السياسةالإعلامية لبعض الفضائيات العربية ودورها التخريبي في القضية العراقية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

 

                              دأبت بعض الفضائيات العربية على التطبيل للنظام الدكتاتوري المنهار والاصطفاف معه وتبرير أفعاله وجرائمه المشينة التي مارسها بحق أبناء شعبنا العراقي, ولقد جاء ذلك منسجماَ َ مع بعض السياسات الرسمية وما تعكسه من تحالفات معروفة على المستوى العربي أو في إطار الأبواق مدفوعة الأجر من كتّاب البترودولار أو بونات النفط وما شابه ممَّن تاجر بقوت شعبنا وثروته ولهث وراء سارقيها؛ وعديد من هؤلاء تكشَّفت أسماؤهم وانفضح أمر تواطئهم بُعَيد السقوط السافر لنظامهم البائد. لكنَّ المتابع اليوم لسياسة تلك الفضائيات يلاحظ استمرارها في متابعة نهجها المعادي لمصالح شعبنا العراقي؛ فحتى بعد كلِّ تلك الأضواء والشمس الساطعة التي تسلَّطت على جرائم النظام الدموي المقبور, مارست ألاعيب إعلامية تندرج بعضها تحت حقيقة الدعوة لجرائم القتل والاغتيال فيما يقع بعضها الآخر في إطار عوامل تخريب الوحدة الوطنية بمحاولات إثارة الفتنة بين مكوِّنات شعبنا من قوميات وأديان ومذاهب وطوائف عبر تركيزها على كلِّ ما من شأنه افتعال الشقاق والاختلاف والتنافر بين أبناء الوطن الواحد. والكارثة في جريمة مثل هكذا سياسة إنَّما تتكشَّف أكثر في اندفاع مراسلي هذه الفضائيات إلى مستوى دفع الرشاوى والعمولات بغية تقويل مَنْ تلتقيهم (من عناصر هزيلة) عبارات وأفكاراَ َ تنسجم مع ما ينسجون من أهداف تخريبية.. وقد نُشِر غسيل هذه الممارسات على الملأ عبر شهود عيان معروفين لم تقبلْ إرادتُهم الخضوع لمثل تلك المساومات الرخيصة. وفي هذا المقال بعض ممّا يكشف الروح التخريبي لهؤلاء  ومن ذلك:ـ

1)   تركيز نشرات الأخبار على إبراز جرائم القتل والاغتيال ممّا يثير الرعب والقلق  ويعمِّق ظاهرة فقدان الأمن والسلم فيعزِّز هذا لهم الترحُّم على النظام المباد والتخفيف من طبيعته العدوانية الإجرامية وسيكون من تحصيل الحاصل أنْ يمثِّلَ هذا التصوير إنذاراَ َ لشعوبهم بأنَّ التغيير في بلادهم سيكون كارثياَ َ مدمِّراَ َ كما يرون في النموذج العراقي الذي يحاولون تصوير سقوط نظام الطغيان فيه بأنَّه كان اقتتالاَ َ ومذابح دموية حسب فضائياتهم وتقوّلاتها ومبالغاتها...

2)                    تركيزهم أيضا على أعمال الدمار والتخريب التي طاولت مؤسسات الدولة والمجتمع المدني وأعمال النهب والسلب وجرائم السرقة من تلك التي تمارسها عصابات الشرِّ والجريمة التي بدأت بقرار الدكتاتور قبيل سقوطه المخزي عندما أطلق سراح المجرمين القَتَلة واللصوص والمشبوهين فضلاَ َ عن المأجورين لهذه الأفعال الدنيئة التي ظلَّ مجتمعنا العراقي بمنأى عنها بل كان رفضها عاملاَ َ مهما في محاصرتها وضَعْف وجودها على الساحة العراقية.. وهكذا فهم يريدون بهذا التركيز تصوير فعل التخريب وكأنَّه حالة عراقية متأصّلة لا ينفع معها سوى سياسة نظام الطاغية الحديدية, كما يريدون إشاعة ظواهر في الحياة اليومية وتطبيع الأسماع على انتشارها واستفحالها فضلاَ َ عن كون ذلك يمثل دعماَ َ غير مباشر لتلك الجرائم.

3)                    التشويش على المصادر التي تقف وراء أفعال التخريب بغية إبقاء الجريمة مستترة غير مكشوفة المصدر؛ وهو ما يسهِّل في المرحلة التالية لإحالة الجريمة وأصابع الاتهام إلى الجهات التي يُنتفع من وراء اتهامها في إيقاع الشقاق بين أطراف الوحدة الوطنية من جهة أو في أقل تقدير لإلصاق التهمة بجهاتِ ِ بعيداَ َ عن مرتكبيها الحقيقيين من أعداء الشعب..

4)                    ومن جملة ما يستهدفون من وراء هذه السياسة هو إشاعة فقدان الأمل وروح الإحباط لدى الفئات التي وجدَتْ في زوال نظام الكبت والظلم والجور فرصة َ َ للانطلاق إلى عالم الحرية والعمل والإبداع لصنع حياتها وبناء عراقها الجديد.. لهذا الهدف وغيره فإنَّهم يُظهِرون فشل كلِّ محاولة لإشاعة الاستقرار السياسي والاجتماعي أو أنَّهم لا يسلِّطون ضوءاَ َ على أيّ من تلك الأعمال البطولية التي يجترحها أبناء شعبنا الغيارى على وطنهم ومستقبل أبنائهم بل تعمل تلك الفضائيات على التشويش على تلك الأنشطة إذا ما ظهرت للعيان  فتسلّط الضوء بطريقتها العرجاء المقصودة التي تحاول أنْ تُظْهِرها بطريقة مَرَضية كأنْ تشير إلى الطبيعة الطائفية للتظاهرات الجماهيرية أو تُبرِز انفراد جهة سياسية بنشاط بما يشير إلى كونه يأتي على حساب فئة أخرى أو أنَّها تسلّط الضوء على فعالية سلبية أو تتفق مع تصوراتها على الرغم من حجم الفعالية الصغير في وقت تطمس أية إشارة إلى فعالية كبرى تجري في الوقت ذاته وفي المكان عينه ولكنّها تجسِّد أعمالاَ َ وسياسات شعبية بنَّاءة تثير الاستقرار والطمأنينة والسلام وهو ما لايتفق وسياسات تلك الفضائيات وإلا فكيف يفسِّر المتابع المبالغة في حجم فعل هامشي وتحجيم بل تهميش أعمال البناء المميَّزة الكبرى وطمسها ؟؟

5)                    أما الكيفية التي تغطي فيها تلك الفضائيات مجريات الأمور فلا تكمن في التغطيات الإخبارية المباشرة وغير المباشرة كما في إعداد التقارير التي يحاولون بوساطتها تدعيم الأفكار التخريبية التي يستهدفونها. ولكنَّها كذلك تتضح عبر البرامج المتنوعة التي تقدمّها فمنها اختيار الشخصيات المنسجمة في تصريحاتها مع مستهدفاتهم وهم يعملون من أجل ذلك على شراء الأصوات كما فعل النظام المقبور أو أنَّهم يتلقفون عبارة هامشية من بين كلّ ما تتحدث به الشخصية المستضافة ليبرزوها ويشدّدوا عليها وينتقلوا سريعاَ َ إلى فقرة تالية قبل أنْ يسمحوا بأية تعديلات في الرؤية والتصور... وهم يقاطعون أية أصوات لا تروق لرؤاهم ولا يلتقون إلا بخيارات خاصة فإذا هم التقوا بممثل جهة مغايرة عمدوا للإيقاع وللمحاصرة بعوامل ضيق الوقت وبالتركيز على أسئلة لطالما نُبِّهوا إلى ضَعف مستويات الإعداد للقاءات المذكورة مثلما حصل مع عديد من ممثلي الفئات السياسية العراقية النزيهة. وغير اللقاءات والحوارات هم يختارون الأفلام الوثائقية التي كثرما تمَّ تسجيل بطلان معطياتها وتزويرها وكذبها المفضوح إلا أنَّهم يعوّلون في إعادة مثل تلك الأفلام القديمة على ضعف الذاكرة وعلى انقطاع الجيل الجديد بخاصة في العراق عن تلك المرحلة حيث كان التعتيم الإعلامي والمنع والمحاصرة هي السياسة الرسمية ما يجعل بعض المتابعين يخضعون لمثل هذه التشويشات المقصودة لأنَّها المادة التحضيرية الساندة غير المباشرة لتوجهاتهم التخريبية المباشرة اللاحقة.

6)                    لقد عمدت بعض الفضائيات للانتقال إلى برامج مفتوحة على الهواء مع الجمهور العراقي ووضعت قيادات سياسية معينة أمام المحك  مستثنية القيادات الشعبية التقليدية العريقة وفتحت نار التحريض على مفاهيم عراقيي الخارج وعراقيي الداخل محاولة بذر الشقاق بين أطراف النضال الوطني أبناء الشعب الواحد بمختلف ألوان ما ذاقوه من عذابات الخارج والداخل مصوِّرةَ َ القادمين من الخارج بأنّهم الذين عاشوا في بحبوحة أموال العمالة للأجنبي ليعودوا متحكمين بأبناء الداخل الذين تُرِكوا ليذوقوا ظلم الطاغية لوحدهم وهاهم يعودون اليوم ليساهموا في سرقة جديدة للشعب وثروته وليتحكموا بإرادته! هكذا يجري تصوير الأمور حيث اختلاق التهم وافتعالها!.. وفي برامج أخرى يجري التشديد على كل ما يصوّر تخلف الوعي وتردي المشهد السياسي وضَعفه وتراجعه من خلال سياسة انتقائية انتخابية مقصود من ورائها الإساءة للثقل النوعي لحركتنا السياسية وارتفاع وعيها وارتقائها إلى مستوى المسؤولية التاريخية التي تجابهها.. ولنلاحظ أنَّ تلك الفضائيات التقت بنسبة أكثر من 75% بشخصيات من العامة وعلى وفق نهج مسبق في طبيعة الاختيار ومناسبته من جهة التوقيت والموضوع والظرف العام.. وليس مستغرباَ َ أنْ تأتي بأمّي جاهل ليتحدث عن الجامعة! أو بمعمَّم ليتحدث عن الرياضة والفن وبطفل لتسأله التعليق على (المقاومة!) البطولية للأفاقين والمجرمين! وبأكاديمي لتوريطه يموضوعات غريبة عليه؟!... وغير هذا وذاك كثير ممّا تفتعله سياسة العداء لشعبنا وتصنِّعه في مطابخ تلك الفضائيات ومَنْ يقف وراءها...

7)                    بصرياَ َ لا تقدّم تلك الفضائيات غير مشاهد محدّدة من الوقائع. إنَّها لا تسجّل أعمال الانقاذ والدعم والمساعدة والسيطرة على المواقف والشدائد  وتلك التضحيات الجسام التي يقوم بها أبناء البلاد المخلصين من أجل استتباب الأمن والطمأنينة والسلام. إنَّها تقدّم لمُشاهدها من الوقائع فقط تلك الجوانب التي تزخر بالدم ومشاهد الموت وفعل جرائم القتل والحرائق والدمار وهدم البيوت والمؤسسات وتفجير السيارات المفخخة بل هي تسجل لنا حوادث الدهس والاصطدامات المرورية العادية عندما لا يسجل يوما جملة أحداث مما يروقها وينسجم مع أهداف ما تريد تقديمه. ليس في ما نرى غير رائحة الكراهية لاسمنا ولوجودنا يريدوننا كذلك, يريدوننا أن نحقد على أنفسنا وعلى ما جنته أيدينا عندما طاولت واحداَ َ من أنظمتهم ورمت به في مزبلة التاريخ؛ إنَّهم لايبكون مقبورهم ولكنهم يسعون لاهثين للثأر له ولإدامة بقاياهم وإيجاد وسائل ديمومتهم وليست وسائل تلك الديمومة سوى الدمار والموت ورائحة البارود والحرائق المشتعلة.. ليس لمشهد حياتهم من وجود حقيقي بغير تلك الجرائم؛ لذا فإنَّ نموذجهم ومثلهم الأعلى ليس غير جماعات الإرهاب وفرق القَتَلَة وعصابات الجريمة المنظمة فهم بسياستهم يروجون بوضوح لهذه الفئات المنبوذة من شعبنا المحبِّ للسلم والحرية والديموقراطية.

8)                    وممّا ترتاح إليه ضمائر ساسة تلك الفضائيات التلذذ بعرض أطفال مشوهين  أو قتلى كما كان يفعل سلفهم بالمتاجرة بجنائز الأطفال, بطريقة يقتل الشخص ويمشي في جنازته, وهو أكبر سخرية واستهزاء بالضحايا. وهم يرتاحون لتصوير أمر وجود قوات التحالف المحتلفة على أنَّها استباحة للكرامات ويُظهِرونها حالة محصورة فقط بالاعتداء على نساء العراق وبناته وحُرُمات البيوت والمقدسات وللأعراف والطقوس السائدة.. إنَّ عيون كاميرات تلك الفضائيات لا ترى غير مثل هكذا صور وهي التي لم ترَ هذه المشاهد في ظل نظام أزلامهم الساقط ولم ترَ  مئات آلاف انتهاك الحُرُمات وبيع أسرى أبناء شعبنا في سوق النخاسة والرقيق الدولي أو دفَنَهُنَّ مع مئات آلاف الضحايا الذين دُفِنوا أحياءَ َ في المقابر الجماعية التي كُشِف عنها ولكنَّ تلك الفضائيات بكلِّ عيونها التي ترصد الهامشي وتضخمه بالكيفية التي ترغب وترتأي, لم تستطِع بعدُ من رصد الجريمة النكراء المهولة التي لا يوجد بحجمها جريمة في عصرنا من إبادة للمشهد الإنساني بكامله. إنَّ كلَّ ما يهمهم عبر هذه السياسة هو ترسانة سواتر الدفاع عن وجودهم المَرَضي المخيِّم ظلاماَ َ وخراباَ َعلى وجودنا.

             

                                   في الظرف العراقي القائم لا يمكن التسامح مع أولئك الذين يبثون سمومهم عبر قنوات فضائية توجّه إلى شعبنا نيران مدافع إعلامِ ِ يستهدف فينا الروح والعزيمة بل حياتنا كاملة ثأراَ َ لهزيمة نصيرهم الطاغية ودرءاَ َ لتأثير أي استقرار لبلادنا وتطور ديموقراطي سلميّ لايمثل إلا تهديداَ َ لوجود مَنْ يقف وراء تلك المحطات ذلك الوجود البطرياركي الاستغلالي المعادي لمصالح شعوب المنطقة والعالم.. هؤلاء الذين يمثلون بسياساتهم مجاهل عصور الظلام والهمجية في تاريخ البشرية, إنَّما يأتون إلينا بسكاكين الغدر وسموم أفاعيهم الزعاف, للعرب وللإعلاميين العرب الشرفاء نقول: نحن نثق بكم وبسياساتكم النزيهة تجاهنا وإنَّنا في مسار واحد من أجل الغد الإنساني المشرق على الرغم من وجود تلك البذرة الشريرة التي تحاول زرع الشقاق بيننا ونحن نثق بأنَّ ـلك الأصوات النشاز هي من الأقلية لا الأكثرية ومآلها الانتهاء ومغادرة الساحة إلى الأبد؛ ولشعبنا نقول إنَّنا نثق بمستوى الوعي والعقل المتحضّر المتمدّن العصي على الاختراق الذي لا يثبّط عزيمته ولا يثنيه عن المسيرة التي فُتِحت بوجهه مثل هكذا تخرصات إعلامية؛ ولن تنطلي عليه أحابيل تلك الفضائيات, مثلما لن تفتَّ في عضده ولن تحبطه أو تفقده الأمل في غده الوضّاء. فإلى مزيد من الوحدة الوطنية والتكاتف وصدِّ عوامل الإرباك والتشويش ومن أجل فضحها مفردة مفردة, عبر امتلاك وسائلنا الإعلامية الخاصة بشعبنا الملئ بالطاقات في شتى مجالات الحياة المتحضِّرة المعاصرة. ولنسدَّ الطريق على بذور الشرِّ التي تحتمي اليوم في ظلالها عناصر النظام المهزوم وتعتاش بأموال السرقة والجريمة في كنف باعة الضمائر قبل الأصوات. ولتتنادى أجهزة القوى العراقية الشريفة لوضع الخطط الإعلامية الكفيلة بالردّ على مثل تلك الحرب الإعلامية الشعواء وهي حرب لا يمكن الاستهانة بتهديداتها البعيدة والخطيرة. ولننتقي لإعلامنا الوسائل والأدوات والشخصيات المناسبة التي ترتقي لمستوى مسؤولية التصدي لهذه الحرب الجديدة...

ولموضوعنا هذا بقية.

 

 

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي  و محلل سياسي

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

Website :   www.geocities.com/Modern_Somerian_Slates

2003 \ 08 \ 29      

 

1