حساسيات الماضي

والتأسيس للمجتمع المدني الجديد؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2004\  05 \10

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

 

قبيل أيام كتبت في بريد منظمة وطنية للمجتمع المدني وحقوق العراقيين عن قراءتي لخبر نشر جريدة طريق الشعب حول مادة تخصهم وكان ذلك في سياق محاولتي التأكيد على ضرورة متابعة النشر في الصحف العراقية المحلية الأخرى بغية توسيع قاعدة المنظمة ودورها التأسيسي لمؤسسات المجتمع المدني. ولكنَّني سرعان ما وجدت ردودا مليئة بالتحسس تجاه ذكر اسم جريدة الحزب الشيوعي وكأنَّه مسمار وخز أو استفز بعضنا.. وما يطمئنني أنني قلت لنفسي هناك التباس في الفهم بيننا ولا أجدني مضطرا لسجال بالخصوص..

ولكنَّ الأمر ذكرني بذياك التطيّر والقلق أو حتى الرعب الذي طالما عملت سلطات المصادرة والحظر [المنع] على إشاعته بين الناس حتى يجفل من ورود اسم الشيوعي أو أي اسم محظور آخر, أيّ مواطن خشية العقاب القاسي والنتائج المريعة الخطيرة الناجمة عن ذكر ذياك الاسم فكيف بنا ونحن نتحدث عن تعامل ما معه؟!

ومن عجب أنْ تمضي  شخوص بعينها أو جهات يُفترض أنَّها تؤسِّس لمجتمع مدني مجتمع السلم, وإزالة الرعب والمحظور, مجتمع التعددية والتنوع والديموقراطية؛ تمضي في طريق الحذر وإشاعة الخوف وإدامة التحسُّس حتى من مجرد ذكر اسم جريدة أو حزب أو ما شابه! وذلك في حقيقته وجوهره ينتمي إلى زمن خلق الرقيب الداخلي خشية الوقوع في أيِّ محظور لا ترغبه السلطة السياسية أو الاجتماعية أو الدينية أو غيرها وما أكثرها من سلطات مصادرة واستلاب في مجتمعات التخلف المريضة..

والمسألة لا تقف عند الخوف والقلق والعقوبة ولا حتى مسألة الرقيب الداخلي ولكنها تتعدى ذلك إلى إشكالية قبولنا بوجود الآخر من غير حساسيات [تصل حد العداء والبغضاء والتناحر والتقزز والقرف من الآخر] وفي هذه الحالة فإنَّ أبسط حالات القبول بالآخر ومن ثمَّ بالتداولية والتعددية ينبغي أنْ تبدأ من وقف حالات التحسس والتطيّر من التعامل مع وجود ذياك الآخر في حياتنا...

ولنبدأ أولا بالقوى والشخصيات السياسية التي تتوجه لإقامة المجتمع المدني ومؤسساته الديموقراطية التي لا يمكن أنْ يتمَّ تأسيسها إلا على أساس من التعامل مع الغير أو مع الآخر مع المختلف مع الحالة التي لا تتماثل معنا ولا تلتقي في الرؤى والأفكار والاعتقادات ولكنَّها بشريا, آدميا, إنسانيا تظل في كينونة واحدة وفوق ذلك يحيا الواحد وصنوه الآخر المختلف في بلاد واحدة وفي كيان سياسي إداري واحد..

 فتلك الشخصيات والقوى ينبغي لها من أجل هذا العيش المشترك أنْ تـُفرِد لقيم التعايش المشترك واجبات تترتب على المشترك مثلما تترتب حقوق للمختلف ومن ثمَّ تنازلات متبادلة تظل في حالة نسبية من الزيادة والنقصان بحسب حاجات المشترك والمختلف في ظل التعايش...

ومن أجل ذلك كان واجبا محو الحساسيات أولا بوصفها الشرارة النفسية لتقبل الآخر حيث لا يمكن أنْ نوجد راحتنا بالإعلان السياسي ونغفِل الاستعداد النفسي الذي يخضع للتأثير التربوي أولا وآخرا إذ سيكون من المناسب تربية الأجيال الجديدة على مسألة التقبل النفسي براحة واطمئنان وإيجابية توفر الأمان النفسي ومن ثمَّ تبادل الثقة بالعيش المشترك مع الآخر المختلف من دون أنْ يستلبنا هذا العيش المشترك فرصة الطمأنينة والأمان..

إنَّنا بحاجة لوأد أخير لروح انعدام الثقة وروح الاتهام والتخوين ونحن بحاجة لمغادرة فلسفة التقية ولبس الأقنعة وفلسفة التآمر وحياكة التحالفات والخطط المريضة من خلف كواليس قاعات التفاوض واللقاء مع الآخر أو من تحت طاولات التفاوض مع الآخر.. وبهذا يمكننا خلق المقدمات الجدية لإزالة الحساسيات التي أزمنت طويلا في تعاملاتنا لأسباب ليس من شأن هذا المقال التفصيل فيها ولكن من شأنه معالجة نتائجها المتمثلة في مرض التحسس والتطير من المغاير من الآخر...

ومن الطبيعي أنْ ينجح العمل من أجل تشكيل مؤسسات المجتمع المدني وأنْ تنجح أعمالها بفعالية وسرعة عالية وتأثير متعاظم ما استطعنا أنْ نزيل تلك الحساسيات التي توقف عجلة عمل مؤسسات المجتمع المدني.. وأول من يرد في هذه المعالجة هي أعضاء منظمة تسمي نفسها بأنها منظمة وطنية للمجتمع المدني وتعمل على تدريب العراقيين لقراءة حقوقهم والتعرف إليها في ظل العمل المؤسساتي لا في ظل الأحكام العرفية, أحكام التقاتل والتصارع والاحتكاكات وجوهرها الحساسيات المرضية...

وهنا كان مربط الفرس كما يقولون فلم تكن جملتي بشأن الإعلان عن جهة ولا بشأن ذكرها وتكريمها وهي تستحق ذلك ومع ذلك ظهرت الحساسية المشار إليها ومربط الفرس يكمن في التخلي عن نوازع الماضي وفي العيش في عالم التسامح وتقبل روح احترام الغير وقبول إيجابي للعيش المشترك معه من دون استثقال من دون ضغوط على الحالة النفسية الخاصة بذواتنا بل بارتياح تام ... فهل نستطيع تحقيق ذلك؟

الجواب بالإيجاب لأنَّ مهمة التنوير المعرفي والتربية الجديدة على الروح الديموقراطي التعددي التداولي وعلى التغاير في كل شئ في إطار وحدة العيش في وطن واحد وفي ظلال حدود جغرافية معلومة محددة,لأنَّ كل ذلك يجري العمل به بفعالية جدية من المتنورين وهم لم يتخلوا عن أبناء الشعب الذين ينتظرون تحقيق مؤسسات المجتمع المدني والتعاطي مع أصولها ومبادئها والتفاعل مع تصوراتها إيجابيا ...

إنَّ الأرضية الشعبية العراقية صالحة تماما لمثل هذا الاتجاه وعلى الرغم من طائفية بعض الأحزاب ومن ثمَّ ما تفتعله الحساسيات الطائفية وعلى الرغم من شوفينية وعنصرية بعض الأحزاب القومية وما تفتعله من الحساسيات القومية وعلى الرغم من ضيق أفق بعض القوى وما تفتعله من أيّ حساسية أخرى إلا أنَّ الطابع العام للمواطن العراقي ومنطقه العقلي يظل طابعا بعيدا عن الحساسيات وسريع التقبل للعمل المؤسساتي النوعي الديموقراطي الذي يحترم فيه الآخر بل العراقي في حالة من الاندماج والتوحد والتعاطي مع الآخر بقوة تداخل إيجابي بنّاء..

 وكل ما في الأمر أنَّ مؤسسات المجتمع المدني ومنظماته ينبغي لها أنْ تفعِّل نشاطها في ميدان القوى الحزبية والتجمعات التنظيمية الاجتماعية الوليدة الجديدة  والأخرى القديمة بما يخدم تعاطيها مع القانون المدني الديموقراطي فرضا وقبولا حتى تتعايش سلميا وبحالة من الرضى النفسي عبر مسيرة تربوية تطول أو تقصر بحسب  توفيق تلك القوى في ضبط أعضائها وفي غشاعة مبادئ التسامح وانتزاع فلسفة الثار والغيرة والتنافس السلبي أو بكلمة أخرى محو الحساسية في التعامل مع الآخر... وتلك هي لب أو جوهر التوجهات للمجتمع المدني الصحيح...

 

خاص بالبرلمان العراقي www.irqparliament.com