الأقاليم والنظام الفديرالي في العراق الجديد؟

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

 

لقد جاء إقرار العلاقة الفديرالية لإقليم كوردستان في إطار الدولة العراقية تجسيدا لمخاض  طويل ولخيار الشعب العراقي بمكونيه الرئيسين الذي يمثل الكورد  جناحه الفاعل الآخر وهو المكون  الذي خرج من تجربة الأنظمة المركزية بآلام حروب ومعارك طاحنة وافتقاد ثقة لأنّ صيغ العلاقة السابقة لم يحظ عبرها بالأمان والاستقرار والسلام يوما، بقدر ما كانت أثقلته، جرائم تلك المراحل، بمئات آلاف الضحايا؛ الأمر الذي مرَّ حسمه النهائي عبر صيغة العلاقة الفديرالية...

وإذا كان تثبيت مبدأ النظام الفديرالي أساسا للدولة العراقية؛ فإنّ ذلكم جاء ليحكم تلك العلاقة التي تعرضت عبر تاريخها لشروخ الاحتراب  التي آلمت العراقيين جميعا وأوقعت المآسي والكوارث الاستثنائية في أبناء كوردستان.. فيما لا توجد حالات نظيرة لإقليم كوردستان عراقيا..  ومن زاويتَي النظر إلى الفديرالية يجري الحديث أولا عن وجودها الفعلي بالمشابهة بين إقليم كوردستان وأي إقليم مقترح جديد وهذا فهم مغلوط لطبيعة خيار شعب كوردستان للصيغة الفديرالية، فحواه عودة للتهميش وإضعاف وربما إلغاء لحق تقرير المصير بتصوير هذي العلاقة الفديرالية كأنها منحة من (المركز) يمكن إدارتها مركزيا فوقيا بالطريقة التي تراها الحكومة الاتحادية وفي أي وقت تشاء!

وهذه زاوية نظر قاصرة لمعادلة العلاقة الفديرالية لإقليم كوردستان في العراق الجديد التي قامت على حق تقرير المصير وحق الاختيار الحر، لكن بالمقابل فإنّ النظر إلى تلك العلاقة باكتمال ونضج لا يعني تمزيق أوصال وحدة أرض وادي الرافدين التي عاشت متحدة تاريخيا منذ دول الحضارة السومرية البابلية حتى يومنا ومن ثمّ فهي لا تضرب الوحدة المتينة بين شعوب وادي الخير والتعايش الاختياري المكين، بل تعمّد تلك الوحدة وتمنحها قوة ورسوخا ومنعة لأنها تتخذ من مبدأ الاختيار لا الإكراه أداة للاستمرار...

أما الزاوية الأخرى للنظر للأقاليم فهي تلك التي لا تدرك تفاصيلها القانونية وآليات وجودها وضروراتها الفعلية، ولكنها تنطلق في الدعوة إليها من بوابة الوقوف بوجه أخطاء الحكومة الاتحادية وكأنّ الحل لمجريات الأوضاع يتمثل في تقليم أظافر المركز التي باتت مخالب مؤلمة..وفي الحقيقة هذا يقع في إطار صراعات ضيقة الأفق وليس في إطار الحل. ومن أجل ذلك بتنا نرى أن كل (مسؤول) يطالب بإقليم لمحافظة أو أخرى صار يتحدث عن وجود (التنوع) في محافظته وعن وجود ((الثروات)) الوافية لإعالة أبناء المحافظة وكأنه يتحدث عن مقدمات بناء دولة بمواجهة الآخر ((عدوانيا!!))!!!؟ وطبعا هنا يقع أبناء المحافظات بين كماشتي إفراط المركز وتفريط إدارة المحافظة ويتحولوا إلى ضحايا صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل لها...

إنّ هذه المواقف توقع في مطبات سياسية لها أول وليس لها آخر؛ إنها بلا خاتمة سليمة، وهي ذاتها التي ستوقع ليس أبناء المحافظة بل أبناء البلد في اتجاهات احتراب وتقسيم لا باتجاهات  خيارات صيغ إدارية مناسبة للعمل والعيش في إطار الدولة.. إنهم يتحدثون عن أقلمة العراق [صنع أقاليم] من دون إعداد الوعي الكافي لبنى الأقاليم الإدارية الجغرافية، ما يوقع في هاوية تمكين روح التمزيق الطائفي السائدة اليوم في البلاد من رقاب الشعب ليضعهم في مجابهة عدائية انقسامية  وهي خطوات عجلى باتجاه كوارث الاحتراب والهزيمة التي يتشظى فيها البلد بين إقطاعات يحكمها اقطاعيون جدد بأردية جديدة..

إن لكل محافظة وأهلها حقوق في كل الميادين الحياتية والعراقيون اليوم  وبشكل متساو، تتحكم بهم أزمة فشل الحكومة الاتحادية في الإدارة وفي رسم برامج التنمية وتلبية المطالب الحيوية الدنيا للعيش الكريم. لكن بديلهم للخلاص من هذا الاستغلال الموزع عليهم بالتساوي لا يكمن في التشظي ولا في درجة الابتعاد عن المركز (الاتحادي) والانفصام عنه، بل يكمن في المساهمة الجدية الموحدة في تغييره واستبدال نهجه وخططه ومعالجة أمراضه...

إن فلسفة الهروب إلى الأمام ربما تعطي شكليا مظهريا صورة للحل؛ ولكنها في جوهرها تستشرف الوصول إلى هاوية الهزيمة التاريخية ومحو الوجود الوطني من الخارطة لزمن لا يعلم أحد مداه إذا ما بدأنا السير باتجاهه..

وفي حقيقة الأمر تُزايد (قوى) في الحكومة الاتحادية وتتحدث عن الوحدة الوطنية لفظيا وترفض مقترحات الأقاليم فيما هي عمليا فعليا عملت على الدفع نحو هذا بإرادة وتخطيط ومن دونهما، وذلك كله لخطل السياسات التي عملت بها تلك القوى التي جسدت جوهر الفكر الطائفي المتخلف.. إن تلك القوى تلعب بالنار بما رسمته لمسار البلاد والعباد!

والبديل، الحقيقي هو عدم الإذعان لمطلقات من يتحكم بالقرار مركزيا فحيثما فشل يمكن تغييره ديموقراطيا.. فالدستور تحدث عن الديموقراطية وآلياتها مثلما تحدث عن الفديرالية التي ربما لم يستكمل الوضوح المناسب في محدداتها.. وإذا كان الوعي السياسي القانوني لم يكتمل في النظر إلى آليات الديموقراطية وممارستها فكيف بنا نتجه إلى مفردات خيارات تحف بها مزالق ومخاطر جمة في توقيت تنفيذها؟  ونحن متأكدون من عدم جاهزية الأوضاع لممارستها بل اكفهرار الأوضاع بما يستغل هذه الاستخدامات باتجاهات معاكسة لتطلعات من أطلقها بحسن النية والطيبة وحسن النية وحدهما لا يكفيان في العمل السياسي...

لقد شخصت القوى التنويرية الواعية في البلاد أن الحل يكمن في إعداد قانوني ناضج وصائب لانتخابات نزيهة وفي تبني حكومة عمل وبناء حكومة تكنوقراط فعليا لا واجهة أخرى جديدة تمثل أحزابا وسياساتها المعبرة عن الكهنوت السياسي وطائفيته المقيتة التي عانى منها الشعب بمشاغلة الدولة ومؤسساتها بضيق الأفق وبالصراعات التي نكبت البلاد بكوارثها...

إنّ رأي رجل الدولة الحكيم الحصيف يقوم على إكمال شروط الإعداد للإحصاء السكاني ولتفريغ لجان ((متخصصة)) لإعداد قانون الأحزاب والانتخابات على أسس الدولة المدنية لا خارجها، وعرضه على الاستفتاء الشعبي أو إقراره برلمانيا في سقف زمني لا يبتعد عن سقف الأشهر المعدودة وتشكيل هيأة انتخابات مستقلة حقا ومهنية حقا ومن ثم منح القضاء بعده المهني الحقيقي ليمارس الدور في إجراء انتخابات تأتي بالبديل الذي يؤمِّن:

1.       إلغاء نتائج السياسة الطائفية في المجالات الحزبية والحكومية؛ المحاصصة مثلا، وهذا تسبقه تطبيقات في الأداء عبر صياغة القوانين المهيئة للانتخابات الحقيقية النوعية التي تأتي بالخيار الشعبي ديموقراطيا وليس على مقاس تفصيلات مخطط لها من قوى تتحكم بالسلطة والمال..

2.       وضع برامج جدية فاعلة بمستويي الأمن الوطني والجيش وأدوارهما وحظر الميليشيات وأشكال السلاح خارج إطار الدولة.. مع تخليصهما من الاختراقات بكل أشكالها وأولها مرجعية منتسبيها لإدارة وظيفية مهنية سليمة لا لجهات خارجها، وإعمال القانون بهذا الشأن...

3.       إطلاق عمليات إعمار البلاد بخطط استراتيجية تركز على البنى التحتية والأمور الخدمية وفي مجالات الكهرباء، الصحة، التعليم، البيئة، المياه والزراعة، الصناعات الثقيلة والتحويلية بما يتلائم ومطالب الشعب وحاجاته الفعلية...

4.       إطلاق الحريات وحماية الحقوق وصيانة التنوع القومي والديني المذهبي ورعاية جميع المكونات والأطياف على أساسين فردي (المواطنة) وجمعي (الهويات المخصوصة قوميا دينيا ثقافيا) بالموازنة بينهما على أسس قانونية دستورية.. والعمل على إزالة كل مخلفات فلسفة الطائفية والاحتراب الذي خلقته وانعدام الثقة والحساسيات وتحديدا هنا تسخير أجهزة في الدولة لأعمال انتقامية لا قانونية أدت ودفعت إلى بديل الهروب باتجاه تأسيس إقليم، وهو ليس حلا كما قرأنا هنا...

 

إنّ تهيئة الأرض بعناصرها الموضوعية العامة والوعي الذاتي تحديدا يمكن في ضوئه أن نتحدث عن أشكال وخيارات جديدة في الإدارة.. إذ الوضع الأزموي لأي بلد يدعوه للتخطيط الموحد المركزي وربما التنفيذ اللامركزي مع آليات مناسبة للمراقبة والمتابعة بما يضمن سلامة المسيرة لتلبية خطواتها.. ونحن نشاهد ونعرف يقينا حجم الفساد في اللامركزية التي حملتها مجالس المحافظات وأجهزتها والمشكلة ليست في الحكومة الاتحادية وفي المركزية  لوحدها بل في النظام المستخدم وفي الخطط وفي من ينهض بها...

إنّ صلاحيات المحافظات اليوم تفي بما يطالب به دعاة الأقاليم من جهة اللامركزية بينما المشاكل السائدة ومعاناة الناس تكمن في أخطاء فاحشة بحق القانون وسيادته وبحق المواطنين ومطالبهم وبحق البلاد وحاجتها في إطلاق إعادة الأعمار بعد ثمان سنوات من فرهود الطائفية الفساد الإرهاب..

فهل سيعلو صوت المواطن ويأخذ زمام المبادرة ويوقف من يتاجرون به سواء ممن وقف مع الدعوة لإنشاء أقاليم أم من وقف ضدها وكل لحساباته الخاصة؟