التبرير لبعض الأفعال والحقائق لا يغير من طبيعتها حتى لو قدّم ذريعة لممارستها

حول موقف بعضهم من العلوم الإنسانية ومن أهمية الثقافة والمعرفة لبناء العقل النقدي

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

توطئة: جاء في خطاب أحد الأفلام العربية  على لسان البطلة أنّ الخيانة لا تقع من المرأة وحدها بل تقع بين اثنين رجل وامرأة. وكان هذا في ردّ يراد منه ألا تنحصر المواقف ضد الطرف الأضعف في تلك الممارسة، ومن ثم غيقاع العقاب والنظرة الدونية على المرأة لا على الرجل. وورد على لسان رجل إعلام وشاعر معروف في أحد البرامج أن المرأة عندما تخون فإنها تفعل ذلك ردّ فعل على خيانة الرجل... فيما ورد في قراءة لأحد الأكاديميين المعروفين ما يفيد أن الاتساع اليوم بالدراسات الإنسانية أمر غير صحيح ولا يقع في أولوية ينبغي أن تكون للاختصاصات في العلوم الهندسية والتطبيقية الرياضية مسوغا الأمر بالحاجة للبناء.. وغذا كان للفن والأدب والإعلام وللجهد الأكاديمي حقه في تعبيره عن فكرة أو أخرى في سياق ما ورد فيه بغاية محددة؛ فإنّه من غير المسوَّغ ولا المسبب موضوعيا أن يؤول خطاب ما فيفهم خطأ على طريقة استغلال العبارات الماثورة في الأعمال الأدبية والفنية لتبرير سلوك أو للانحراف بقيمة وفحواها في المعجم الأخلاقي بالمعنى الأوسع للمصطلح اي بالمعنى الفلسفي له. وكذلك  لا يمكن تؤويل معالجة أكاديمي عالم  بأنها تقصد أن يكون البناء مقصورا على العمران المادي أما الروحي الثقافي فأمر هامشي كما يُخيل لبعضهم.. في مثل هذا الاختلاط في فهم الأمثلة والحقائق والمصطلحات القيمية والممارسات تقع محاولة هذه المعالجة وقراءتها، عساها تستطيع تقديم مطلب يتناسب والاتجاه إيجابا في استثمار العقل النقدي بنائيا بخلاف التلقي السلبي الهدمي...

 

المعالجة:

أثارني كثرةُ ما يتردَّدُ في وسائلِ الاتصالِ العامة، من (بعض) رسائل (قد) تُشيعُ ثقافةً خاطئةً أو توجهات سلبيةً في المعالجة لهذِهِ القضيةِ أو تلك. ولعلَّ مثلَ هذا الأمر يتناولُ قضايا تفصيلية صغيرة أحياناً و\أو كبيرةَ الأثرِ وخطيرة في أحيان أخرى؛ فيَمسُّ توجيهَ السلوكِ والقيم توجيهاً (ربما) يتعارضُ وسلامة المنطقِ وصوابَ ما يخدمُ احترامَ إنسانيتنا وطابعَ وجودِنا وصحة علاقاتِنا وصوابَ مساراتِها. ومما يَرِدُ على ألْسِنةِ بعضِ شخصياتٍ إعلاميةٍ أو فنيةٍ أو ثقافيةٍ ما قد يُؤوَّل تؤويلا خائطاً ويؤخذ تبريرا لسلوك أو وضعاً لذريعة يتعكز عليها من يريد ممارسة فعل أو سلوك بعينه...

بينما (الحقيقة) في وجودنا لا يتغير جوهرُ (تعريفِها) عندما يتحدث امرئٌ عن أسبابِ وجودِها ودوافع استعمالها أو توظيفها في فعل أو حراك أو بغايةٍ أو أخرى. إنَّ فحوى الأشياء ومضامين القضايا تبقى هي هي؛ ولا يبرِّرُ تغير منطق وجودها وطابعه أنّها تأتي بتوظيف باتجاه ما قد يُسمى الفعل أو ردّ الفعل. فالخيانة، على سبيل المثال لا الحصر، هي الفعل الرديء الذي ينكثُ المرءُ فيهِ عهدَهُ غدراً أو من وراء ستارِ خداعٍ  وتآمرٍ. ولن يتغير طابع ((الفعل)) وهويتُهُ من حيث هو سلوكٌ شائنٌ يتضمنُ قيماً تتعارضُ وصحة العلاقات وصوابها...

فهل من الصائب أنْ نبرّرَ في قضيةٍ شخصية فردية أم جمعيةٍ عامة الخيانةَ بالقول إنَّها: جاءت ردَّ فعلٍ؟ هل غاية الرد ثأراً أو انتقاماً تبرّرُ لشخصٍ أو طرفٍ خيانتَهُ عهداً قطعَهُ على نفسِهِ بِـ حُرِّ إرادتِهِ؟

ترِدُ أقوالٌ على ألسنةِ عديدٍ ممن يكتبُ الدراما يحمِّلها برسائل بعينها عبر شخصيات أعماله الدرامية أو في لقاءات وحوارات إعلامية من قبيل، إنَّ المرأة [أو الرجل] تخون [أو يخون] لسبب أو مبرر كأن يقول بعضهم:  الخيانة  ردّ فعل امرأة على خيانة رجل.. أو يقول غيرهم: إنَّ خيانة صديق تأتي رد فعل لخيانة سابقة من صديقهِ الآخر. وفي الخطاب السياسي والاجتماعي العام، يبرّر بعضُهم خيانته بأنَّها ردُّ فعلٍ لضغوطٍ من نمط ما؛ كخيانة جهة أو طرف للعهد فيردّ هو بخيانة (مثيلة)!؟

والتبرير يبقى مجرد (ذريعة)، لا ترقى حتى أنْ تكونَ سبباً موضوعياً في تفاعلٍ. ومن أشكال الدفاع عن التبريرات ومستهدفاتها التي نسمعُها: أنَّ الخائن يمارسُ خيانتَهُ على وفقِ قانون العين بالعين والسنّ بالسنّ! أو على طريقة الغاية تبرر الوسيلة! أو على أساس الثأر بممارسة فعل من جنس الردّ على ما جَرحَهُ!!؟

والخيانةُ فعلٌ رديء يقومُ على ممارسةِ السوءِ كسراً لعهدٍ بطريقةِ الغدر والتستر ويحصل هذا الفعل بصيغ وممارسات شتى؛ لا يخشى مَنْ يمارسه افتضاحَ أمره، لأنَّه يمارسه بتبرير أنَّهُ يقومُ بذاك الفعل ثأراً أو انتقاماً! وعليهِ فلا يغيِّرُ في التعريف (حجمُ) الخيانة. ربما يغير حجمُها في حجم الجزاء عقاباً لما اقترف الخائن، ولكّن فعل الخيانة يبقى هو هو بمضمونه وطبيعته وتعريفه.. إنه سقوط قيمي أخلاقي بالمعنى الواسع لمصطلح أخلاق أيّ بالمعنى الفلسفي بالمستوى الأعمق...

وبناء على ما تقدّم، فإنّ ما وددت عرضه هنا يتناولُ موضوعاتٍ متشابكةً.. منها ما يتعلق بدور وسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي واسعة الانتشار والوصول والتأثير وضرورة التفاتها إلى إيجاد برامج تقويمية تدرس ما مرّ ويمر فيها وعبرها.. وتحاول أنْ تضعَ حق الردّ بالمعنى الواسع للممارسة، أي بمعنى حق المجتمع عليها في تقديم رسائل ودراسات ناضجة (نقدية بنائية) سواء للدراما أم للبرامج أم لغيرهما، وإلا فإنّ كثرة الإنتاج والرسائل الجارية على مدار الساعة تمرر الغث والسمين ما يترك آثاراً سلبية في بعض الأحيان، تحتاج للتنبيه والإشارة ولو بأبسط الوسائل... وهنا لا أضع شرطاً أو مصفاة على اختيار الشخصيات والمواد الدرامية والفنية ولكنني أتطلع لوجودِ التفاعلِ المناسب الذي يقلِّلُ من التأثيرات السلبية عند وقوعها أو عند حصولها. وأتطلع إلى دور الفكر (النقدي) لدى المتلقي ليُنهي ظاهرة التلقي السلبي أو التلقي السطحي الذي يؤوّل الأمور بطريقةٍ مرضيةٍ سلبية...

بالمقابل نبقى من أجل ولادة العقل النقدي، بحاجة في مدارسنا ومعاهدنا وفي الجمعيات والمنظمات المجتمعية المدنية إلى خطاب يبني ذياك العقل (النقدي) من جهة مثلما يؤسّس لحركة قيمية ثقافية روحية واعية للتمييز بين الإيجابي والسلبي ولاعتماد الأول [الإيجابي] في بناء العلاقات الصحية الصحيحة.. وفي تجاوز مفهوم الثأر والانتقام بطريقة كل فرد يأخذ حقه بيده وبالطريقة التي يراها بمبرر العين بالعين. فالمجتمع الإنساني له قوانين وضوابط استبدلت لغة الغاب منذ أسس المجتمع القديم دولة المدينة وثقافتها المدنية وآليات إدارة العلاقات وتطبيق مفاهيم الثواب والعقاب بإرادة جمعية وبتمحيص وبأساليب مقننة مشروطة نزعت عن الإنسان حاجته للعنف وردود الفعل السلبية وحصرت العقاب بالمجتمع وسلطته وبالتشكيلات التي تمثل تلك السلطة. فيما غرست بديلا سلوكيا للحراك وللفعل الإنساني مجسَّداً بقيمِ التسامحِ التي لا تعني قطعاً التخلي عن حقٍ أو مطلب...

أما موضوع مثالِنا الذي أشرْنا إليهِ حيث الأمثال تضرب ولا تقاس، وهنا ليس حصرا ولكن نموذجاً مختاراً.. فإنّ أمر ممارستِهِ لا يمكنُ القبول بتبريرِهِ بأيٍّ من التفاعلاتٍ التي عادة سمعناها أو تلقيناها عبر منافذ الاتصال المجتمعي في بعض الطروحات (السلبية) تحديداً.. من قبيل أنَّ هذا الطرف أو ذاك، منظمات وكتلا وجماعات أو شخصيات إنسانية عينية، نساء أو رجالا،  يُعذَرون أو يُتجَاوز لهم  عن الخيانةِ التي ارتكبوها أو تبرَّر لهم، لأنَّهم يأتونها بوصفها ردّ فعل! فالحقيقة تقول: إنّ ارتكابَ الفعل السيِّئ لا يعني سوى السقوط القيمي السلوكي المرضي يتقاطع وصحيح القيم والسلوكيات..

وإذا كان صحيحا أنْ نبحث في أسباب فعل أو رد فعل لكل أمر أو قضية، وإذا كان من الصحيح أن نبحث في جدل العلاقة بين الأسباب والنتائج وبين الأفعال وثوابها وعقابها؛ فإنه من الصحيح أيضاً والواجب ألا نقع في تبرير فعل أو رد فعل بالدافع الذي حدا به.. وألا نقع بخطاب الغاية تبرر الوسيلة.. وألا نقع بمنطق غابوي يطعن تمسّكَنا بصحيح القيم وسليم السلوك...

ويبدو لي أنّ مراجعة بسيطة لفكرة ممارسة رد الفعل حتى على افتراض قبول (ممارسة سلبية) ما بوصفها محكومة بكونها ردّ الفعل المشار إليه في الواقعة، تبقى بحاجة لتدقيق؛ من قبيل ما ربما جاء ردّ الفعل فيه، بناء على أوهام أو على خديعة أو فهم خاطئ، الأمر الذي يعني أنّ الفعل الأصل، الذي توهمّ من يمارس فعلا سلبيا ردا عليه، هو غير موجود سوى في توهم أو خديعة أو فهم غير موفق، فيكون بذلك من يمارس توهما الفعل السيئ ظنا منه أنه يمارس ردّ فعل، إنما يمارس سقوطا بخديعة ورّط نفسه بها.. كأن يخون امرئ صديقا أو رفيقا أو زميلا أو شريكا أو أخا أو زوجا ويكتشف بوقت متأخر أنه قام بفعل الخيانة بناء على نميمة أو تأويل أو سوء فهم لفعل لم يفسره بدقة أو موضوعية أو لم يتأنَّ للتعرف إلى صحيح خبره، فسارع لرد فعل وورّط نفسه بخيانة أو مارس خطيئة سلوكية قيمية بحق نفسه أولا قبل الآخر أو الاخرين وقبل أن يكون مارس الإساءة تجاه محيطه أو مجتمعه...

إنّ منطق بناء أفعالنا، أو ما يسميه بعضهم جزاءً عقاباً أو ردّ فعل، بقيم سلبية أو بممارسة مرضية أو سلوكية غير صحية ولا صحيحة هو مفارقة لمنطق الصواب وارتكاب للخطأ الصريح سواء تمّ التخفي والتستر عليه أم جرى في علن أو افتضح أمره.. وبجميع الأحوال يبقى الخطأ واقعا بخلاف ونقيض للصواب والصحة والسلامة..

وإنما ينضح الإناء بما فيه. ولا يجري فعل إلا بوجود استعداد من فاعله ليأتي به أو بتوافر عناصر ممارسته فيمن يقوم به. ومن ثمّ ففعل السوء يأتي من قبول المرء بأدائه وممارسته بما لا يعني سوى قبول السقوط القيمي السلوكي. أو الانحراف نحو تبرير أفعال رديئة وهو أمر لا يرقى لمنطق سليم بأيِّ معالجةٍ موضوعية اخترنا..

وبعد، فهذا الموضوع، معالجة في العام وربما ببعض التمظهرات التي تقع في الخاص والشخصي ولكنها تبقى بمحددها الفلسفي الأوسع وبما يتناول قضايا مجتمعية في عمقها الأشمل أكثر منها في الفردي المحدود. ومن هنا فإنّ القضية التأسيسية تبقى في معطيات واقعنا قيميا فلسفيا وانعكاساته سلوكيا.. فيما يشير إلى انحسار ثقافة الإنسان ومحدوديتها حتى وصل ببعضنا الأمر إلى الاعتقاد بأننا بغير حاجة للدراسات الفلسفية السوسيولوجية والجمالية الفكرية الأدبية الفنية وتلك الدراسات المتخصصة بفروع المعرفة والعلوم الإنسانية وعند حسن الظن التعطف بمنح هذه الدراسات نسبة هامشية تقصيها عن الأولوية، بسبب الانشغال بأولوية البناء العمراني وحاجاته للعلوم التطبيقية وكأن الحياة وجودا ماديا!! أما الحاجات الروحية الثقافية فتمّ إقصاؤها وبتنا في اصطراع مع جزئيات مفككة كلما ذكَّرْنا بأهمية الدراسات الإنسانية ومضامينها انحرف عند من يقرأ هذا النداء أو تلك المعالجة نحو سؤال محدود مشخصن، هل يقصدني (فلان) بهذا (المقال) أم يقصد (علان)ـاً!!!؟  يعني أن يجري الانحراف حيث الشخصنة ووضع المعالجات بمحدد الفردي الخاص فيتم الابتعاد عن العام الذي يغنينا ويضفي الثراء لمنطق العقل النقدي الفاعل عندنا..

وما أسوأ أن يحصر المرء نفسه بالشخصنة المرضية بدل الاستفادة والإفادة من حوار يتسع للمعاني الثقافية الرحبة حيث القيم السامية النبيلة والمعارف والعلوم التي تصنع العقل النقدي وتبني الإنسان المعاصر بقيمه الإيجابية.. وما أروع أن تغادر العلاقات الإنسانية الفردية والجمعية سلوكيات مرضية سلبية تتأسس على التبريرات الرخيصة أو السطحية الفارغة.. فهلا تنبهنا إلى هذه الإشكالية المكينة، قبل أن يسود ظلام وتسود قيم غابوية للرداءة والسوء والمرض؟؟؟

وتحايا لمن وصلت إليه الرسالة بمعانيها الأعمق والأشمل والأكثر التصاقا وتعبيرا عن العام الفلسفي القيمي، واعتذار لمن لم أستطع توضيح أهداف المعالجة ومادتها بما يفي لقصور في تعبيري.. وعسانا نلتقي بحوار يصل بنا إلى الإيجابي المنشود.. وبالتوفيق والسؤدد لمسيرة التقدم الإنساني وللتنمية البشرية مكينة وطيدة فاعلة ومشهودة.