حركة الثقافة العراقية وبعض مجريات أوضاع المثقفين؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           30\01\2008

tayseer54@hotmail.com

 

 

عُرِف العراق بأنه موئل الكتاب وسوقه، إذ أنَّ العراقي شغوف بالقراءة حتى لم تكفِهِ مطابعه وإنتاجها، وهو أساسا لا يكتفي بمنتجه المعرفي على الرغم من تنوعه بل اتجه دائما لقراءة النتاج الثقافي الإنساني ما جعل المكتبة العراقية غنية دائما ممتلئة الرفوف بأنواع الكتب الصادرة في محيطه الإقليمي القريب والدولي البعيد...

وليس غريبا على العراقي بأطيافه ولغاته القومية المتعددة مثل هذا الأمر فهو سليل أجيال أسَّست أول مدرسة وكتبت أول حرف وبَنَت أول مكتبة وكانت عاصمة عالمية للمعرفة حيث زمن دار الحكمة والجامعة المستنصرية..

ولقد اعتنى العراقيون بسوق الكتب وبمكتباتهم العامة والخاصة والشخصية.. لكنَّ ذلك لم يكن إلا مفردة بين مفردات حركة الثقافة لديهم.. إذ أنَّ أسس حركة الثقافة موجودة في عناية الأسرة العراقية بإرسال أبنائها وبناتها إلى المدرسة وهي الأسرة التي توفر من قوتها البسيط بنزره اليسير نسبة مميزة لشراء الكتاب.. وهي الأسرة ذاتها التي تنقل جينات الموروث الثقافي الثرّ للأجيال الجديدة...

وكان لهذا الاتساع والاهتمام الشعبي الكبير بالثقافة نتائجه في تصدّر عمالقة المعرفة العلمية والأدبية ونتاج الثقافة إقليميا وإنسانيا.. فمن منّا لا يعرف عبدالجبار عبدالله العراقي بنتاجه العلمي وهو الصابئي المندائي المتنور الذي ظل يحتفي بعراقيته وسمو روحه الوطني هلى كل السمات الأخرى لمفردات هويته؛  ومن منّا لا يعرف عبدالله كوران العراقي بنتاجه الشعري الكوردي الخالد أو محمد مهدي الجواهري العراقي بنتاجه الشعري العربي الغزير الخالد.. وكلاهما يرفعان رايات العراق واسمه عاليا...

والثقافة ممثلة بنتاج أدبي أو معرفي أو بموروث القيم والتقاليد البناءة بهويتها الشعبية تظل سمة لأنسنة أنشطة البشرية ورقيِّها وسموها بمنطقها العقلي التنويري ومُثُله الجمعية المشتركة التي تُعلي من الوجود الاجتماعي للإنسان من دون أنْ تُهمل أو تغفل وجوده الفردي المبدع والمندمج بالجماعة البشرية...

إذن، لقد احتفى العراقيون بالثقافة إكراما لمنطقها التنويري وإعلائها للعقل وإنتاجه وأثره في توجيه السلوك الاجتماعي بأوسع قيمه.. وبات المجتمع العراقي يُكرم مثقفيه وينزلهم المنزلة العليا منتظرا دوما أنْ يعود ذلك عليه بالصحة وبمعالجة معضلاته ورسم الخطوط الاستراتيجية الكبرى لمسيرته وهويته...

ولم يكن لوجاهة في المجتمع العراقي أنْ تتقدم على وجاهة الحكيم فيهم أي المثقف صاحب رجاحة العقل وسعة المعرفة ورحابة الصدر وعظيم الخبرة... وذلكم يؤكد أهمية الردّ من جانب المثقف كما هي التقاليد الثقافية الرصينة لتاريخ الثقافة العراقية بعطاء جدي حقيقي ينطبع بلسما في كل مفاصل يوميات العراقي...

وبعد هذه الكلمات العجلى لابد من توكيد تلك المقولة التاريخية التي رأت في ديمومة انتصار الثقافة العراقية أيام سومر وآلاف سنين الشدائد التي كان العراق فيها ينكسر عسكريا ولكنه يغلب ثقافيا وينتصر لوجوده وهويته معاودا باستمرار مواصلة مسيرته بفضل تلك الخلفية أو ذياك الأساس الثقافي المتين...

فهل سينطبق هذا التاريخ وعراقته على حاضرنا ومستقبلنا؟ وهل حركة الثقافة العراقية ما زالت بخير وقادرة على مواصلة مسيرتها المخصوصة؟ وما إشكالاتها القائمة اليوم؟

ينبغي قبيل الإجابة عن مثل هذه الأسئلة أنْ نشير إلى أنَّ الثقافة الإنسانية في ظل مراحل نشأة المجتمع البشري انطبعت بالتنوع بحسب إمكانات الاتصال وطبيعة ذاك التفاعل والمتاح له بطريقة مباشرة وغير مباشرة.. فيما هي اليوم تمتاح من حالة التداخل والتقارب والاتصال المباشر بما يكفي للحديث عن الوحدة الإنسانية الكونية التامة في التنوع والاستقلال لكل هوية تمتلك فرصها للعطاء ذاتيا وموضوعيا...

ونحن نقرأ أوضاع المثقف العراقي، أسّ الثقافة العراقية، وهو في شتات المنافي يساهم بدوره المميز على أساس ما امتلكه من خلفية متينة وقادرة على العطاء والتأثير وهو كذلك نسبيا في الإطار المكاني العراقي بسبب من محاصرته بأدوات معاداة الثقافة وآليات اشتغالها...

إنَّ حركة الثقافة عامة والعراقية خاصة ليست منجزا شعريا على أهمية هذه المفردة وهي ليست منجزا معرفيا في ميدان تخصصي بعينه وهي ليست مفردات لعلم نفس أو اجتماع أو لعلم أدبي أو لظواهر سلوكية وأدائية اجتماعية بعينها بل هي كل ذلك مجتمعا...  

وعليه فما دام العراق وطنا يشيده (شعب) فلابد لهذا الشعب من نتاج ثقافي يطبع وجوده ومستويات عيشه وآليات حركته... كما ينبغي أن نؤمن بأنَّ مثقفي هذا الشعب يمتلكون الفعاليات والفاعلية في العطاء بمقدار ما يُتاح لهم من فرص العمل وفرص التقديم والعطاء...

ولأنَّ الشعوب لا تموت، ولأنَّ حركة عطائها الثقافي لا تنقطع.. فإنَّ لهذه المرحلة على أزمويتها وتراجيديتها فرصَ العطاء الثقافي بمعنى وجود العلائق الإنسانية الصحية الصحيحة والسلوكيات القويمة وإنْ تنَحَّتْ بفعل سيادة منطق الجور والظلم وعتيِّ سطوة الطغيان وقسوة العنف والمصادرة المسلحة للطبيعي في يوميات المواطن العراقي...

ألا ننظر إلى رسوخ العلاقة بين الإنسان العراقي ووطنه واسمه وهويته؟ ألا ننظر إلى ثبات العلائق الاجتماعية الوطنية على الرغم من عنف قوتين همجيتين وهول تخريبهما وتعرضهما لهذه العلائق: الإرهاب والطائفية؟ ألا ننظر إلى عمق جذور القيم السامية لوجود المجتمع العراقي موحدا معتزا بغناه في تنوعه وتعدديته.. وفي احترامه لمكوناته جمعية وفردية؟

لكن ما يطفو على السطح ليس بالضرورة هو ما يمثل السمة الجوهرية لوجود إنساني بعينه كما في العراق.. وإنما سبب ظهوره وسيادته إنَّما يكمن في فرصة العنف والقوة السلبية في السطو المؤقت على الحياة الإنسانية ومفرداتها إلى جانب وجود أمراض تصيب الثقافة وحركتها ومنتجيها مثلما تصيب الجراثيم الجسم بأمراض بعينها....

وللحقيقة لابد لنا من الاعتراف بوجود مثل هذه الأمراض في حياتنا الثقافية: حركةَ َ وشخوصا حقيقية ومعنوية [مثقفين ومبدعين وجمعيات وروابط ومنظمات].. وفي ضوء هذا الاعتراف سيمكن قراءة الوضع القائم بتفاصيل قدرات التقدم وعقبات التراجع والاحباط...

لقد انجلت يوميات العراقي البسيط عن ظروف قاسية من العنف وسطوة القوى المسلحة ما أدى إلى مشاغلته بالتهديد الخطير للآلة الجهنمية التي تستبيح حياته مهددةَ َ إياه وعائلته ومحيطه بالخراب والدمار المأساويين... وفي ظل مثل هذه الحال نجد العراقي يعاني في محاولاته  التشبث بأية قيمة من قيم الاستقرار الإنساني والبناء عليها لقيم العلائق الصحية المنتظرة..

ومن ذلك ما يخص تشبث العراقي بمكانة العلماء والحكماء  المثقفين فيه وإنزالهم منزلة التميّز على الرغم من غبار الراهن وهزات الواقع يوميا وفي كل ساعة بفعل متفجرات لا الموت الجسدي لأبناء العراق بل والخراب الروحي..

إذ من أين يمكن للعين البحث في جماليات القبح مضافا عليها تراجيديا العنف الدموي التي تستبيح الجسد بعدد ولكنها في الحقيقة تستبيح الروح بأعداد مضاعفة ومفتوحة على ما لا نهاية أي حتى منتهى الوجود الكامل للعراقيين...

هذه واحدة من أخطر عراقيل أو عقبات الحياة الثقافية.. وكل ما هو موجود بالفعل ليس سوى تشبث ببقايا صور استعدادا لانبعاث قابل مجددا وولادة حيوية تالية. إذ لا تعايش بين الثقافة واللا- استقرار وما يمكن أن نسميه تجاوزا ثقافة العنف والدم والجريمة هو توكيد لحقيقة انتفاء قيم إنسانية صادقة تعتمد خطاب الثقافة...

إنَّ الذي يجري هو تشويه متعمد وضرب لحركة الثقافة وعطائها وإمكان مواصلتها مسيرتها، طبعا لمصلحة طغيان لا تهمّه  إلا مصالحه الخاصة بالمطلق.. في سابقة للعودة لزمن العبودية بطريقة أبشع...

فما التشوهات التي نرصدها في حركة الثقافة العراقية؟ وما العقبات التي تنال من مثقفينا؟

إنَّ أخطر تلك التشوهات هي تلك المتعلقة بمفاهيم دخلت حركة الثقافة والثقافة نفسها من بوابة زمن طويل من السحق وعقود من الهيمنة لفلسفة المصادرة والاستلاب ومن ثمَّ رؤى لتفريغ الثقافة من جوهرها الإنساني وتسطيحها وجعلها تتناغم ورغبات مرضية لطبقة تحكمت بالحياة العامة وبيوميات الناس فدفعت بكل بهرجة وتطبيل وأشغال الإبهار الشكلاني لتمثل التناول الذي طفا وسيطر على المشهد الثقافي بعامة..

وإذا كنّا نؤكد أنَّ ذلك لم يلغِ الثقافة الحقيقية وجوهرها على الرغم من تحييدها وتنحيتها ووضعها على أرصفة التهميش.. فإنَّنا في الوقت ذاته نعترف بسيادة السطحي والمرضي المشوّه وبروزه بكل ما لهذا المشهد من آثار سلبية خطيرة..

ويمكننا هنا أنْ نرصدَ خطاب الفردنة والشللية والاصطراعات بين موضات وأشكال طارئة وتنافسا محتدما بين تلك الأطراف على أسس سباق مادي رخيص، لا يلتفت إلى \ ولا يهتم بـِــ الجوهري لمادة الثقافة الإنسانية من قيم روحية ومنطق عقلي موضوعي يستهدف الجمعي والفردي بطريقة متزنة صحيحة..

وفي ظل هذا المشهد تحديدا تظهر حالة تقديم خطابات دخيلة على الخطاب الثقافي نظرا لتسطيح هذا الخطاب وتفريغه من جوهره ومحتواه وتطغى آليات الخطابات الدخيلة على آليات الخطاب الثقافي مغيِّبة ذلك أو مهمِّشة حتى لا نرى من ممارسات حركة الثقافة إلا ممارسات داخلة في الخطابات الأخرى وآلياتها كما هو حال تغليب السياسي على الثقافي بوعي أو من دونه وبمعرفة أو من دونها وهو الأمر الذي لا يُتاح راهنيا فرصة معالجته جذريا.. بل نعيش آلامه وجراحه الفاغرة وتداعياته بمزيد من الاحباطات والتفتقات المرضية...

وإذا سألني سائل عن سرّ طغيان السياسي على الثقافي فإنني أقول: إنَّ ذلك يعود لقرب السياسي من المباشر ومن الإجرائي والعملي التطبيقي في يوميات الإنسان العادي منه إلى بُعد الثقافي عن العملانية الإجرائية ودخوله في التنظيري الفلسفي فضلا عن حاجة فرص نتائجه لمديات زمنية بعيدة قبل أن تبدو متمظهرة في شكل سلوكي أو عادة أو تقليد أو شعيرة أو ما شابه...

فالثقافة ليست قرارا إداريا ولا تخضع لمثل هذه الأمور الإجرائية؛ وحركة الثقافة محكومة بحركة المجتمع البشري وعوامل فاعليته أو تلكؤه وعرقلته وما يكتنفه من ثغرات... وفي ضوء ذلك سنجد النتيجة في مجتمع جرت عملية تشويه القيم فيه متجهة نحو كفة التشويه أو واقعة في كفة الاستسهال من جهة وسمات الهروب فضلا عن خلط الأوراق والخطابات بطريقة غير موضوعية...

في مثل هذه الأجواء نلاحظ أن الجماعة الثقافية لا تظهر في ضوء جوهر إبداعي وقيم روحية عميقة بقدر ما تظهر على أسس لقاء شللي [من الشلّة أيّ الجماعة المرضية أو الطارئة] طارئ سرعان ما ينهار بالانتقال للممارسة الحياتية... وبدل من التعبير عن الجماعة التي تنسجم ومذهب أدبي أو فني أو فكري أو آلية أو طريقة للتعبير عن نشاط أو فعل إنساني عميق سنصطدم بشلّة لا جامع بينها إلا حالات من الادعاء أو المستهدفات العرضية المؤقتة.. وتلكم من عقبات حركة الثقافة وتنظيمها...

وهذه الأجواء هي بالضبط ما تحتوي على فردنة الأمور وظهور الحساسيات المرضية ونوازع الاختلاف والتشظي والتقاطعات والاصطدامات التناقضية بين أغراض الأفراد وتطلعاتهم ورغباتهم ومواقفهم الشخصية في الأنشطة والعلاقات  وهذا ما ينعكس سلبا على تطور العلاقات الاجتماعية واستقرارها وعلى توافر أجواء تطور الحياة الروحية الثقافية...

فيما يكون من الطبيعي أن تميل حركة الثقافة لتشكيل أطر تنظيمية مناسبة لها بسبب من العلاقة المكينة بين الثقافة والعمل الجمعي المنظم بوصفه العمل الأنسب للتعبير عن فعالية الخلق الثقافي، ولكنها لن تنجح في هذا من دون ضوابط ومحددات حضارية تتناسب والمستوى الراقي المميز لمعنى ثقافة ومن دون تجنّب ما أشرنا إليه من أمراض الشللية والفردنة أو الشخصنة المرضية في أغلب أحوالها...

ويمكن التمثيل لقضية محاولات العمل من أجل ولادة تنظيم للثقافة العراقية بصيغ الروابط والجمعيات والمؤسسات والبرلمانات والجماعات الثقافية بأية مناهج أو آليات عمل، فنجد أنَّ أغلب تلك المحاولات باءت بالنهايات السريعة والتوقف عن مواصلة المشوار حتى بات كثير ممن تابع تلك التجاريب في حالة إحباط وهلع من ولادة أية تجربة جديدة...

ونضيف هنا ظهور نتائج عرضية من نمط التشكك والظنية بالآخر الذي يواصل مشوار التحدي والمحاولة فيـَـصِل إلى موضع التأويل ومن ثم اتخاذ موقف خاطئ في ضوء المنطلق التأويلي المعوج الخاطئ.. وتتحطم علائق جدية وتنخلق حواجز تطفو منها حال التمزق ومشهد التشتت والتشرذم..

وبخلاصة القول فإنَّ مجموع تلك السمات المرضية متأتية من شتات جغرافي للمثقف العراقي وتوزع بيئة الحاضن الثقافي بين ثقافات تختلف تماما في خلفياتها القيمية وأشكال تمظهرها. كما أن الجاليات العراقية التي يتصل بها المثقف ومنتجه لم تستقر بعد بوصفها كيانا بهوية مخصوصة ويمكنها أن تتوجه لهذا المنتج أو تعقد الصلات معه...

إنَّ جملة الشروط المادية بالمعنى الواسع للمصطلح تظل عبر تشوهاتها غير قادرة عل توفير الحاضن المجتمعي لحركة ثقافية بالمستوى المميز نفسه للمثقف العراقي.. ومن هنا فإنَّ الثغرة أو المسافة بينهما تظل شاسعة بعيدة لا يمكن أن يتحقق في ظلها نجاح جدي منشود..

إنَّ العلاج المنتظر لن يكون إلا بكفالة علاقة متينة مع وطن مستقر الأوضاع ومنظمات وجمعيات ثقافية وطنية يدعمها واقع حافل بالعلائق الصحية الصائبة بين الشعب جمهورا للفعالية الثقافية ومنتجها القيمي..

وتطبيق هذه الحالة يكمن في فروع لحركة الثقافة وتجلياتها سواء تنظيما موحدا أو مستقلا مدعوما بما يكفي له لإدامة دورة الانتاج والإبداع في مجالات الثقافة كافة...

وكل ما عدا ذلك سيبقى عقبة تثير الإحباط واليأس أو في أفضل أحواله مجرد ومضة طارئة تمضي بلا نتائج ذات شأن وديمومة ما سيعني انقطاع مسيرة حركة الثقافة بهويتها العراقية.. وذلكم ما سيكون سابقة خطيرة أولى بعد تاريخ 10آلاف عام من العطاء!!!

 

ولهذه المقاربة متابعة مثلما يطلب كاتبها أولا: رؤى الآخرين في  أسئلة حركة الثقافة العراقية؟