جرائم ضد الكنائس.. جرائم ضد المسيحيين

هي جرائم ضد الشعب العراقي كله!؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  08 \  04

E-MAIL:  t.alalousi@chello.nl

 

بالأمس صعَّد المجرمون من إرهابيي التطرف الإسلاموي ومن بقايا البعثفاشية المهزومين وخلايا قاعدة الشر ومعاداة القيم الإنسانية من حربهم الدموية, حرب التدمير والتقتيل ضد أمن بلاد السلام والحرية؛ نافثين سموم الحقد وأمراضهم ضد  شعب التحضر والوئام والتسامح..

فاستهدفوا أماكن عبادة ومقدسات دينية [كنائس الرحمة والخير] في أعز أوقات زيارتها, ذلك في وقت الصلاة والدعاء والتعبد.. محاولين بذلك إيقاع أكبر عدد من الضحايا من الخاشعين لسمو وصايا ديانة السلام والمحبة والتسامح والإخاء.. وليس بخافِ ِ على أحد المعاني المرادة من وراء مثل هكذا جريمة..

فغير إيقاع الأذى المرضي المُرسل مع أحقادهم ومع فتك ساديتهم وموبوء أفعالهم يستهدفون مزيدا من تهجير قسري لمسيحيي العراق ومزيد من ترويع وإرعاب ومزيد من محاولات الإيقاع بين مسيحيي العراق الذين قدموا على مرّ التاريخ أعمق التضحيات إخلاصا ووفاء لانتمائهم لبلادهم ووطنهم وشعبهم وحضارة أشادوها عبر آلاف من السنين..

كما استهدفت تلك الهجمات الإجرامية محاولات أخرى جديدة مضافة للإيقاع بين أبناء الوطن الواحد ومحاولة شق صف العراقيين الذي بقي راسخ الجذور عميقها ضارب الوحدة متينها.. عبر تماسك كل أطياف عراقنا القديم وعراقنا المعاصر وعراق اليوم والغد..

إنَّ الوحدة الإسلامية المسيحية ليست بنت اليوم أو حتى الأمس القريب بل هي جزء من تعاليم الرسالة الدينية السمحاء . ومعروف الوصايا والأحاديث النبوية الشريفة في نصارى المدن التي انطلق منها وفيها الإسلام ومعروف تعاضد الديانتين والحوارات الموضوعية الدائرة على مستوى العلاقات الودية وتنقية أجواء الحياة الإنسانية.. كما نعرف أيضا مواقف الكنائس والبابا والبطاركة والمرجعيات المسيحية العليا التي شددت دوما على مصالح العراق العليا ومناصرة شعبنا في كل محنه وأيامه..

وبعد ذلك يأتي جهلة زمننا وأوباشه ومجرموه ليسوقوا العراق إلى تفتيت وحدته وفك عرى تعاضد أبنائه وتماسكهم!! لن يكون هذا ولن تنطلي على أبناء الحضارة والتفتح والتآخي والسلام كل المحاولات الإجرامية ولكن الضرب في القلب سيزيد متانة وحدتنا وتضامننا من أجل إنهاء الجريمة ومسببيها..

إنَّ عراق اليوم العراق الجديد هو عراق تعددي تداولي يتكامل فيه العراقيون ويتفاعلون فيما بينهم.. وهو عراق ديموقراطي يُعنى بضمان الحريات الدينية مثل جميع الحريات الأخرى وهو يضع حقوق العراقيين في قائمة عليا بل على رأس أولوياته.. وأساس وجود سلطته الجديدة ومهام قواه السياسية ومرجعياته الدينية يكمن في ضمان حق التنوع والوجود العراقي بخيارات مستقلة تستحق ممارسة وجودها كاملا في منطلق واضح من الخصوصية لكل جماعة أو تيار أو ديانة أو حو فكر أو حزب أو جمعية..

وهذا الواجب يعني الوقوف الثابت ضد مجرمي زمننا من المرضى الساديين ومن الانتحاريين الجهلة الضلايين الظلاميين.. ويعني تشديد التكاتف وحماية أمن الوطن والمواطن وأولهم العراقيون المستهدفون على رأس قائمة الاستهداف الذي كتبه المجرمون القتلة في أجندتهم, أي مسيحيو العراق..

هنا لابد من تشديد الحماية لمسيحيي العراقي بخاصة في أماكن العبادة والعمل حيث الاستهداف .. وإلا فنحن أمام مزيد من دماء أخوتنا وأشقائنا أبناء بلادنا وهو ما لا يمكن السكوت عليه أو التماهل فيه.

إن إشكالية معالجة الوجود المسيحي ليست قضية دينية بحتة أو سياسية بل هي قضية العدالة والمساواة في بلادنا وقضية توكيد توجهاتنا الديموقراطية الصميم واحترامنا ولادة عراق المبادئ الإنسانية السامية مبادئ حقوق الإنسان كاملة تامة.. ونحن هنا لا نتكرَّم من أغلبية على أقلية بل نؤكد مصداقية عيشنا في عراق دولة القانون .. عراق دولة التسامح والإخاء..

وعليه فإنَّ الرد المناسب هو تعزيز مشاركة جدية فاعلة يتمثل فيها مجموع مسيحيينا من الكلدان والآشوريين والسريان ومن الأرمن والأرثدوكس والكاثوليك والبروتستانت ومن كل الطوائف والمذاهب من دون أي استثناء أو إبعاد ومصادرة رأي ..

ونحن ملزمون بعهد منع أي استبعاد لحزب أو جمعية أو مجموعة لسبب ديني وهنا بالخصوص المكونات المسيحية وهي الأغلبية الكبرى المشاركة للأغلبية المسلمة ولن يضمن هذا إلا دستور علماني يحترم جميع المكونات بمساواة وعدل وإنصاف مطلق للحقوق..

وسيكون من الصائب العمل المباشر اليوم على مثل هذه المشاركة في المؤتمر الوطني العراقي القابل ولن يكون من العدل التلكؤ في الانتصاف للحق في مشاركة كل المجموعات المسيحية في القرار الوطني وفي رسم البرامج ومفردات المستقبل على نفس المستوى لجميع المكونات الأخرى ومن دون انتقاص ..

وهذا لن يكون إلا بالتوسع في العدد المقرر للمؤتمر بما يسمح بتوسيع المشاركة وبتوسيع النسب المحققة للعدل ولامساواة. ولعلنا في غير هذا نحتاج لقرار وطني عام في جميع الأحزاب الوطنية العلمانية وغيرها لتعزيز واضح ورصين لوجود العنصر المسيحي على جميع مستويات العمل التنظيمي..

وسيكون هذا مخصوصا بكل منظمات المجتمع المدني العراقي بخاصة منها النقابات والاتحادات العمالية والفلاحية والمهنية التخصصية القطاعية كالأدباء والمثقفين والمهندسين والاقتصاديين والحقوقيين وغيرهم.. ولعلنا في سباق مع الزمن ما يجعل من ردنا السريع المباشر بمستوى المسؤولية المرتجاة والمنتظرة من تلك الفعاليات الوطنية عامة..

ولعلنا نحتاج لتفعيل واجهة جدية مهمة هي الواجهة الإعلامية عبر فضائياتنا الوطنية العراقية العربية والكردية وتقديم العنصر المسيحي بوصفه مكونا أساسا من مكونات وجودنا الوطني العراقي.. بل من المهم أنْ تكون قنوات إعلامية كبرى بهويتها التي تقدم الكلدان والآشوريين والسريان والأرمن وغيرهم من كل تنوعات الطيف العراقي المسيحي تقديما صحيحا يرتقي لمساحة وجودهم المكين في عراقنا..

فهم ليسوا جزءا من تاريخنا بل هم جذور تاريخنا البعيد وهم أوائل وجود بلادنا ومؤسسي حضارتنا والعبرة ليست بالكم والعدد في التعامل مع القضية, وإلا فما بال كثرة كاثرة من الدول ليس تعدادها بمتجاوز بضع آلاف بل مئات معدودة , وليست العبرة بالكم في معالجة حقوق إنسان فكل طرف موجود بكامل حقوقه وتمامها وليس من حق طرف استلاب حرية إنسان وحقوقه الطبيعية لأي سبب كان..

إنَّ قضية الوجود المسيحي هي قضية عميقة الحفر في وجودنا الوطني شديدة الالتصاق ثابتته بوحدتنا وطنا وشعبا ولا مستقبل لعراقيّ ولا لعراقنا بغير وجودنا جميعا بغير استثناء في مركبنا الواحد وغدنا المشترك القائم على العدل والمساواة والإخاء..

من هنا كانت جرائم اليوم هي تصعيد ما قبل نهاية المجرمين إلى الأبد وإحلال السلم والحرية في ربوع بلادنا وشمول جميع عراقيينا وأولهم مسيحيو العراق بديموقراطية تامة نسعى لبنائها في عراقنا الجديد..

والعراقيون كافة لايكتفون بإدانة الجريمة ولا يكتفون بالقول في كون المصاب واحد والجرح فينا جميعا بل ينضوون في خط دفاع مشترك يتأسس على مؤتمر وطني ينعقد بالخصوص ليؤكد شعار الوحدة الوطنية القائمة على مساواة جميع أطراف شعبنا ومكوناته ومشاركتهم بعدل وإنصاف في إدارة مسيرة بلادنا على المستويات التشريعية والتنفيذية والقضائية ..

فهل نحن فاعلون ومتقدمون للرد بمستوى الهجمة التي جرت وبمستوى يحسم الجريمة واستمرارها وتواصلها في التقتيل والتدمي؟ إنَّ المسؤولية تكمن فيما هو أبعد من تصريحات الرئاسات العراقية والوزراء .. إنها تكمن في الفعل القابل وفي نوعيته أو في الكيف الذي يحتمله الرد وتلك هي القضية وعلى كل قوى شعبنا العمل من أجل ذلك..

 

خاص بالمدى