الشيعة والسنّة وجود واحد

وإنْ تناحرت بعض قياداتهما أو اشتدت الهجمات عليهما

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  10 \07

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

عالجت في حلقة سابقة من بين ما تفرض الظروف معالجته قضية شائكة, كثيرا ما صارت كتابات اليوم تتدخل عليها فتنفخ في القرب المقطوعة محاولة توجيه دفة التناول نحو مصالح بعينها؛ أحيانا لا يكون من بينها أية مصلحة للبسطاء من أبناء شعبنا..

تلك هي قضية التنوع المذهبي التي يحولونها إلى عزلة طائفية على طريقة اللبننة أو على طريقة محاولة اجترار تكوينات دويلات الطوائف التي وُجِدت يوما كنقطة سوداء في تاريخ العرب المسلمين كما هو حال أواخر عهدهم في الأندلس؟!

وقد وردتني بعض التعليقات من مثل تلك التي تتحدث مشيدة بموقف "القيادات الشيعية" التقليدية منها (المرجعية) والجديدة (السياسية: مثل الصدر وحركته). ويسجل أصحاب تلك الردود تصورهم في إيجابية القيادة الشيعية فما بال القيادة السنّية لا تتخذ الموقف ذاته؟ وبذلك يحصرون الإشكالية في مواقف قيادات أو زعامات وحسب.. ثمَّ يؤسسون مواقفهم بناء على تلك المواقف (استنتاجا) لتبرير تقعيدات معجمية جديدة لمصطلح شيعة \ سنّة وللانطلاق في رحاب مطالبهم في دويلة شيعية أو ما شابه...

وأعود هنا للتذكير بأنَّ قراءة المصطلح المذهبي ينبغي أنْ نعود لتدقيقه من منشئه وحالة أو ظروف ولادته بوصفه هنا كينونة مذهبية جاءت بناء على تنوع اجتهادات المتبحرين المتخصصين في النص الديني الأول وما نجم عن الاجتهاد ليس التقسيم الطائفي الانعزالي وليس حالة من التناحر بين المجتهدين بل أصل الأمر هو محاولة تسهيل القراءة وتوضيحها..

وهكذا فلا علاقة لأمر الوجود الشيعي السني بعزلة وانفصال وتشطير أو تقسيم تناحري كما يصوره كتبة الزمن الذين لم يقرأ كثير منهم كتبا في التاريخ ولا نقول في الحجة الفلسفية الفكرية! وهكذا كان ولوج بعض الأقلام عالم التنظير والكتابة وفسحة الأنترنت التي وفرت لهم الظهور بوصفهم "كتّابا" ومحلليين أدى ذلك إلى خلط الأوراق وظهور فتاوى من نمط إقامة الدولة الشيعية المنفصلة المنعزلة في الجنوب العراقي لا رجاحة لعقل أطلقها ولا خبرة..

وحاول أصحاب المشروع تطويع لا كتابات زعران السياسة الجدد بل وأسلحة الرصاص وأسياف القتل ومتفجرات مطاردة كل مَن سيكون عقبة في طريق التقسيم فطاردوا المسيحيين في مدن الجنوب العراقي ويطاردون الصابئة المندائيين وبالتأكيد سيفرضون الجزية على "السنّة" في سابقة التكفير والتهجير الجديدة, لتقوم دويلة طائفية  ولو على بحار من دم بعد أن كان أسلافهم أقاموا دولتهم على جماجم بشرية كما نعرف عن دولة البعث العفلقية الصدامية!!!

والأخطر في الأمر اليوم هو في وضع  ينبري فيه بعض أصحاب الخلفية الفلسفية الفكرية والخبرة السياسية لتبرير ما يُصار إليه في غفلة من الزمن.. كما هو حال الرسائل التي وردتني مهاجمة ما تسميه "المرجعية السنية" أو "القيادات السنية" وتبني على ذلك مهاجمة "الموقف السني" و "السنّة جميعا" باختلاق واضح للعزل الطائفي بين العراقيين وإصرار على ركوب جريمة التقسيم والتشطير!

والأمر بالمناسبة لا يقتصر على جهة بعض الكتبة من أدعياء الانتساب للشيعة أو تمثيلهم بل تشترك فيه أصوات تدعي سنيّتها انتسابا أو تمثيلا وهنا في الغالب نجد الأصابع أو الأصوات الخارجية التي تغذي الطرفين.. وما يكتبه العراقيون النجباء لا يقف مع طرف من هؤلاء لأنهما كلاهما ليسا ممن ينتسب إلى أي طرف عراقي أو يمثله ولأنهما لا يخدمان أي طرف عراقي الوجود...

فما يخدم العراقيين هو وحدتهم بالضد من تمزقهم وتشتتهم. وما يخدم العراقيين أنْ يقولوا كلمتهم اليوم بأنفسهم في تصويت حر مباشر لا نيابة فيه لزعامة أو قيادة فالعراقي من النضج بما لا يكون صائبا بالمرة أنْ يسلِّم صوته لآخر أو أنْ يترك لأحد أنْ يفكر عنه ويتخذ القرارات بالنيابة...

أما بخصوص مسألة القيادة السنية أو المرجعية السنية فهي أمر من الجهة الدينية لم يكن موجودا قطعا كما هو حال وجود المرجعية الدينية الشيعية وعليه فوجود هيأة أو لجنة أو تشكيل يزعم تمثيله السنّة هو من السخرية بما لا يقبل عاقل تصديقه إذ كيف تكون للسنة مرجعية والفكر السني يرفض فكرة المرجعية منذ وجوده الأول؟

ولو افترضنا بضرورة إيجاد مرجعية سنية دينية فإنَّ هذا لا يمكنه مصادرة الرأي وحرية التعبير السياسية والاجتماعية والاقتصادية لجهة كون الأمور الحياتية يُنظر إليها في الدول الحديثة من منظار القوانين المعاصرة المتمثلة في العقد الاجتماعي الذي ينص على حريات الأفراد وحقوقهم الإنسانية التامة ومن منظار المعارف والعلوم التي توصلت إليها البشرية عبر مئات السنين وليس من معالجات معارف ما قبل ألف عام أو مئات أو عشرات!!

ونحن هنا لا نتمنى على قيادة أن تبدل أثوابها ومصالحها التي وجدت من أجلها لأنها تمنيات ساذجة فلن ينقلب الثعبان ملاكا بتلك التمنيات ولكنه يمكن أن يتحول إلى تنين.. وعليه كان لابد من التوكيد على فصل السلطات الدينية عن الدولة ومؤسساتها وعلى فصل المعالجات الدينية الروحانية اللاهوتية المخصوصة عن الوجود الآدمي البشري الإنساني المخصوص...

فلا يمكن تلبية مطالب الحياة وحل مشكلاتها بالعودة إلى معالجات لاهوتية فلكل ميدانه وحقه من التناول. ولن نحل مشكلة فيزيائية بمعادلات كيميائية .. أسوق هذا حتى لا يكون المقصود إلغاء وجود الروحي الديني وهو حق للإنسان ممارسته من دون أن يتجاوز على الوجود الإنساني ويحد من الحريات والحقوق في إطاره.. وهذا ليس مبدأ من خارج الدين نفسه بل من داخله ومن إطاره ولم يقصّر النص الديني الأول عن الإشارة إلى الأمور الدنيوية بعيدا عن اللاهوت وموضوعاته وباستقلالية تحقق له قدرا من التناول الموضوعي...

أما في يومنا فأدعياء المرجعية ومن يقف وراءهم يستغلون وجودها (أي المرجعية) بوصفها قيادة دينية فيحاولون خلط الأوراق حتى يصادروا كل شئ وكل منطق عقلي وحكمة ورشاد لغايات لا علاقة لها لا بالدين وبمرجعيته الحقة ولا بالإنسان وبحقوقه الآدمية! ولذلك يجري التخفي وراء تصوير كون المظالم التي وقعت على أبناء جنوبنا العراقي  قد وقعت حسب قراءاتهم لكونهم شيعة فقط..

فإذا كان الأمر كذلك في دولة دينية سنية وُجدت قبل مئات السنين افتراضا فما علاقة ذاك بهذا اليوم؟ وهل السنّة مركب آدمي من الجريمة الظالمة للوجود الشيعي الخالص؟!! لا أساس من هذا التفكير ولا قيد شعرة من الصحة أو الصواب فيه لأن الواقع يؤكد تزاوجا اجتماعيا تاما مطلقا بين مسمى شيعة ومسمى سنّة وهناك اندماج كامل على الصعيد الحياتي بكل تفاصيله يصل الأمر اليوم حتى في التشارك في الطقوس من جهة الجوهر وحتى يشمل بعض الشكليات..

إنَّ السني في وسط العراق أو في جنوبه ليس مسؤولا عن سياسات من يزعمون قيادته وتمثيله مثلما نثق بقوة بأن الشيعي ليس مسؤولا عن أخطاء قيادته أو من يسمي نفسه ناطقا باسمهم...  والعراقيون جميعا شيعة وسنة يؤمنون بوحدتهم وما يقلقهم أن تستطيع أسلحة الموت أنْ تشطرهم وتُنشئ بينهم حواجز لا يستطيعون عبورها إلا بتعريض أنفسهم لرصاص الهمجية المعادي لوجودهم ولوجود أبنائهم..

من هنا كان علينا سويا ألا نقف سلبيين في التعامل مع ما يصاغ لنا في الخفاء بل وفي العلن اليوم بشكل سافر.. ومن هنا كان علينا أن نعلن أصواتنا من قضية التشطير والتقسيم وزعزعة الوجود العراقي في أحسن الأحوال بما يسمى فديرالية الشيعة أي إقامة فديرالية على أسس طائفية هلامية لا أساس لها لولا سابقة فيها ولا منطق لتشكيلها سوى التحضير لمشكلات خطيرة مضمرة في طيات تلك المشاريع..

وعلينا اليوم ألا نمنح أصواتنا للتشكيلات الطائفية في برامجها وفي فكرها لأن الوجود العراقي الذي يفسح المجال لتكوينات تشطيرية سيحفر لنفسه قبره بيده.. فلا صحة ولا شرعية لوجود أحزاب طائفية في دولة عصرية ولا مجال لقوى تعود بنا إلى الوراء مئات بل آلاف السنين في مخادعة صريحة لشعبنا وغش مفضوح  بالقول إنهم يمثلون الأغلبية ..

الأغلبية في طقس أو عبادة أو دين أو مذهب لا علاقة لها بالأغلبية في برامج بناء البلاد وتقديم الخدمات الإنسانية للشعب وإعمار الحياة البشرية.. ومما يجب اليوم الأخذ به هو دعوة كل فرد كل عراقي منا ليقول كلمته: هل يقبل التضحية باسمه العراقي؟ هل يقبل التضحية بأخيه؟ هل يقبل بتشطير بلاده وتدميرها وفناءها الأخير؟ هل يقبل عراقي ضرب أخيه بحجة طائفية أو بأية حجة أخرى؟ هل يقبل محو هوينه التي تحميه في عالم من الصراعات وتلاطم المصالح؟

هل يجد العراقي من الجنوب أو الوسط مصالحه في تقسيم البلاد؟ ألا يرى في ذلك وضع نفسه في خدمة أسياد لن يمنحوه فرصة العيش الآمن المستقر هو وأحفاده وإلى أبد الآبدين؟ هل يريد عراقي أن يكون كأولئك الذين أقاموا دويلات الطوائف التي أودت ببلداننا في رحلة ظلام دامت مئات السنين؟ وما أن نحاول افتتاح أو بدء زمن جديد حتى يعودوا بنا إلى نقطة ما قبل الصفر؟

هل يقبل عراقي شيعي أو سني أن يضع نفسه في كفة الدمار لأن القيادات الحزبية غير متوافقة المصالح والبرامج والسياسات؟ هل يمنح لهؤلاء صوته لكي يتجهوا به إلى جحيم الموت والفناء؟ هل نحن محكومون ببرامج الأحزاب الطائفية؟ ألم يقم أدعياء تمثيل السنة كرد فعل لوجود مرجعية سياسية تدعي تمثيل الشيعة وكلاهما من طينة الوجود الطائفي العزلوي الانفصالي؟

لا الفعل ولا رد الفعل بصحيح أو صائب.. الصحيح الوحيد هو ما يخدم العراقيين بلا تشطير ولا تقسيم حيث الزمن يمضي باتجاه التكتلات الكبرى لا التناحرات الممزِّقة للكيانات الموحدة التي مضى على وجودها دهورا.. ولو كان من مصلحة طرف مثل هذا التقسيم لكان هذا أدعى للموافقة فالإنسان قبل الأرض وسيادته على الأرض قبل سيادتها عليه وما يوجد في زمن يمكن أن يوجد غيره في زمن آخر وظرف آخر..

ولكننا مرة أخرى نشدد على أن الزمن يمضي إلى الأمام وليس إلى الخلف وما يمضي بنا إلى الخلف يضعنا تحت مقصلة العذاب في أقل تقدير وليس بعيدا أنه يضعنا على سكة الزوال في مداه الأبعد...

وللحوار بقية ولكنني قبل أن أغلق هذه الحلقة منه أذكِّر بموقف الشيعة والسنّة من أبناء عراقنا الواحد يوم رفعوا شعار لا شيعية ولا سنية بل وحدة وطنية في إشارة إلى وحدة أبعد من الديانة, في عراق الجميع, عراق العراقيين كافة من مسيحيين وصابئة وأيزيديين ويهود وشبك ومن كلدان وسريان وأرمن ومن كرد وعرب وتركمان... 

 

خاص بموقع الكاتب العراقيwww.iraqiwriter.com