبار و الصغار, النساء والرجال, الفقراء والأغنياء…
لم تنتهِ تلك الكرنفالات الاحتفالية العامة حتى بانتقال السلطة من سومر إلى بابل وآشور وأكد؛ لماذا؟ لأنَّ شعوب سومر لم تنقرضْ في وادي الرافدين مع وفود الهجرات السامية أو غيرها .. وإذا كانت حضارة سومر العراقية القديمة قد خضعت عسكريا لقوى أخرى فإنَّها من جهة ثانية أخضعت تلك القوى القوى الوافدة لحضارتها وفلسفتها الإنسانية المتمدنة المتفتحة. من هنا ظلت الاحتفالات الكرنفالية الجماهيرية قائمة بالطريقة نفسها التي كانت تُمارَس عند أبناء سومر. ولنا من بعض الشواهد الحية في عصرنا خير دليل على انتماء مهرجانات اليوم الجماهيرية لمواكب الأمس الموصوفة في بطون كتب التاريخ والحضارة.
لقد كان لمثل هذه الاحتفالات الجماهيرية الكرنفالية أهميتها في الحياة العامة والخاصة. ولقد مثلت فلسفة حياتية متكاملة يُراد من ورائها الوصول إلى ملء حياة الفرد والمجتمع كذلك بالفرح وشحذ الهمم والمعنويات بما يرفع منها ويضعها دوما في قمة النشاط والحيوية حتى ليمَّحي كلُّ ما يعتور تلك الحياة من ألم وينتهي كل عوامل المعاناة .. تلك الإرادة على الإبداع الجمالي وعلى ملء حياتنا بالقيم الإنسانية السامية هي ما ينبغي أنْ نعمل على التحضير له اليوم ليكون جاهزا في الغد القريب ولا ينبغي التراخي والفتور في إعطاء الأهمية القصوى لمثل هذا الأمر لأنَّنا في الوقت الذي ننظر فيه إلى يومنا وما فيه من كُرَبِ ِ ينبغي أيضا أنْ نتطلع إلى غدنا فحياة الإنسان ليست قيمة مادية يمكن أنْ تُعَوَّض إذا ما مضت وانقضت وهي في مزيد الكربة والألم إذا ماظلت مجرد مُناضَلة مع متطلبات اليوم العادي وتفاصيله الروتينية القاتلة… ولا يمكن لنا أنْ نخلق فرديا الفرح وسط الكآبة ولابد من خلق جوّ عام يتفاعل معه الناس جميعا وينفعلون فيه حتى ليُسْعِدَ الجارُ جارَه والصديقُ صديقَه والأخُ أخاه في مثل ذاك الاحتفال الكرنفالي وليس بغيره ما يمكن أنْ نفيَ حق الأنفس في راحتها وسلواها ولا حق المدنية في احترام إنسانيتها التي تقتضي مثل هكذا فعل خير وبناء أنفس مرتاحة قوية الشكيمة ولنا في ماضينا الدليل ومنه نأخذ ونستكمل ما نريده اليوم.
إلى إدارة البلاد وإلى مثقفيها وفنانيها وأدبائها ومبدعيها: فهذه تذكرة لكي تتشكل لجنة تحضيرية اليوم قبل الغد لتأخذ على عاتقها وضع التصورات المناسبة لمثل هكذا كرنفالات ويمكن للمنظمات الجماهيرية والنقابات والاتحادات وحتى الأحزاب السياسية [بل من واجبها] أن تنهضَ باحتفالات سنوية لعيد صحافتها ولأعياد إنجازات إعادة إعمار المدن والمؤسسات ولأيام العمل وليكن لتاريخنا العريق صورته البهية فيكون كرنفال أيام سومر هو العيد الذي يذكِّر العراقيين بتاريخهم الحضاري الحقيقي ويمثل الاحتفال المركزي السنوي حيث تشارك فيه كل قوى الشعب وفئاته بغير استثناء ويبدأ بمسيرة كرنفالية كبرى مرسومة الكيفية من عدد من المخرجين والمبدعين المسؤولين عن خلق التصور الذي يُستعاد به التاريخ من جهة ويؤدى بكيفية معاصرة تعود على المحتفلين بالمسرة والفائدة .. ويكون لمدننا السومرية التاريخية احتغالاتها في محافظاتها وهكذا.
إنَّ لمثل هذه الفعاليات الكرنفالية الاحتفالية الجماهيرية أهمية روحية وثقافية كبيرة في حياتنا اليوم وسيكون لها وقع كبير لدعم التوافق بين الناس وتنوعاتهم المختلفة وستوفر مزيدا من الطمأنينة والسلام الاجتماعي وتمنع من ظهور التوجهات الظلامية التي تتقاطع مع الفرح ومع جوهر الحياة الإنسانية؛ كما سيكون لها صداها السريع لدعوة جدية لتفعيل السياحة الثقافية وجعلها موردا اقتصاديا أساسيا لعراقنا الجديد؛ ونحن نملك أساس تراث الإنسانية ولكنّ النُظُم السابقة لم تتجه لتفعيل السياحة بالمقدار الذي يعكس خزين مابين النهرين من آثار ومعالم ومن حضارة عميقة كبيرة. فليست العبرة في وجود تلك المعالم , ولكن العبرة في كيفية تفعيل الأمر والإفادة منه بالطريقة المناسبة لتحقيق النجاح والتوفيق. إنَّ بلادنا ستئِن وتعاني تحت سياط الجهل والظلام والتخلف ومن ثمَّ لايمكن لنا بعد ذلك أنْ نخرج من النفق المظلم, فإذا نحن دخلنا ذاك النفق المعتم بأرجلنا فإنَّ طريق التخلف هو [درب الصد ما ردّ] . لذا علينا انْ نتذكر ضرورة التحضير منذ الآن بتشكيل لجنة تحضيرية كبرى أو مركزية ولجان أخرى فرعية أو تخصصية حسب الحالة وذلك للإعدادلكرنفال الفرح السومري الذي ينعقد سنويا بتفاصيل تقليدية مثل توفير الأزياء والأقنعة والموكيتات والتشكيلات من عربات وغيرها وفرق الموسيقا والرقص والآلات المناسبة وأخرى معاصرة متنوعة [ يمكن لكثير من هذه المواد أنْ تباع للعامة وللسياح وغيرهم…]. وللعراقيين الموجودين في الخارج يمكن لهم أنْ يدعموا مثل هكذا مشاريع عبر جذب وسائل الدعم المادية الكافية من خلال الشركات والمؤسسات الدولية المعنية بإنجاز هذه التصورات.
ومرة أخرى ينبغي لكلِّ القوى الخيِّرة والمتنورة الفاعلة أنْ تأخذ هذه القضية على محمل الجدية والخطورة الكبرى, لما يقف وراءها من أهداف حضارية وفكرية تؤسس لمجتمع عراقي جديد وتجذب لصالحه الاستثمارات عناصر الفائدة من أوسع أبوابها. لاتتهاونوا ولا يتلكأنَّ أحدا في الأمر فإنه مفتاح من مفاتيح الغد المشرق السعيد. وليشكِّل كلُّ حزب وكل منظمة وكل جهة معنية فريقا متخصصا بالأمر عسى أنْ تكون البداية الصغيرة فسحة تمهِّد للفعالية المنتظرة. إنَّ وسيلة الفرح يمكن أنْ يبادر بها الحي والضاحية والقرية والمدينة والمدرسة والجامعة والكليات والمعاهد وغيرها وأنْ تتوسع كل هذه الحلقات والدوائر الأولية لتصبح جزءا من الدائرة الكبرى للفرح والحياة.
برجاء إلى كلِّ جهة معنية بهذه الدعوة أنْ تقرأها بعين البحث عن فسح لراحة العراقي الذي أدماه مسير الحروب, وأُرِيدَ له أنْ يُنهَك ويُستَلَبَ راحته وسعادته وهناءه: فلنعمل من أجل السلام الاجتماعي والطمأنينة والاستقرار والفرح بعد أنْ غُيِّبَتْ عنا هذه الموارد الإنسانية طويلا. وصرنا لانرى ولا نسمع إلا أخبار العنف والمطاردات اليومية وراء لقمة العيش بل وراء الأمان .. أيها الأصدقاء أبناء الرافدين جميعا, الأمان لايُستورَد ولايصنعه لنا غيرنا بل نحن الذين نخلقه ونخلق لأنفسنا عالمَنا الذي نريد. فهل منّا منْ يريد غير راحة البال والسعادة له ولأبنائه .. للجيل القائم ولأجيال تأتي كلّ الحب والسلام والوئام, وليس ما يقع خلاف ذلك ولا نريد حتى ذكر الـ (ذلك) التي طال وجودها في ربوع سومر.